«البجعة السوداء»: حينما تكمن المثالية في العصيان

١٠ أغسطس ٢٠٢٤

على اعتبار مرور ما يتجاوز العقد من العمر منذ إصدار الفيلم الشهير «البجعة السوداء»، لا يمكن للمرء أن يتحدث عنه دون العروج ولو قليلاً على ما قيل وما تم تكراره خلال العقد هذا. يتداول النقادُ الفيلمَ من زوايا عديدة، وهو الثري على جميع المستويات. وما يشغلني في هذا السياق بالتحديد هو التفسير السيكولوجي للفيلم. يقدّم دارين أرنوفسكي في خامس أفلامه فيلمًا يمكن عدّه من أفلام الإثارة بل والرعب في أحيان كثيرة لما توحي به محاولة تصوّر نظرة الشخصية الرئيسة وما يرتبط بها من وهم وحقيقة وخيال، وذلك تمامًا ما يقود التفسير السيكولوجي للفيلم إلى نتيجة واحدة أساسية، وهي أن الفيلم يحاول أن يستكشف الشخصية السكيزوفرينية (المُصابة بالفصام). وعلى الرغم من إقرارنا بقدرة الفيلم على أن يحيل إلى هذه الدلالة، فإن ما ستحاول هذه المقالة أن تقوم به هو التأكيد على أنّ الفصام هو دلالة واحدة غير أساسية من دلالات الفيلم، وأن الفيلم يحاول أن يتجاوز هذه الدلالة المباشرة، ليناقش، في لبّه، الرغبة الأصيلة في الإنسان للوصول إلى المثالية، كما أنه يناقش في الوقت ذاته الخير والشر وتضاربهما وتلاصقهما ببعضهما في شخصية الإنسان، حيث إنه كائن فنان في المقام الأول.

الواقع، الوهم، والعمل الفني

كما نجد في معظم الأعمال الفنية التي تتحدث عن فنانين، يعالج «البجعة السوداء» أحداث الأفلام على ثلاثة مستويات. ما لا يمكن إغفاله هو المستوى الأول، والذي تتحرك الحبكة فيه بشكل مباشر، وهو مستوى واقع شخصية الفنان في محاولة اكتشاف ذاته ومحاولة إتقان العمل الفني، إذ إننا في معرض محاولة فهم شخصية نينا، والتي تحاول أن تتقن الدور الرئيس في أشهر باليه على مستوى العالم، وهو باليه «بحيرة البجع» والذي قدمه تشايكوفسكي وعُرض بتكرار مهول حول العالم. أما المستوى الثاني، وهو الذي يؤكد عليه النقاد بوضوح، هو صراع الشخصية في محاولة التفريق بين الواقع والوهم خلال المعاناة مع المرض، وهو هنا بالتحديد السكيزوفرينية (الفصام)، إذ تتكرر على نينا أحداث غريبة مستمرة ومتصاعدة مع تصاعد التوتر المرتبط بموعد عرض الباليه، مثل أن ترى نفسها في وجه امرأة عابرة في القطار، أو أنها تتخيّل حركة بعض الرسومات كما لو كانت مخلوقات حية، كما أنها تتخيّل بعض الأحداث التي تحدث مع الآخرين أو مع نفسها، وذلك حتى الوصول إلى ذروة الفيلم حينما اختلقت صراعًا جسديًا متخيّلاً مع شخصية أخرى في الفيلم انتهى بطعنها لنفسها بقطعة حادة من مرآة. تقف النظرة السائدة عن الفيلم عند هذا المستوى الثاني، إذ إن ما يؤكد عليه كثيرون هو أن الفيلم يتحرك في إطار التطوّر الطبيعي والحاد في الحالة الفصامية ووصولها لمراحل تدميرية للذات حينما لا يتم تشخيصها وعلاجها.

غير أن المستوى الأهم الذي يعالجه الفيلم في رأيي هو تقاطع هذين المستويين، السطحي والسيكولوجي، في المستوى الفني تحديدًا، إذ يؤكد الفيلم باستمرار على محورية الحالة الفنية التي تعيشها نينا قبل أن يؤكد على الحالة السيكولوجية. تتحرّك الكاميرا منذ بداية الفيلم كما لو أنها عين نينا. لسنا أمام «كاميرا عليمة»، لو استوحينا المصطلح من الأدب والرواية، بل نحن أمام «راوٍ أول». يتحرّك الإخراج في مستوى واحد أساسي، وهو محاولة تقريب المشاهد من نظرة نينا بالتحديد، إذ إننا لا نعلم إذا كان ما يحدث في الواقع واقعًا أم خيالاً، كما أننا لا نكتشف الواقع من الوهم إلا حينما تكتشفه نينا تحديدًا. ذلك ما يوحي، كما أظن وأدّعي، أن أرنوفسكي يحاول أن يتجاوز فهم الحالة السكيزوفرينية، ويحاول أن يتجاوز المعالجة السيكولوجية، من أجل الوصول إلى محاولة فهم الحالة الفنية، إذ إن ما تراه نينا، وما تتوهمه أيضًا، ليس حالةً مَرَضية، بل هو في الواقع حالة فنية في المقام الأول، فالعمل بحاجة إلى هشاشة نينا حينما تتخيّل المؤامرات التي تُحاك حولها من أجل أن تتقن دور «البجعة البيضاء»، كما أنه بحاجة إلى انتقامية نينا من أجل أن تتقن دور «البجعة السوداء»، إذ لا يمكن لشخصية نينا أن تعيش لحظة التحوّل إلى البجعة السوداء من خلال محاولة الإتقان التقني للرقص فقط، بل هي بحاجة ماسة إلى أن تتلامس مع الجانب المظلم في شخصيتها وفي حياتها. ذلك ما يوحي به المخرج «توما» باستمرار، وما يحاول أن يؤثر فيها لتقوم به. ينشغل أرنوفسكي، كما ينشغل مخرج الباليه نفسه، توما، بإتقان باليه تشايكوفسكي المعقد للغاية. من هذا المنطلق تحديدًا، تعيش نينا حالة التيه والوهم والحقيقة والضعف والانتقام وكل ما يرتبط بشخصيتها المأزومة، إذ إن المرض في حقيقته، في العالم الذي يحاول أن يخلقه أرنوفسكي، هو استجابة للحاجة الفنية.

في هذه المستويات الثلاثة، الواقع والوهم والعمل الفني، يتحرّك الفيلم من أجل الوصول إلى الكمال في الشخصية، وفي الباليه أيضًا. وفي مفهوم «الكمال» تحديدًا، يمكننا أن نعالج أفكار العمل التي تتجاوز الحالة الفنية المحضة.

تريد أن تكون «كاملة»

ينطلق الفيلم، قبل كل شيء، من سؤال «بحيرة البجع» ذاته. تتلخّص قصة «بحيرة البجع»، كما لخّصها مخرج الباليه في الفيلم، وكما لخّصتها نينا أيضًا، بأنها تتمحور حول فتاة جميلة للغاية، بِكر ووديعة وبريئة ونقية أيضًا، حلت عليها لعنة لتتحوّل إلى بجعة بيضاء، وهي بحاجة إلى أن توقِع الأمير في حبها من أجل أن تفكّ اللعنة التي وقعت عليها. غير أن بجعة سوداء، تشبهها للغاية، تحاول أن تغوي الأمير، فهي على العكس من البجعة البيضاء، جذابة ومليئة بطاقة جنسية هائلة، فهي مغوية أكثر من أنها جميلة، كما أنها خبيثة وليست نقية. وبعد أن تقترب البجعة البيضاء من إيقاع الأمير في حبها وفك اللعنة، تتمكّن البجعة السوداء من غوايته لتسحب الأمير من يد البجعة البيضاء بخبثها وبسوادها وسوئها، فتسلّم البجعة البيضاء بمصيرها، ما يجعلها تجد السلام في الانتحار. ليست تراجيدية «بحيرة البجع» هي في سوء وشر البجعة السوداء، بقدر ما أنها في خير البجعة البيضاء، إذ يُطرح السؤال: لماذا لم يتمكّن نقاء وجمال البجعة البيضاء من الأمير؟ غير أننا لا نرى في الباليه إجابةً، بل نرى الإجابة في ممثلة ملكة البجعات في الفيلم «البجعة السوداء» تحديدًا. من هنا ينطلق الفيلم في استكشاف المثالية والكمال، إذ إنه يرفض بوضوح النزعة الطهورية في الإنسان بوصفها مثالية، ويقدّم نزعة ممتزجة بين الأبيض والأسود، الانضباط والحرية، المغامرة والأمان، الخير والشر، من أجل الوصول إلى الكمال والمثالية. ما كان ينقص البجعة البيضاء لإيقاع الأمير في حبها هو استكشاف الجانب الآخر منها، وما كان ينقص نينا لتقمّص الدور المثالي لراقصة باليه محترفة هو استكشاف الجانب الآخر فيها، ونينا تحديدًا هي الموازي للبجعة البيضاء في الحياة الواقعية، إذ إنه على الرغم من أنها في الثامنة والعشرين من عمرها، ما زالت تعاملها أمها على أنها طفلة بهوس سيطرة مفرط ومَرَضي، كما أنها ما زالت تحتفظ بدمى في غرفتها، في حالة من البراءة الطفولية الغريبة للغاية، غير أن اللحظة الفارقة في شخصيتها تكمن حينما تحاول نينا أن تكسر ذلك الانضباط الأبيض كله، من خلال الكحول والمخدرات والجنس مثلاً، وذلك ما تَمَثّل لاحقًا في الاستكشاف البصري والجسدي للبجعة السوداء الحقيقية بداخلها.

في لحظات درامية فائقة، تتكامل عناصر الفيلم جميعها، الحبكة وتطور الشخصيات وعمقها، مع مقطوعة «بحيرة البجع» بانسجام تام، إذ تعيش نينا قلقها في لحظات تأدية الباليه نفسها حينما تكون بجعة بيضاء، وتكتشف انتقاميتها وسوادها حينما تكون بجعة سوداء، ما لم يكن تمثيلًا على الإطلاق، بل ولم يكن تقمصًا للدور، بل كان تجسيدًا مباشرًا له. يتكامل ذلك مع الموسيقى المتقنة والجميلة للغاية للباليه، حتى نصل إلى لحظة الحقيقة: اكتشفت نينا إيذاءها لنفسها في اللحظة ذاتها التي اكتشفت البجعة البيضاء -أثناء التمثيل- أنها لن تتمكن من فك اللعنة، في لحظة ذروة موسيقية وبصرية منسجمة ومتكاملة، لتكمّل بذلك الفيلم نفسه مع انتحار البجعة البيضاء، واكتشاف بقية الممثلين للجرح العميق النازف في بطن نينا نفسها، ما يجعل من الفيلم إحدى التُحف الحديثة، وما يؤهل ناتالي بورتمان لحيازة أول جائزة أوسكار مستحَقة

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى