يُعتبر المخرج الوثائقي السوري عمر أميرالاي أحد أبرز الرواد والقوى المؤثرة في سينما المؤلف التسجيلية في العالم العربي، بدءا من رحلته مطلع السبعينيات وحتى آخر أيام حياته. حيث تجاوزت مسيرته الخمسين فيلمًا، من بينها «الحياة اليومية في قرية سورية، 1974» و «مصائب قوم، 1981» و«الحب الموءود، 1981» و(في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا، 1996) و«طبق السردين» أو « أول يوم سمعت فيه بإسرائيل، 1997» و«طوفان في بلاد البعث، 2003». أُقر لعمر أميرالاي بمكانته، وتأثر به عدد من المخرجين أمثال محمد سويد وأكرم زعتري. انضم أميرالاي إلى مؤسسة الفيلم العربي، وأعطى فيها عددًا من المحاضرات في كتابة السيناريو والإخراج ونظرية الفيلم وتاريخه.
رشا سلطي: قلتَ إنك لم تنوِ يومًا أن تصبح مخرجًا، لكن ألم تندهش بالسينما على أقل تقدير؟ ألم تأسر خيالك؟
عمر أميرالاي: أتذكر الفيلم الذي أبهرني عندما كنتُ صغيرا: «نزهة» (Picnic, 1955) مع وليام هولدن وكيم نوفاك. لقد لازمني لوقت طويل، ولم أستطع طوال تلك الفترة أن أستبينَ السبب. كنت في العاشرة حين شاهدته في السينما في دمشق، وأصبح يطاردني منذئذ. الفيلم ليس سيئًا على الإطلاق، وأزعم أنه اُعتبر مغامرةً في زمنه. شاهدتُه مرة أخرى عندما غدوت راشدًا، ورغم أنه فيلم ممتع، إلا أني أعجز عن تفسير هوسي به وأنا طفل.
ر س: هل لأن قصة الفيلم جذابة وغير اعتيادية، أم يعود السبب إلى وليام هولدن وكيم نوفاك؟
ع أ: كانت أحداث قصته تدور في 24 ساعة من حياة نجم كرة قدم سابق -وليام هولدن- الذي يزور قرية صغيرة ويحاول إغواء فتاة -كيم نوفاك- التي كانت مخطوبة أو متزوجة أو مرتبطة برجل آخر، لا أستطيع التذكر بالتحديد. في النهاية يرحل هولدن من القرية خائبًا بعدما عجز عن الفوز بها.
ر س: ألم تكن هنالك أفلام عربية أدهشتك أو ألهمتك لصناعة الأفلام؟
ع أ: كانت الأفلام الوثائقية العربية في ذلك الوقت في بداية نشأتها. وعندما كنت في مرحلة التشكل والتأثر، لم توجد أفلام من هذا النوع تحديدا. ما ألهمني حقا لصناعة الأفلام هو شهودي انتفاضة الطلبة في باريس 1968. وقد كان من قبيل المصادفة أنني سجلت في ذلك العام للدراسة في المعهد العالي للدراسات السينمائية IDHEC في باريس. كنت مهتما بالرسم والفنون التشكيلية، ثم ملتُ نحو المسرح. لم آخذ السينما على محمل الجد على الرغم من أن أساتذتنا كانوا مخرجين كبارا مثل جان بيير ميلفيل. ببساطة لم أقدر على أخذ الأفلام الروائية على محمل الجد.
أوقفتْ انتفاضةُ الطلبةِ الدراسةَ، كانت محاضرات ذلك الربيع تقام في حرم (نانتير)، المكان الذي بدأ فيه التمرد. كنت مع صديقي الراحل سعد الله ونّوس نتبع الطلبة في ذلك اليوم وهم يتنقلون من مقرهم الرئيس في حرم (نانتير) إلى الحي اللاتيني. كنتُ أحمل كاميرا 16مم. وصلنا في النهاية إلى شارع (جاي لوساك) حيث رأينا طالبًا يلتقط حصاة من جانب الطريق ويرميها في وجه الشرطة. في نهاية اليوم، رجعتُ إلى المكتب الذي خصصه الطلبة للتواصل الإعلامي وسلّمتهم الصور التي التقطتها.
في اليوم التالي أصبحتُ متحمسًا لتصوير المزيد من الأحداث. منذ ذلك الحين آمنت أن السينما لا تحتاج إلى قصص وشخصيات خيالية. ففي كل حياة، ولدى جميع الناس -صغيرهم وكبيرهم- قصة أكثر دهشةً، لأنهم يمثلون طوال الوقت ويلعبون مختلف الأدوار.
