يمثل «مايكل كورليوني» -والذي قام بدوره «آل باتشينو»- في سلسة أفلام «العراب» The Godfather قصة الحلم الأمريكي المجهض، الابن الذي أراد له والده -«الدون فيتو كورليوني»، الدور الأشهر لـ«مارلون براندو»- أن ينشأ خارج تقاليد المافيا العائلية وأعمالها الشنيعة، أن يصبح بطل حرب، ومن ثم يخوض غمار السياسة عضوًا في الكونغرس أو في منصب سياسي رفيع، ربما يساعد أعمال العائلة عبر مكانته السياسية ومن خلال نفوذه، فطموحات العائلة لمايكل أن يبقى نظيف اليد والسمعة، ألا يتلطخ بأوساخ العائلة وقذارة أعمالها، إلا أن الرياح تعاكس رغبات الجميع، فيقوم مايكل بأسوأ ما يمكن أن يقوم به رجل مافيا: قتل رجل شرطة.
تتجلى في حياة مايكل مأساة البشر في صراع تاريخهم الشخصي، وسياقاتهم الاجتماعية، ورغباتهم، وأفعالهم، ثم النتائج التي يحصدونها، والتي يمكن أن تعاكس كل ما حلموا به أو سعوا إليه، فمصير مايكل حُسم قبل ولادته بسنوات طوال، بانحداره من عائلة صقلية محاطة بالمافيا من كل جانب، فرجال المافيا قتلوا جده، ثم قتلوا عمه الطفل الذي أعلن رغبته بالثأر، أما جدته فقُتلت في محاولتها حماية ابنها الصغير، أما والده فجاء طفلاً وحيدًا مهاجرًا إلى نيويورك ليبدأ حياته من الصفر، ثم ينخرط في أعمال المافيا حتى تأسيس عائلته، فورث مايكل مكانة والده وأعماله وأقداره.
في أول ظهور لمايكل في الفيلم، يدخل بلباسه العسكري وأوسمته على صدره إلى حفل زفاف أخته، بصحبة حبيبته وزوجته وأم أطفاله لاحقًا -«كاي آدمز»، والتي قامت بدورها «ديان كيتون»- والتي تبدو مرتابة من سمعة عائلته وجذورها الإيطالية وارتباطها بالعصابات، ويبدو مايكل -«بطل الحرب نظيف السمعة»- غير مهتم بتلميع سجل عائلته، فهو يسرد لكاي قصصًا عن والده تتضمن العبارة الشهيرة «قدمت له عرضًا لا يستطيع رفضه» بكل أريحية، وكأنها قصص تُروى للأطفال قُبيل النوم، فتبدو كاي مندهشة وربما خائفة من هذا الحديث عن أعمال العائلة الذي يبدأ به الفيلم، إلا أن هذه الشفافية تنقلب إلى إنكار تام، فأريحية بطل الحرب في الحديث عن الأعمال القذرة للعائلة تنقلب إلى إنكار تام من العرّاب -مايكل- في النهاية، ففي آخر الفيلم الأول من ثلاثية «العراب»، وعندما تُلِحّ كاي بالسؤال عن حقيقة قتل مايكل لزوج أخته، يغضب ويثور، ثم يقول إنها المرة الوحيدة التي سيسمح فيها لكاي بسؤاله عن «الأعمال»، وبعد سؤالها عن الواقعة، ينفي -يكذب- بحسم. هذه من اللحظات التي يتجلى فيها مايكل بثوبه الجديد المستحق، عرابًا للعائلة.
تأتي نقطة التحول في حياة مايكل بمحاولة اغتيال والده، ثم انتقام مايكل من تاجر المخدرات «سولوزو» الملقب بـ«التركي» مع الشرطي الفاسد الذي يحميه، وهذه خطوة قاتلة لأعمال المافيا، وتقطع صلاتهم بالسياسيين ورجال الشرطة الفاسدين التابعين لهم، كما أن مرتكب هذا الجرم يتعرض للنبذ من عائلات المافيا الخمس الكبرى، وهذا ما يحدث بالفعل، إذ تشتعل حرب طاحنة بين العائلات. يغرق مايكل في مستنقع أعمال العائلة، وتتلطخ حياته بالدماء والجريمة وتتمزق أحلامه السياسية، فيعيش حياة الهرب والمنفى، فيغادر نيويورك، تاركًا حبيبته «كاي آدمز» بلا أي عزاء أو خبر، وتصبح حياته في مهب الريح يحدوها الانتظار والترقب، إلا أن مايكل يعيش وسط هذا الرعب آخر لحظة عابرة ونقية وصادقة في حياته، تمثل كل ما أراده مايكل كورليوني في حياته وفقده: لحظة صقلية، فبعد كل التداعيات القاتلة التي حدثت في حياة مايكل، تأتي لحظة صقلية أشبه بالحلم الجميل العذب، قصة من عالم الشعر والسحر، رواية للأميرات والشجن، الفتى الأمريكي الوسيم القادم من وراء المحيط الذي تخطف قلبه فتاةٌ جميلة وبريئة في جزيرة نائية قصية.
يرى مايكل الفتاة -«أبولونيا»- وهو يتسكع في صقلية مع حمايته الشخصية، ذاهبًا لزيارة مسقط رأسه «كورليون». يعلّق أحد مرافقيه: «لقد ضربته صاعقة». يقف مايكل متسمرًا في مكانه، وأبولونيا كذلك، وكأن الصاعقة قُسمت بينهما بالتساوي. يضيف مرافقه معلقًا: «نساء صقلية أخطر من البنادق»، وهن كذلك، فالبندقية تضرب قلب مايكل في مقتل. يواصلون المسير حتى يصلوا إلى رجل صقلي يضيّفهم في منزله. يبقى مايكل في صمته، فمن تضربه الصاعقة يعجز عن الكلام، بينما يواصل مرافقوه أحاديثهم المشاغبة مع الرجل العجوز الذي يجاريهم بحماس المجرّب والعارف بفتنة النساء وجمال الصقليات، إلا أن الأب ينتفض فجأة بعد أن يصفوا له الفتاة التي يتحدثون عنها، قائلًا: «لا توجد فتاة بهذه المواصفات هنا». يدرك أن ابنته هي الصاعقة التي ضربت قلب مايكل وأثارت أحاديث مرافقيه المشاكسة، فيذهب غاضبًا للحديث مع ابنته، ليفهم حكايات الصاعقة والبندقية والصقليات.
يتعالى الضجيج في بيت الرجل العجوز. يأمر مايكل أحد مرافقيه أن يناديه. يحمل المرافق بندقيته، ويقوم المرافق الآخر بحمل بندقيته أيضًا. يتحدث إليه مايكل بهدوء، يعرّف بنفسه، ويهدده بأن هذه المعلومة قيمة سيخسر حياته لو أفشاها، ثم يطلب منه الزواج من ابنته، ومواعدتها تحت أعين العائلة، طلب مؤدب وواضح. لا يخفي الرجل العجوز إعجابه بمايكل. ربما لم ينتبه حتى للبنادق المحيطة به. يوافق الأب بلا تردد على عرض مايكل رغبة لا رهبة، فتكتسي رحلة صقلية أو منفى الجزيرة النائية بالأحلام الوردية والآمال السعيدة تحت ظلال الحب وآمال العيش الرغيد.
تستمر قصة حب مايكل وأبولونيا. لا تخفى نظرات العاشقين في أعينهم، وكأن مايكل يعود إلى براءته الأولى، قبل أن يتلطخ بالانتقام والدماء. يتطهر مايكل من ذنبه وخيبته بالحب، وبالطمأنينة، ويتجسد الأمان أخيرًا في عيني امرأة بريئة وفاتنة، ذاك النوع من الجمال الساحر الهادئ، الذي إذا تمكّن من قلب رجل يغرز فيه حتى النهاية. مع كل هذه الحياة الجديدة والحالمة، نجد مايكل منشدًا إلى قدره، فهو ينتظر لحظة عودته إلى نيويورك بفارغ الصبر، متلهفًا إلى عائلة لم يسمع أخبارها، وأب جريح يجهل مصيره، وحرب طاحنة لا يعرف قتلاها، وشبح انتقام يحيط به.
لا يتزحزح مايكل كورليوني عن قدره، فهو لم يُخلق للحب والطمأنينة والسكينة والسعادة، فهو ابن الكراهية والانتقام، توأم القلق والحزن، مصيره الدائم الفقد والألم. تتفجر حياة مايكل على حين غرة. تحترق أحلامه الوردية في جحيم الخيانة؛ تُدبر محاولة لاغتيال مايكل بتفجير سيارته في صقلية بتواطؤ أحد مرافقيه. تُلغم السيارة وتنتظر هدفها بلهفة، إلا أنها تخطئ جسده وتصيب روحه إلى الأبد. استغراقًا في السكينة، يبدأ مايكل بتعليم أبولونيا قيادة السيارة، وبحماس البدايات ترغب أبولونيا بالقيادة طوال الوقت، فتنتظره خلف المقود مستخدمة المنبه لتفاجئه بأنها من ستقود السيارة إلى مكان اختفائهما الجديد بعد أن أصبحت حياة مايكل في صقلية مهددة بعد مقتل أخيه «سوني»، إلا أن أقدار مايكل تسبقه، فتنفجر السيارة، تخطئ هدفها -مايكل- لكنها تقتل كل ما في داخله، لتبقى تلك اللحظة جرحًا غائرًا في حياة مايكل حتى أيامه الأخيرة.
ربما تكون لحظة مقتل أبولونيا تحت أنظار مايكل لحظة ارتطامه بحتمية مصيره، اللحظة التي يعرف فيها أن حياته منذورة للقتل والدماء، لحروب المافيا والانتقام، لخطط الاغتيال ومكائد الإطاحة بالخصوم، فتنفجر بعد هذه اللحظة حياة مايكل ليصبح ما هو عليه، عرابًا شرسًا يقتل بلا تمييز، فالبراءة التي عاشها في صقلية مع أبولونيا، والتي فقدها بسبب الغدر، لن تُسترجع إلا في عيون ابنته «ماري» في الجزء الثالث من السلسلة الأشهر في تاريخ السينما، إلا أن مايكل -قبيل مقتل ابنته ماري- يتحدث لابنه وابنته عن لحظة صقلية تلك، الفردوس المفقود، فيتذكر بنحيب مكتوم أبولونيا خلال غناء ابنه «أنطونيو» لأغنية صقلية حزينة، بل إن مايكل يأخذ كاي إلى صقلية ليسترجع تلك الأيام، ويدور حوار بينه وبينها عن الشوق، اشتياقه إليها وإلى أطفاله في منفاه، فتقول كاي: «الشوق الذي جعلك تتزوج أبولونيا»، ليرد مايكل: «لم يمر يوم دون أن أفكر فيك وفي الأطفال»، وربما يكون صادقًا.
علاقة مايكل مع الموت شائكة. يسلب الموت منه كل شيء إلا روحه، يتركه ليُعاني ويتعذب، فهذا الوحش الذي افتقد الحب والبراءة مبكرًا يفقد ما تبقّى له من مشاعر باغتيال ابنته ماري بين أحضانه، اغتيالها بالخطأ، فهو المستهدف دائمًا، وهو الذي ينجو دائمًا، إلا أنه ينجو مهشّمًا منزوع الروح، وربما كانت أشهر صرخة في تاريخ السينما شاهدة على هذه الروح المهشمة.