في مثل هذا اليوم من العام 2004 والذي يوافق الثاني من رمضان، طلّت علينا أولى حلقات أحد أهم المسلسلات العربية، والعمل الأهم والأبرز للقضية الأهم في عالمنا العربي: (القضية الفلسطينية) من خلال مسلسل التغريبة الفلسطينية.
أثمر التعاون الرابع بين الكاتب د. وليد سيف والمخرج حاتم علي على أهم أعمالهما وأفضلها على حد وصفيهما، كانت البداية بإعادة صياغة وتطوير نص كان قد كتبه د. وليد سيف لمسلسل (الدرب الطويل) الذي عُرض قبل 4 سنوات ولم يلقَ نجاحًا ولم يكن بتلك الجودة الفنية والتقنية، ولا بتلك القيمة الإنتاجية التي تتناسب مع قيمة نص د. وليد سيف البديع؛ فكانت فكرة إعادة كتابة هذا النص واستخدامه جذّابة لحاتم علي، لا سيما وأن تعاوناتهما دائمًا ما كانت تتلقى استحسان الجمهور والنقّاد. جاء تميّز وتفرّد المسلسل عن باقي الأعمال التي سلّطت الضوء على القضية الفلسطينية، بأنه تناولها من جانب إنساني درامي، ذلك الذي عرف الدكتور وليد سيف وحاتم علي كيف يلتقطانِه ويظهرانِه بصدق وواقعية للمشاهدين؛ لا سيما بأنهما شهودًا عايشا الحرب والتهجير، فالدكتور وليد سيف هو من مواليد 48 في طولكرم، وكان مرتبطًا بمخيم طولكرم الذي نقله من مخيلته في المسلسل في أحداث ما بعد التهجير، ووضع الكثير من نفسه ومن أناسٍ كان قد عاش معهم وعاصرهم في هذه الشخصيات.
يقول وليد سيف: «كيف أروي ملحمة العذاب والكفاح الفلسطينيين من خلال شخصيات واقعية يرى فيها الفلسطيني نفسه وأباه وأمه وجده وجدته وعمه وعمته وخاله وخالته وآخرين من دونهم، دون أن يغريني نبل القضية بأن أسمو بالشخصيات فوق الواقع؟ فهذا عمل سيكون المشهود فيه هو عين المشاهد الشاهد نفسه. كيف أصنع ودراما الضحايا والمعذبين والمناضلين في واقع الحياة أكبر مما يمكن أن يبتدعه خيال الكاتب، بل أكبر من قدرته على فن السرد. والذاكرة ممتلئة بالمشاهدات والتجارب والأخبار والقصص، وكلها تتدافع للحضور في نص لا يمكن أن يتسع لها جميعًا، والانتقاء من كثيرٍ متزاحم أعسر من التوسع بالقليل. ولقد وجدتني في حالٍ كحال المعماري الذي يفضل الانطلاق من مرجع معماري قائم على الأرض يتصرف به تعديلاً وتطويرًا وفق معطياته المسبقة، ليستوي خلقًا معماريًا آخرًا. أنا ابن طولكرم، المدينة الحدودية في الضفة الغربية، فلتكن بيئة الأحداث الرئيسة بعد التهجير، وبيتنا يقوم على حافة المخيم الذي ملأ وعيي ووجداني بنُواحِه وكفاحِه منذ طفولتي المبكرة، واسترفدتُ الكثير من ذاكرة أهله الذين كانوا يجالسون أبي في دكانه الصغير، فيفيضون في الحديث عن ذكرياتهم وأحزانهم وأحلامهم. فليكن مخيم طولكرم إذن محطّ شخصياتي الرئيسة بعد اقتلاعهم من قريتهم في الداخل الفلسطيني. ولقد انتقل أبي وعمّاي إلى طولكرم من قريتهم باقة الشرقية في قضاء طولكرم، ونقلوا لنا ذاكرة حياتهم فيها بلا تجميل ولا تبخيس. فلتكن تلك القرية وتلك الذكريات مرجعي في رسم صورة مكتبة القرية التي تعيش فيها شخصياتي الرئيسة قبل النكبة والتهجير. وبذلك تتشخص البيئات الرئيسة التي تتحرك فيها الأحداث والشخصيات في صورةٍ مألوفةٍ ذات طابعٍ شخصي، وهي فرصة لابتعاث مرابع الصبا في مدينتي ومشاهدها القديمة التي أسستْ لهويتي ومخيالي وعالمي الشعري. لعل ذلك أن يكون طريقتي في شكرها وتكريمها، ولكن هل ثمة أثر من سيرتي الذاتية وسيرة أسرتي في بناء شخصيات العمل؟ وهو سؤال ردده الكثيرون، والجواب: نعم. ولكن تلك السيرة الشخصية والأسرية لم تكن غير مخطط مرجعي طورتُ تصاميمه وجمعتُ أحجاره ورفعتُ «مداميكه» من مصادرٍ وسيرٍ شتی، فاستعرتُ لذلك المخطط واستعرت منه، فظل له من أصله نصيب وإن تخلّق في صورةٍ أخرى».
وحاتم علي ابن مخيّم اليرموك الذي تهجّر من الجولان إبان هزيمة 67، وكان على أحد ظهور أخواله تمامًا مثل ما كان صلاح الدين على ظهر عمه مسعود، فالتقاط تلك التفاصيل الصغيرة من مبدعيَن عايشا بعض هذه الأحداث، ساعد في إيصالها وإظهارها بأصدق المشاعر، وذلك أهم ما يميز العمل، حتى إن العمل أظهر المشاكل الاجتماعية والسياسية التي كانت تعصف بالمجتمع الفلسطيني بتجرّد، وأظهر الفلسطيني كإنسان بأبعاده المتعددة والمختلفة.
يقول حاتم علي: «أظن أنَّ واحدة من مشكلات الخطاب الإعلامي العربي السياسي والفني عندما يتحدث عن القضية الفلسطينية، أنه جردها من محتواها الإنساني وحولها إلى مجموعة من الشعارات، وأعتقد أن هذه الأعمال التعبوية وصورة الفدائي "السوبرمان" وإلى آخره بالتأكيد كان لها ضرورة في مرحلةٍ ما كجزء من الحالة التعبوية ورفع المعنويات، ولكن اليوم كما أعتقد نحتاج إلى خطاب إعلامي مختلف، خطاب إعلامي يحاول حقيقةً أن يعيد للقضية الفلسطينية بُعدها الإنساني؛ لأننا عندما تخلينا تحديدًا عن هذا البعد أصبحنا أسوأ المحامين عن أكثر القضايا عدالةً، بينما الطرف الآخر يحاول إصقال الضمير العالمي بالهولوكوست وتحويل نفسه إلى ضحية، بينما نحن الضحايا الحقيقيين لم نستطِع حتى الآن أن نقدم صورتنا فعلًا كضحايا».
إلا أنّ هذه الروح والشغف عند حاتم علي ووليد سيف قد انتقلت إلى كل مَن يعمل في المسلسل، يقول الممثل جمال سليمان: «مسلسل التغريبة الفلسطينية لم يكن بالنسبة لمن يعمل به من عمّال الديكور والنجّارين إلى الممثلين مجرد عمل، رغم أنه عملٌ شاقٌ وشاق جدًا كانوا يقومون به لأنفسهم نوعًا من التعبير عن موقف، نوع من الرسالة، نوع من أداء واجب تجاه قضية كبيرة يؤمنون بها»، ولعل ذلك قد انعكس على المسلسل بكل مافيه من إبداعٍ وتفانٍ وصدق.
اليوم وقد مرّت الذكرى الـ18 على عرض أولى حلقاته، لازالت القنوات ومنصات العرض تقوم بإعادة عرضه باستمرار، ومشاهدات حلقاته على اليوتيوب تتجاوز الملايين، كان لمسلسل التغريبة الفلسطينية أثرًا كبيرًا في ترسيخ أسمى قضية في وجدان المشاهد العربي، وجعلها أقرب وأكثر تأثيرًا فيه، وكان للمسلسل أثرًا في حفظ وتوثيق بطولات أبطال لم تصلنا آثارهم، كما كانت فاتحة وخاتمة المسلسل على لسان علي عن أخيه: «فمن يحمل عبء الذاكرة ومن يكتب سيرة من لا سير لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس، وخلّفوا آثارًا عميقةً تدل على غيرهم ولكنها لا تدلّ عليهم».