الفأرُ الطباخ: رسالة حب للفنِّ والفنانين

April 16, 2023

«الفأر الطباخ».

أفلام الكرتون بالتأكيد ليست نوعيَّة أكثر من كونها أسلوب تناولٍ، ولكلّ قصة عشرات الطُّرق لصناعتها، لكن في رأيي ما يجعل اختيار الرسوم المتحركة ضروريًا في بعضها هو حدود الخيال في القصة، كقصة ريمي مثلًا، التي لم تكن لتُصنع بأي شكل إلا بأن تُرسم، فلو جرَّدنا القصة من رمزيتها فسنجد أن طبقتها الأولى ببساطة شديدةٍ هي عن «فأر»، يمتلك موهبة الطَّهي! يُصادق إنسانًا ويمارس هوايته من تحت قُبَّعة فوق رأسه، خيال مُطلق يلزَم أن يُرسم قبل ربطه برمزِه الذي يجعل للقصةِ معنى بالفعل. السيناريو هنا شديد الذكاء وذلك في فهم الأنماط وتطوير القصة بالتوازي مع تطوير الطَّبقات المُتعلِّقة  بأفكار الفيلم عن الفن والفنانين ورسالة الحب الخاَّصة به.

«فن الطهي»:

يحكِي «راتاتاوي» (Ratatouille- 2007) عن الطهي بوصفِه فنًّا. تخيل أن نمزُج جميع الأطعمة الخلابة في العالم، لينتِج عن ذلك احتمالات لانهائية من الأعمال الفنية القيّمة. على غرار تنوُّعه بالأطعمة المختلفة، يستعين فيلمنا بأنماط متعددةٍ في كتابته، فنحنُ أمام قصة أشبه بقصص أفلام بلوغ سنِّ الرُّشد عن الشغف والأحلام ممزوجةٍ بنشأة صداقةٍ استثنائيَّة تبدأ من احتياج كل من طرفي العلاقة للآخر بعدما تلاقوا بفعل الصُّدفة والقدر، إلى جانب قصة علاقةٍ عاطفية، وصِراع الابن والأب حول تصوُّراتهما الفلسفية عن الحياة ومعناها وكيف ينبغي أن تُعاش، وصِراع هوية وانتماء مرتبطٍ بشعور الفنان بالانفصال عن واقعه ومَن حولِه وفشله في أن ينتمي إلى أي شيء. كل ذلك أنماط كتابية تقليدية ولكنها لا تتوقف عن التجدُّد والتطوُّر، ويقف كل مبدع أمامها ليصنع شيئاً خاصًّا به، من خلال مزج كل الأنماط الإبداعية التي لاحظها بوعيٍ تامٍّ أو كانت تقبعُ في عقله الباطن دون أن يدركها. ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل يتحرك بذاتيَّة التجربة وصدقها، ولقِصة وتجربة كل فنان خصوصيةٍ وفرادةٍ ولو تشابهت مع غيرها، ذلك لأنه يأخذ شيئًا من روحه ويصُوغه في أجمل لغةٍ للتعبير وجَدهَا البشر.

«ريمي: الفأر الطباخ».

فئران، ربما بشكلِ ما، تحت الأرض، يتطلَّعون لواقع أسمَى، مُحمَّلين بتشتتٍ دائم في بحثهم عن هويتهم وما يعبرون عنه. ريمي مُحاطًا بين كونه فأرًا أو فنانًا ويكتشف في النهاية أنه كلاهما، ولا يعبِّر عن نفسه فقط ولكنه يعبِّر عن ثقافته ولو لم يقبلها المتذوقون الآن، مدفوعًا بشغفه الحيِّ للفن وحاجته المُلحَّة في الوجود.

«جوستاف: ملهم ريمي».

ملهمون ساهموا بشكلٍ كبيرٍ في أن تُولد تلك النزعة الخالدة التي يستحيل محوهَا من داخله ليصنع فنه الخاصَّ؛ ليعبِّر عن نفسه، ويعْلقون في وجدانه إلى الأبد، يحدِّثونه دائمًا، في الأوقات الحالكة، ويدافعون عن القيم التي زرعوها فيه بسلاسةٍ، يرشدونه ويكونون أُنسا له في وحدته. إن قيمة «جوستاف» عند «ريمي» ليست بالهيِّنة، ربما بدأ الأمر كله من عنده، فهو الفنان الذي خاطب الكثير بداخل فأر مراهق.

 «أنطوان ايجو: الناقد». 

نتلقَّى الفن بشغفٍ وحبٍّ فيتطور الأمر إلى فضولٍ عميق لبحث وفهم أدوات صناعته وتفاصيلها، نستسيغ جمالياته أكثر فأكثر ونقدِّر كل تجربة نعيشها مع عملٍ فني، ندرك القواعد ونحتفي بمن ينجح في تمرُّده عليها، ولكن الخوف أن ننسى الهدف الأساس ونفقِد الغاية السامية التي وُجد كل شيء عندها، حيث إن دقَّة مقدارِ وزاوية الكاميرات ليست هي الكل في الكل لكنها فقط أداة لخدمة الفكرة الأهمّ: أن يخاطبَ الفن مشاعرك، ويرتطمَ بذكرى عميقةٍ فيك، ويضعك أمام أحلامك أو حتى كوابيسك، ذلك الشعور، التواصل الروحاني بين شخصٍ يصنع شيئًا بشغف مطلق وآخر يجلس على مائدة مطعم أو أمام شاشة السينما يتذكر والداه أو حبيبه، اللحظة التي يخرُج فيها العمل من يد الفنان إلى المتلقي فهو يخصُّه، يتذوقه بخلفيةٍ خاصة ليخاطب مشاعر خاصة، فإنْ التقيا، مشيا طريق الأبديَّة معا.

فيلم «الفأر الطباخ» يحكي قِصة غايةٍ في اللطف ولا يجعل من مهمة تأويلها مهمَّة شاقة، لكنه لم يقع في فخِّ التسطيح في ظني! رسالة حب خفيفةٍ لِلفن والفنانين، أحب أن أعود لها من آنٍ لآخر، حتى استرجع لحظات ولادة ولعِي بالسينما، ليس فقط لأنني صادفتُه في طفولتي، لكن لأنه يحكي قصة فأر وجد نفسه في بدايات حياته عاجزًا عن التواصل، وبترتيبً إلهي تلاقى مع فنان مُلهم على تلفاز لا يمتلكه يتكلم لغة بديعة وجذابةً، وجَد الفأر سبيلًا لاكتشاف ذاته من خلالها، وربما  قد يتقنها يومًا ما فيحقق ما اِفتقده كثيرًا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى