«سافر وانبسط.. ومش بعيد نتقابل تاني،
بس إوعى البلاد البعيدة تخليك تنساني»
في فيلمه الطويل الأول، «البحث عن منفذٍ لخروج السيد رامبو» يدخل المخرج خالد منصور ساحة السينما الروائيَّة بفيلمٍ حسَّاس وجريءٍ ينتمي إلى سينما التفاصيل، لا يقوم على الحركة الصاخبة، بل على تصعيد الهمِّ الإنسانيِّ من الخاص إلى الكوني، وعلى الاعتماد على الهمس ضدَّ أشكال العنفِ الخفي المختلفة بدلَ الصراخ.
لا يبحثُ الفيلم عن منفذٍ لكلبٍ مهدَّدٍ فحسب، بل يتقصَّى أيضًا منافذَ الخلاص الممكنةِ لإنسانٍ يعيشُ تحتَ وطأةِ طبقاتٍ متراكمةٍ من الهجر والقهر والإقصاء، فالعلاقة بين رامبو وكلبه تجاوزت حدَّ الرفقة، ليصبح كلٌّ منهما مرآةً للآخر، فكلاهما مهدَّدان ومطاردان، وكلاهما يمتلكان هشاشةً عاليةً أيضًا.
يظهرُ حسن، الشخصية الرئيسية التي يؤدِّي دورها الممثِّل المميَّز عصام عمر، منذ المشهد الأول وهو يلعبُ رفقةَ كلبه رامبو، يُعدُّ البيض الذي ينقصه الملح وهو يتحدث معه، يطلبُ منه أن يحضرَ كيس البطاطس من الخارج، يحادثه كما لو أنَّه يحادث مرآة روحه، لأنَّ الكلب رامبو يفهمه جيدًا ويتفاعل معه. وعلى مدار الفيلم سنجد أنَّ حسن كائنٌ منسحبٌ كُليًا من الخارج، وأن عالمًا بأكمله مبنيٌّ على رفقته لرامبو، وعلى ذكريات التسجيلات التي تركها والده الذي هجره في الثمانينيات، وعلى محادثته البسيطة مع أمه وصراعه مع جاره كارم (أحمد بهاء).
يجد حسن نفسه مرغمًا على خوض هذا الصراع، فهو شخصيَّةٌ رقيقة، وربما لو مُنحَ حياةً أخفَّ وطأة لأصبح إنسانًا مختلفًا بالتأكيد، باهتماماتٍ أخرى لا تتضمن الهرب من مكانٍ لآخر، في محاولةٍ لحماية كلبه، والنجاة بنفسه وإيجادِ منفذٍ للهرب. لكنَّه يخوض صراعًا مع جاره كارم صاحب الورشة الذي يحاول طرده هو ووالدته من المنزل، وعلى الرغم من أنَّ القانون في صفِّهما، إلَّا أنَّ الأحداث تتصاعد.
يتغير عالم حسن كليًا بسبب هذا الصراع، فيراكم الغضب وتتحوَّل شخصيَّته تحوُّلًا طبيعيًا في ظلِّ غياب العدالة والضغط المستمر على إنسان بسيطٍ يفقد عالمه تدريجيًا: بيته، كلبه، قصة الحب التي انتهت قبل أن تبدأ… وذلك في مدينةٍ تسعى لإقصائه هو وكلبه، ولا ترحم من يعيشون على هامشِها.
يظهرُ تصدُّع عالم حسن الداخلي من خلالِ فكرة غياب الأب الذي يظهر كصوتٍ باهت يصدحُ من شريط الكاسيت، وكأنَّها أطلالُ حياةٍ ماضيةٍ كانَ حسن يعيش فيها بسعادة، إذ يَسمَعُ من وقتٍ لآخر إلى صوت والده، ضحكات أمُّه، وتساؤلات حسن البريئة، فيما تغيب هذه البراءة كليًّا عن العالم الذي يعيش فيه ويضطرُ إلى مواجهته، وفي هذا تناقضٌ واضحٌ بين رقَّة العالم الداخلي لحسن، الذي ما يلبث أن ينزوي إليه أكثر فأكثر، وبين توحُّش العالم الخارجي في مدينةٍ مثل القاهرة، المدينة التي تضغطُ بقسوةٍ على ساكنيها، ولا تلتفت إلى أحلام من تقصيهم دون رحمةٍ كلَّ يوم.