ر س: ماذا عن الأفلام الطويلة؟
ع أ: أولا، لنضع جانبًا فكرة أن مشاهدة عمل أحدهم تحفزني أو تلهمني لصناعة الأفلام. ثمة بعض الأفلام العربية الطويلة التي أكنّ لها تقديرًا واحترامًا خالصين، على الرغم من عدم يقيني العميق في الأفلام الروائية عمومًا. وواحد من هذه الأعمال المحببة لدي هو «بس يا بحر»1 الذي صنعه المخرج خالد الصدّيق في الكويت سنة 1972. يحكي الفيلم عن صيادي اللؤلؤ، وتجارة اللؤلؤ كانت واحدة من أهم مصادر الدخل لدى السكان المحليين قبل اكتشاف النفط.
تعلم الصدّيق الإخراج في حيدر أباد، وفي هذا الفيلم لم يختر ممثلين محترفين، بل جاء بغواصين حقيقيين. وكان التصوير السينمائي لا يوصف، بالإضافة إلى ما في السرد من اتقان. كما تعلمين فإن حياة الغواصين كانت مليئة بالحزن والفقر والمأساة، والصدّيق لم يتنازل عن التوتر الحقيقي في الفيلم، بل لم يزيّف سرديةً كي تتماشى مع تيار السينما السائد. لقد كان مخرجًا رائدًا في الكويت، بل وعاملًا مؤثرًا في الواقعية الجديدة في السينما العربية. ثمة شعر آسر في ذلك الفيلم، شعر ينضح من كل صورة وشخصية.
ر س: هل عُرض الفيلم كثيرا؟ وهل وضع بصمة على ذلك الجيل؟
ع أ: كان الصدّيق حينها مخرجًا مهمًا وواعدًا، صنع بعد «بس يا بحر» فيلمين آخرين وتوقف. لقد غيّر مجال عمله إلى الإعلانات. كان «بس يا بحر» أول أفلام الكويت الطويلة، وشارك في مهرجانات مهمة عالميًا وإقليميًا. اقتبس الصدّيق كذلك رواية الطيب صالح (عرس الزين)، وهي برأيي لفتة جديرة بالنظر، وعلى مخرجي الأفلام الروائية العرب أن يتخذوها أسوة، ذلك أن نقطة الضعف الكبرى لديهم أنهم تحت إغواء فكرة "التأليف الكامل".
ر س: مشكلة هذا الفيلم، مثله مثل غيره من الأفلام التي تخالف السينما السائدة، هي صعوبة الوصول إليه ومشاهدته. وفكرة الإرث ومشاركة المعرفة بالسينما العربية بين الأجيال، محصورة في الأفلام المصرية السائدة. وأي معرفة خارج هذا الصندوق لا تكون إلا نتاج جهد فردي، فأين نجد عروضًا لأفلام مثل «بس يا بحر» اليوم؟ أو حتى قبل 10 سنوات خلت؟
لقد لاحظتُ بعض القنوات الفضائية مؤخرًا تعرض بعض الكلاسيكيات المصرية غير المعروفة، وأفلام أخرى من لبنان وشمال أفريقيا. لقد ساعدني هذا، وآخرين غيري بالتأكيد، على اللحاق بما فات. عمومًا، حديثنا عن «بس يا بحر» يبقى واقعيًا تمامًا.
هلا سمّيت فيلمًا طويلًا مصريًا كان أم عربيًا قدر على تجاوز الحدود؟
ع أ: أعتقد أن جيلنا كان محظوظًا على عديد الأصعدة، لم نكن نحن المؤسسين، لم نجلب السينما إلى مجتمعاتنا. ولكن مع بزوغ نظرية المؤلف والإحتفاء بالذاتية، شعرنا بالفعل أن ثمة ثورة تعصف بهذا الفن، وكنا نحن شعلتها الوقادة. كل شيء كان دانيًا للقطف، وتاريخ السينما كان بين أيدينا لنصنعه. كانت لدينا المهارات، وخلقنا لغة خاصة، وأسسنا المساحات (مثل الأندية والمهرجانات) والمجلات النقدية، لقد وجدنا جمهورنا. لم يكن الأمر سهلًا، فالرياح لم تجر بما اشتهت سفننا. ليس فقط لأنّا انشققنا عن التيار الثقافي العام وسوق الإنتاج الشرقي، بل كنا ننتقد الحكومات رغم المنع القائم عن نقد المؤسسات العامة. على كلٍ، إن تخيل ثقافة مضادة بديلة كان ممكنًا، لذا أسسنا الشبكات وأندية عشاق السينما، نشرنا الكتيبات والمجلات، وتعاون كل منا مع الآخر. وكنا على تواصل مع أقراننا المخرجين والفنانين والمنشقين في المنطقة والعالم. ولكن، وللأسف، تم هدم ما بنيناه، وغُلت أيدينا دون نقل تجاربنا إلى الجيل التالي. لهذا السبب أدافع عن «بس يا بحر»، وليس لي إلا أن أصفه وأحثك على البحث عنه، لا أستطيع أن أسلمك شريط VHS أو DVD، أو أن أرشدك إلى أحد الأرشيفات.
أتفهم إحباطك من الجواب، ولكنني أكرر إنني شكاك حين يتعلق الأمر بالسينما الروائية حتى أوغل في تقدير ما أسميتِه "كلاسيكيات".
ر س: من أين جاءت هذه الشكوكية؟ وهل تشمل كذلك سينما المؤلف؟ لقد أشرتَ في ردك آنفا إلى "التأليف الكامل".
ع أ: إنني لا أفهم الفرضية الأولية، لماذا يقوم شخص ما باختراع قصة، ثم يسأل الممثلين أن يدّعوا أنهم شخصيات أخرى، ويخلق مشاهد وأزياء، في حين تزخر الحياة والتاريخ والذاكرة بشبكة مذهلة من الخيالات. أجد أن الخيالات المُختلّقة في أفلامنا أقل إبهارًا مما أشاهده كل يوم في حيّنا، وفي الشارع، وما يحدث في كل عائلة.
سألتِني عن "التأليف الكامل"، حسنا إن مأزق الكذب يكمن هنا خصوصًا، وهو ولع فُتن به المخرجون العرب أيما فتنة، فأصبحوا يكتبون النص ويخرجون الفيلم. والحقيقة أن المخرج ليس بالضرورة حكّاء جيدًا، أو كاتبًا جيدًا للحوارات. والعالم العربي عامر بالكتاب الرائعين والروائيين الحائزين على عديد الجوائز. وكان التعاون معهم ليصبح مثريًا وغنيًا، إلا أن المخرجين -وبكل أسف- قد أداروا ظهورهم عنهم بشكل صارخ. توجد بالطبع بعض الاستثناءات هنا وهناك، ولكنها قليلة ولا تؤدي لصناعة موجة، فضلًا عن أن تصنع تقليدًا.في المقابل فإن أفلامنا اليوم تبدو وكأنها خيانة لواقعنا المعقد والمذهل، ولطبيعة الناس وكيف تحاك مصائرهم.
ر س: ماذا عن السينما التسجيلية المعاصرة؟
ع أ: من المؤكد أن تطور التكنولوجيا الرقمية وانخفاض التكلفة أديا إلى دمقرطة الإنتاج وجعله متاحًا للجميع، لكننا افتقدنا في الوقت نفسه الانضباط والصرامة في صناعة الأفلام ومقاربة المواضيع. لم يكن بوسعنا تحمل تكاليف التصوير بشكل متأن، حينما كنا نستخدم بكرات 16mm و35mm، لأنها كانت باهظة الثمن. ففي الوثائقيات، الأفلام غير الروائية، نقضي ساعات طويلة في الحديث عن الموضوع، ودراسة الزوايا، ودمج أنفسنا مع القصص والأماكن، لأنه حين يحين موعد التصوير لا يكون بأيدينا إلا عدد قليل من الالتقاطات. وهذا الوقت الذي نقضيه في الحديث والمقاربة العميقة يؤدي في المحصلة إلى المنتج النهائي.
وليس ذلك لأننا نحن المخرجين نتشابك -أو ننغرس- مع القصص، بل لأن غموض كل شخصية وحالتها يصيران شيئا حقيقيًا ملموسًا. اليوم باستخدام الفيديو الرقمي (الديجيتال) ليس لهذه المشكلة وجود، فالمخرجون يملكون الوقت الكافي لتصوير ما يشاؤون للوصول إلى ما يصبون إليه. ذلك الوقت الذي يُزجى في الحديث والمشاركة العميقة بعيدًا عن الكاميرا، انتهى عمليًا. والصرامة والانضباط في المقاربة اللذين ذكرتُهما آنفًا هما الباب نحو سينما المؤلف.
هنالك عدد من المخرجين المثيرين للاهتمام، لديهم ما يكفي من الجرأة والشجاعة لكسر القواعد. وتجربتي في مؤسسة الفيلم العربي عززت إيماني وثقتي. يكمن الجزء الأصعب في محو تصوراتهم المسبقة، وإيصالهم إلى النقطة التي تمكنّهم من إدراك جذري ومختلف للسينما ولغتها وأدواتها. ويلي ذلك صعوبةً هو تعزيز ثقتهم بأنفسهم وذواتهم كي يتجرأوا على إيجاد أصواتهم.