يتعمق شعور حسن بالتيه يومًا بعد يوم، يتنقلُ من مهنةٍ إلى أخرى، يعيش يومًا بيوم، ولا يملكُ طموحًا أكثر من ذلك، فهو يحاول فقط أن ينجو، حتى قبل أن تتفاقم مشكلته مع جاره كارم عندما يهجمُ الكلب رامبو على الأخير دفاعًا عن حسن أثناء مشاجرة بينهما، فيتأصَّل حقد كارم على رامبو ويعزم على الانتقام منه. ومن وقتها تتداعى حياة حسن الهشَّة أصلًا، فإن كان حسن قد مشى برويَّةٍ على حبال النجاة من قبل، فها هو الآن قد تصدَّعت حياته أكثر، واهتزَّت تلك الحبال تحت قدميه، وأخذ يبحث بيأس عن منافذ للخروج، قبل أن يجد منفذًا لخروج رامبو من دونه، فرامبو سينجو أخيرًا من هذا الجنون، وربما سيصبح اسمه "مستر رامبو" لأنَّه سينتقل للعيش في كندا. يودع حسن رامبو وداعًا ميلودراميًا، يقول له إنَّه سيتمكَّن من العيش بشكلٍ أفضل، وستكون لديه بالوناتٌ ملوَّنة، لكنَّه يتمنَّى منه فقط ألا ينساه في بلاده البعيدة. يمشي حسن مبتعدًا، بينما ينوح رامبو خلفه عاليًا جدًا.
تبدو النجاة من كلِّ هذا العبث حُلمًا مؤجَّلًا، فحسن الذي يوافق أخيرًا على التخلِّي عن كلبه في مقابلِ فرصة للسفر والنجاة، لا يجدُ مخرجًا حقيقيًّا لنفسه. وعندما ينجح كارم أخيرًا في طردهما من المنزل، وقبل ذلك في إطلاق النار على رامبو بعد رحلةِ هربٍ طويلة، يحدثُ التحوُّل في شخصيَّة حسن، أو لنقل الانفجار، فيصلُ الغضب إلى ذروته عندما يواجه حسن كارم، ويتصارعان سويًا في ظلِّ غيابٍ تامٍّ للعدالة والقانون، ولا ينجحُ سوى المحيطين بهما في إبعادهما عن بعضهما.
يقدِّمُ خالد منصور تصوُّراته عن مجتمعٍ بأكمله من خلال العلاقة بين إنسانٍ وحيوانه الأليف، فالفيلم يجسِّدُ عزلة الفرد وهشاشته وسط مجتمعٍ قاس، فلا يجد حسن ملاذًا سوى في علاقته مع كلبه، هذه العلاقة التي تعدُّ أقوى من جميع العلاقات في حياته: حسن وحيدٌ كليًّا دون أصدقاء، وعلاقته بوالدته، بزميله في العمل الذي يغطِّي غيابه، وبفتاةٍ تجمعه بها علاقةٌ غير واضحةِ الملامح، هي العلاقات الوحيدة في حياته، فالجيران من حوله تحوَّلوا إلى أعداء، ولا يصوِّرهم خالد على أنَّهم أشرارٌ تقليديُّون، بل هم ضحايا منظومةٍ على وشكِ الإنهيار، تعاني من انحسارٍ أخلاقيٍّ وتهميشٍ اقتصادي. هذه العلاقة تعزِّزُ الشكَّ والتوتُّر بين العلاقات الإنسانيَّة في الفيلم.
حتى علاقة حسن مع نفسه فيها من التوتُّر الشيء الكثير، فهو يعاني من جرحٍ داخليٍّ يعززه غياب والده، وعيشه على الحنين إليه. وفي لحظة صفاءٍ إنسانيٍّ يبوحُ بكلِّ ما في صدره عن علاقته القديمة مع والده لرفيقته أسماء، التي تقوم بدورها الممثِّلة راكين سعد. تبتسمُ أسماء بعد حديثه عن أبيه، لتخبره بأنَّ هذه هي المرَّة الأولى التي يتحدَّث فيها عن نفسه معها. علاقته مع والده هي امتدادٌ لنفسه، تسيطر على خياله، ولا يستطيع النجاة من كلِّ ذلك. ولكن على الرغم من كلِّ هذا الحنين، إلا أنه وصف هذه المقابلة، عندما قابل عمه حسن، بأنها أسوأ ما حدث له في يومه، وذلك لأنَّها تذكِّره بوالده. بالتالي فهو عالقٌ في هذه العلاقة الشائكة، ما بين الحنين والغضب من الهجر، فبالرغم من غياب الأب، غير أنَّه يهيمنُ بكلِّ حضوره على حياته، من خلال صوته في شريط الكاسيت ووجود عمِّه في الفيلم الذي يذكِّره بأبيه.
أمَّا عن علاقته بأسماء، الشخصيَّة التي تسانده دون شروطٍ رغم كل المخاطر التي تحدق بها، فهي متوتِّرةٌ وشائكةٌ أيضًا، إذ إنَّها تُقدَّمُ كشخصيَّةٍ من ماضي حسن، كانت فيما مضى حبيبته لكنَّها مخطوبة الآن، ورغم ذلك فإنَّ الحب بينهما لم يمت، لكنَّه محاصرٌ بالهشاشة والألم والخذلان.
تشكِّل هذه العلاقة محورًا عاطفيًا دقيقًا يعكسُ هشاشة الإنسان في واقعٍ مضطرب، فهي لا تمثِّل مجرَّد ذكرى عاطفيَّة، بل تكشف ما لم يعالَج بينهما من خيباتٍ وصمت. يتشبَّثُ حسن بهذه العلاقة كأنَّها خيطٌ أخيرٌ يذكِّره بحياته القديمة التي تتداعى الآن، في المقابل تحاول أسماء أن توازن بين عقلها وقلبها، وذلك في ظلِّ اختياراتٍ صعبةٍ وواقعٍ أصعب، ممَّا يجعل حضورها مشحونًا بالتوتُّر والندم.
تكمنُ جمالية هذه العلاقة في واقعيَّتها، في كونها مألوفةً ومفتوحةً على كلِّ الاحتمالات الضائعة، وربما تمثِّلُ أسماءُ لحَسَن ما يمثِّله له رامبو أيضًا: كل ما هو قديمٌ وثمينٌ وما يخشى فقدانه، أو ما سيفقده لا محالة، وهو يعرف ذلك، وليس عليه الآن سوى أن يتعايَش مع هذا الأثر.
أمَّا عن علاقته بوالدته فلا مساحةَ للعواطِف المتفجِّرة بينهما، بل شدٌّ وجذبٌ وتوتُّر دائمين، كلماتٌ مقتضبةٌ وصمتٌ كثير. نرى حسن بشخصيَّته المنكسرة يحاول التوازن بين رغبته في الاستقلال وبين إحساسه العميق بالذنب تجاه والدته، وذلك نتيجة خيبة أملٍ شديدةٍ تشعر بها ولا يعرف إن كان هو المتسبِّب بها، فثمَّة تصدُّعاتٌ عميقةٌ بين جيلَين خائبَين تحضر بقوَّة، وتوتٌّرٌ عاطفيٌّ مكتومٌ يجسِّدُ هشاشة الروابط الأسريَّة حين تحاصرها ظروفُ حياةٍ قاسية. يخيِّمُ ظلُّ هذه العلاقة بكلِّ ثقله على خلفيَّة القصة، ويبوحُ عن هاجسٍ آخر من هواجس حسن التي تدور حول خوفٍ من الفقدان وتكرارٍ دائمٍ لقصَّة الفقد.
من المثير للاهتمام أيضًا معالجة ورؤية حياة النساء في حياة كارم، صاحب الورشة الذي يعادي حسن ويريد أن يسيطر على حياته. نساءُ كارم ليسوا من لحم ودم، بل كائنات ظليَّة نكاد لا نراها، لكنَّها موجودةٌ في نبرته وكلماته المشحونة بالمرارة. لا تظهر له زوجة أو حبيبة، فالنساء في حياته يَدخلن من باب الحاجة، ويُقابلن بالريبة والخوف في آنٍ معًا. تقومُ علاقته بهن، سواء الغائبات أو الحاضرات، على الفقد أو على سلطة غير مكتملة. هذا الغياب الأنثوي ينعكس في عدائه مع حسن، وفي انزعاجه الدفين من والدته؛ إنَّه غضبٌ غير مباشرٍ موجَّهٍ نحو نساءٍ لم يستطع امتلاكهنَّ أو حتى فهمهن.
كارم ليس رجلًا شريرًا في جوهره، بل إنَّه نتاجُ بيئةٍ خانقة، وهو تمثيلٌ لفكرةِ القسوة التي نراها مناقضةً لشخصيَّة حسن الرقيقة، وصراعهما ليس صراعًا قائمًا على بيتٍ أو مساحة، بل على ما هو أبعد: إنَّه صراع بقاءٍ بين الرقَّة والقسوة وامتدادِها، صراعٌ تقدِّمه ذكورةٌ هشَّةٌ تحاولُ تعويض هذه الهشاشة بالسيطرة والغضب.
***********
حوار مع خالد منصور
بداية لماذا اخترت قصَّة "السيد رامبو" لتكونَ أوَّل فيلمٍ روائيٍّ طويلٍ لك؟ وهل تحمل شخصيَّة حسن شيئًا منك أو من بيئتك؟
لماذا اخترتُ هذه القصَّة بالذات؟ الأمرُ ينقسمُ إلى جزئين، إذ إنَّني طوال الوقت كنتُ أبحثُ عن طريقةٍ للتعبير عن نفسي وأفكاري ومشاعري والأشياء التي أريد قولها، ولكن لم أكن قد وجدتُ بعد القصة التي تجمعُ بين كلِّ هذا، حتى عام 2015 عندما حصلت حادثةٌ شهيرةٌ اسمها حادثةُ كلبِ الأهرام، عندما اجتمع جمعٌ من الناس وربطوا كلبًا في الشارع وقتلوه بطريقةٍ وحشيَّةٍ جدًا، تشبه إلى حدٍّ ما بداية فيلمنا؛ الخلاف على الكلب والبيت وما إلى ذلك، فشعرتُ بأنَّ هذه نقطةٌ مهمَّةٌ لحكايةٍ أستطيع من خلالها التعبير عن كلِّ ما أشعر به، من بعدها بدأت رحلة الفيلم.
أمَّا بالنسبة للشقِّ الثاني من السؤال، فالإجابة هي نعم، ففي شخصية حسن الشيء الكثير منِّي، لأنَّني أردتُ صنعَ فيلمٍ عن أفكاري ومشاعري وما إلى ذلك.
كيف تمَّت تدريبات الكلب رامبو؟ ما هي الصعوبات التي واجهتها في اختيار الكلب رامبو كنجمٍ للفيلم؟
في البداية طلبتُ من الأكاديمية التي قامت بتدريبه أن تحضرَ كلبين يكونان كلبيْ شارع وليسا كلبين مدرَّبَين، لأنَّ من قام بدورِ رامبو في الفيلم هما كلبان وليس كلبًا واحدًا، فبدأت رحلةُ البحث عن كلبَين بلديَّين متطابقَين تمامًا ووصالحَين للتدريب، لأنَّ كلاب الشارع في مصر ليست كلُّها صالحةً للتدريب بسبب التعامُل الوحشي معها وبسبب خوفِها طوال الوقت، وبالتالي فإنَّ تدريبها ليس بالأمر اليسير. لذا فإنَّ رحلةَ البحث استمرَّت حوالي شهر حتى تمَّ إيجاد الأخوين رامبو، ثمَّ بدأت رحلة التدريبات التي كانت عبارةً عن معسكرٍ صحِّي يتم تدريبهما فيه على اللياقة البدنيَّة والسباحة، كما تمَّ الاهتمام بغذائهما وصحَّتهما وما إلى ذلك، ثمَّ في الشهرِ الثاني بدأ تدريبهما رفقة الممثلين، وكان عصام يذهبُ بشكلٍ شبه يوميٍّ للتدريب على المشاهد مع الكلب، حتى نشأت بينهما علاقةٌ قويَّةٌ وحفِظَ الكلب جميع مشاهده، ثمَّ بدأ التصوير.
العلاقةُ بين حسن ورامبو تبدو أعمق من مجرَّد حبٍّ لحيوان. هل قصدت أن تعكسَ هذه العلاقة جانبًا من هشاشة الإنسان أو صراعه الداخلي؟
أرى أنَّ علاقة حسن برامبو يمكن أن يكون لها عدَّة أوجه، فيمكنُ أن تمثِّل علاقةَ شخصٍ مع ابنه، أو شخصٍ مع صديقه أو حتى شخصٍ مع نفسه، الجزء الداخلي في الإنسان أو حتى الجزء المظلم منه. فلئن فُسِّرت على هذا النحوِ فهذا تفسيرٌ صحيح، إذ يمكنها أن تعبِّر عن هشاشة الإنسان، أو تعبِّر بشكلٍ أعمق عن علاقة إنسانٍ بحيوانه الأليف، لأنَّها تكشفُ جوانبَ مختلفةٍ من شخصيَّة حسن، جوانبُ أخرى ما كنَّا لنراها لو أنَّنا صوَّرنا حسن وحدَه في يومه الطبيعي، عندما نراه من الخارج كإنسان، فكانَ الهدفُ من هذه العلاقة هي البحثُ بشكلٍ عميقٍ عمَّا يحرِّك حسن وما يشعرُ به، وكذلك ما يتصوَّره عن العالم.
الفقدُ ليس شعورًا لحظيًّا في الفيلم، بل هو شعورٌ دائم، وضعفُ حسن يبدو كنوعٍ من المقاومة. كيف ترى هذه الحالة في مجتمعاتٍ تعيشُ أزماتٍ متكرِّرة؟
ربَّما الفيلمُ كلُّه بدأ من شعورِ الفقدِ هذا، لأنَّ كلَّ ما كان يحرِّكُ حسن، وكلُّ ما يكونه، هو شعورٌ بفقدِ والده وما يمثِّلهُ له هذا الفقد من أحاسيسٍ ومعانٍ، منها إحساسُ الأمان والاحتواء والقوَّة، وعدَّة أحاسيس أخرى غائبةٌ عن حسن ولم يختبرها بشكلٍ فعلي. لذلك فقد كان هذا هو المحرِّك الرئيسي لحسن أثناء الفيلم، أيضًا اختباره لأنواع أخرى من الفقد تجعله ينضجُ ويعرف كيف يتعاملُ بشكلٍ حقيقيٍّ مع هذا الفقد كرجلٍ ناضجٍ وليس كطفلٍ فقدَ شيئًا.
أيضًا، أرى أنَّ هشاشة حسن يمكنها أن تصوِّر كيفيَّة رؤية الأشخاص المسالمين للعالم، فالشخصيَّات المسالمة توضع دائمًا على هاوية العالم، على آخر نقطةٍ على اليابسة، محاصرة تمامًا وكأنَّ الجيش من أمامِها والبحر من خلفها. وطوال الوقت يفضِّلُ أشخاصٌ مثل حسن عدم اختيار العنفِ أو المقاومةِ بأشكالٍ غير شرعيَّةٍ أو مألوفة، لكنَّ حسن في النهاية يعيش في مجتمع يضعه في مفترقٍ صعبٍ وواضحٍ، إذ عليه أن يختار بين أن يخرج من رداء كونه إنسانًا هشًّا أو مسالمًا، وبين أن يقاوم بطريقةٍ فرضها عليه المجتمع وأن يدخلَ في اللعبة بالطريقة التي يديرها المجتمع، وإلا فلن يكون له مكانٌ هو والشخصيَّات التي تشبهه، لذلك أعتقدُ أنَّ جزءًا كبيرًا من هذه الشخصيَّات تختارُ أن تلعب اللعبة أو تدخل المعركة، وأن تحارِبَ بالطريقة التي فُرِضَت عليه، لأنَّه لو اختار التمسُّك بالسلميَّة فسوف يموت.
الفيلم لا يصرخ، بل يهمس. كيف تميِّزُ بين العنف الظاهر والعنف الخفيِّ الذي يأتي من العائلة أو المجتمع؟
أعتقد أنَّ هذا هو نمطُ الحياة اليوميَّة التي نعيشها كبشر، فحياتنا اليومية ليست عنيفةً أو ضخمةً تصلُ للذروة، فما يحرِّكنا نحنُ كبشرٍ هي مجموعةٌ من التراكمات للتفاصيل الصغيرة التي تحدثُ في الأيام الروتينيَّة جدًا، فقد كنتُ حريصًا على أن يمثِّل الفيلمُ الحياةَ العاديَّة دونَ أيِّ ضجيج، وبلا أيِّ انتصاراتٍ كبيرةٍ، أو هزائمَ فادحةٍ أو وعظ شديد، هذه الحياةُ العاديَّةُ التي يعيشُها الناس كلَّ يومٍ ولكنَّها في الوقت نفسه تبدو قاسيةً للغاية في تفاصيلها الصغيرة، فقد حرصتُ على أن أعكس فكرة تفاصيل الحياة بكل جوانبها البسيطة والعاديَّة، وما يؤثِّر في البشر أو يغيرهم دون مبالغات أو أحداثٍ ضخمة.
القاهرة في الفيلم ليست مجرَّد مكان، بل قوَّة ضاغطة. كيف تراها في علاقتها بالطبقات الاجتماعيَّة والهويَّة؟ وهل ترى أنَّها تُخرِجُ شخصيَّاتٍ مهزومة؟
أرى أنَّ القاهرة مدينةٌ تحملُ تناقضًا في منتهى الشدَّة، وذلك لأنَّني أراها مدينةً ساحرةً للغاية، وبقدر سحرها فهي ضاغطة ويصعب التعاملُ معها في الآن ذاته، لأنَّها قاسيةٌ ومزدحمةٌ وذات إيقاعٍ سريع، لكنَّها جميلةٌ في الآن ذاته. إنَّها هادئةٌ في بعض الأوقات وتبدو دافئةً وحنونةً في أوقاتٍ أخرى، فهي مدينةٌ ذات وجهين وهذا هو مصدر السحر الذي قصدته. وربَّما كانت هي تحديدا نواة تفكيري في صناعة الفيلم، فأنا متأثِّرٌ طوال الوقت بعلاقتي بالمدينة، وبمشاعري المتناقضة تجاهها، فأنا أشعر برغبةٍ عميقةٍ في قضاءِ ما تبقَّى من عمري في هذه المدينة، ولكن في المقابل لديَّ شعورٌ خفيٌّ أيضا بعدم قدرتي على فعل ذلك، فصحيحٌ أنَّها ضاغطةٌ وقاسيةٌ على سكانها، ولكن ثمَّة ما يربطُ الناس بها، بحيث لا يستطيعون الخروج منها والتخلِّي عنها بسهولة.
كلُّ علاقات حسن فيها شرخٌ ما: مع الأم، الحبيبة، الجيران. كيف كتبتَ هذه العلاقات لتكون مرآةً لهويَّةٍ تعيشُ في غيابٍ أو فقدان؟
كانت هناك ثيمةٌ مركزيَّةٌ وإحساس طاغٍ يعبِّران عن روحِ الفيلم بأكمله، لذا كان لا بدَّ لجميع الشخصيات أو العلاقات أن تعبِّر عن هذه الروح وهذا المعنى. فجاءت كلُّ علاقةٍ من علاقات حسن لتعكسَ شيئًا معيَّنًا من شخصيَّته وتظهر جانبًا محدَّدًا، وكلُّها علاقاتٌ غير مكتملة تعبِّر بالفعل عن الفقد، وبهذا المعنى فهي انعكاسٌ للحياة الواقعية العاديَّة، فحياة الكبار كما يُقال لا تستمرُّ على نحو مثاليٍّ أو نموذجيٍّ مثلما كنَّا نراها عندما كنا أطفالًا، ففي طفولتنا كانت لدينا تصوُّراتٌ معيَّنةٌ عن العالم والحب، لكن عندما ننضج تتغيَّر هذه التصوُّرات، فنكتشفُ أنَّه من العادي والطبيعي أن يحبَّ الناس بعضهم بعضًا بشدَّةٍ لكن دون قدرةٍ على الاستمرار في هذه العلاقة، وذلك لأسباب أخرى غير الحب، وأنه من العادي أن نتعلَّق بأفراد عائلاتنا بينما لا نقدر على العيش معهم، بل نضطر أحيانًا إلى الابتعاد كي نحافظ على ما تبقّى من العلاقة. لذلك فإنَّ جزءًا كبيرًا من فكرة العلاقات في الفيلم قائمةٌ على إدراك معنى التخلِّي.
ابتعدت عن المباشرة وفضَّلت الرموزَ والتفاصيل الصغيرة. هل ترى أنَّ السينما قادرةٌ على التعبير عن أشياء لا يمكنُ قولها؟ وهل تعتبر نفسك من صانعي "سينما التفاصيل"؟
أرى أنَّ الفن بشكل عام، وليست السينما وحدها، قد صُنِع للتعبير عمَّا لا نقدر على قوله بالكلام، فالموسيقيُّون مثلًا يصنعون الموسيقى لأنهم ربَّما لا يجيدون الكلام، لذلك قرَّروا صنع الموسيقى لمجرد التحدُّثِ عن مشاعرهم التي لا يستطيعون التعبير عنها بشكل مباشر، وهو ما ينطبقُ أيضًا على التشكيليِّين والكتَّاب والسينمائيِّين. لذلك أشعر أنَّ صناعة الفنِّ بالعموم وُجِدت لكي يُعبِّرَ من خلالها الأشخاص غير القادرين على التعبير عن أنفسهم بشكلٍ واضحٍ وحر، فطوال الوقت يقول الفنُّ ما لا يمكن أن نقوله بشكلٍ مباشر.
لا أستطيع تصنيفَ نفسي تصنيفًا مباشرًا، فكلُّ ما أعرفه عن نفسي هو أنَّني شخصٌ لديه ما يمكن قوله، ويريد أن يحكيه مثلما يشعر به. وعلى العموم فإنَّ جزءًا من تعلُّقي بالفنِّ هو التجريب والاكتشاف، انطلاقا من طرقِ الحكي والتمثيلِ والتصوير المختلفة. ربَّما تطغى ثيمةٌ على أعمالي دون أن أدركها، وقد يحدث هذا مع الفيلم الثاني أو الثالث، ولكن لا أعتقد أنَّني قد أصنِّفُ نفسي بشكلٍ واعٍ.
الصمتُ حاضرٌ بقوَّةٍ في الفيلم. برأيك، هل الصمت كان نوعًا من المقاومة أم شكلًا من الاستسلام؟
ليس لديَّ إجابةٌ على تصنيفِ الصمت ولكنَّني أرى أنَّهُ جزءٌ من التعبير لدى الإنسان، فنُحن لا نملك طوال الوقت شيئًا لنقوله، وحتى عندما نتحدَّث فإنَّ حديثنا يدورُ حولَ أشياء بعيدةٍ كلَّ البعد عما نشعر به ونحسُّه، وقد نقضي وقتًا طويلًا في الحديث مع شخصٍ ما عن كلِّ شيء، ثمَّ ندرك أنَّنا لا نعرف شيئًا عن هذا الإنسان، فنحنُ لا نفصحُ عن مشاعرنا بشكل كبير، لا نتحدَّث عنها بدون داعٍ، فالصمت هنا هو أبلغُ شيءٍ يمكنُ أن يعبِّر عن كون البشر لا يفصِحون عن مشاعرهم، لذلك كان الصمتُ جزءًا من الشخصيَّات لأنَّها لن تفصح عمَّا تشعرُ به بسهولة.
كيف تؤثِّرُ الذاكرة والحنين على شخصيَّة حسن؟ هل يمكن أن يمنعنا الحنين أحيانًا من المضي قُدمًا؟
أجل وإلى حدٍّ كبير، وأشعرُ أيضا أنَّه جزء من فكرة التخلي، فعندما لا يقدر الشخص على التخلي والانفتاح على تجاربَ جديدةٍ قد يمنعه هذا من إكمالِ حياته، كما أنَّه جزءٌ من فكرة النضج، فكلَّما انفتحَ المرءُ على التجارب الجديدة كلما زاد مقدار النضج لديه، حينها يفهم ويعي متى يتخلَّى حتى يسمح لنفسه بدخولِ تجربةٍ جديدة.
كان حسن في الفيلم متعلقًا بالماضي وبفكرة والده لأنَّه لم ينضج بعد، ولم يستطع تحقيق ذلك إلا عندما مرَّ بتجربةٍ كبيرةٍ في النهاية ساعدته على النضج وعلى إدراك أنَّ الحياة ستستمرُّ به أو بدونه.
هل ترى الفيلم كتأمُّلٍ في الحياة أكثر من كونه نقدًا اجتماعيًا؟ كيف تفاعلَ الجمهور مع هذا الطرح؟ وإلى ماذا تخطِّطُ بعد هذا العمل؟
في نهاية المطاف، يمكن للفيلم أن يبدو كتأمُّل، وليس لديَّ إجابة نموذجيَّة، لأنَّ الفيلم عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأفكار تدور في رأسي عن الحياة والعلاقات والعالم وما إلى ذلك. لهذا أردتُ طرحه كما كان يدور في بالي، كنوع من المشاركة سواء بدا الطرح كتأمُّلٍ أو نقدٍ اجتماعي. في النهاية، هو مشاركةٌ لمجموعةٍ من الأفكار، وما يعنيني هو أن يكون الأمر دعوةً للتفكير، سواء انطوى الفيلم على جزء ناقد أو تأمليٍّ. ولهذا أردتُ طرحَ الفكرة للجمهور حتى نقدرَ على المناقشة والحديث، وهذا أكثر ما شغل بالي.
أما عن تلقِّي الفيلم، فقد كان أعظم مما توقعت، وذلك لأنَّ الأفلام المشابهة لهذا النوع قليلة في مصر وغالبًا ما ينظر إليها كضربٍ من المغامرة، خاصَّةً مع الوضع الاجتماعي الضاغط على الناس حاليًا، فجزءٌ كبيرٌ من الناس قد لا يحبِّذ أن يرى شيئًا يذكِّره بألمه، لكنَّ ردة الفعل كانت مفاجئةً، إذ تلقَّى الناس الفيلمَ تلقِّيًا عظيمًا واستمر الحديث عنه لوقت طويل امتد لحد الآن. لقد صنع الفيلم حالةً عظيمةً من الجدال والنقاش، وهذا ما كان فارقًا بالنسبة لي.
الآن أعمل على عدَّة مشاريع قيد التطوير، وهذه المشاريع هي فيلمَين طويلَين ومسلسل. لا أستطيع قول الكثير عنها لأنَّها ما زالت قيد التطوير، وقد تتغيَّر العديد من الأمور أثناء إعادةِ الكتابة.