السينما المصرية: من البدايات حتى السينما الجديدة

September 2, 2024

من «قُبلة في الصحراء» و«ليلى» كانت البداية. عُرض فيلم «قبلة في الصحراء» من إخراج «إبراهيم لاما» في يوم 5 أيار من العام 1927 وكان أول تجربة روائية طويلة «صامتة» للسينما المصرية، وأولى إنتاجات السينما المصرية ككل. عُرض الفيلم في سينما «الكوزمو غراف» بالإسكندرية بعد جهود كبيرة لتحقيق فيلم المخرجين الأخوين «بدر» و«إبراهيم لاما»، مع وجود محاولات سينمائية أخرى لفنانين آخرين قبل الفيلم الطويل، من ضمنها تجربة المصور الإيطالي «ألفيزي أورفانيللي» حيث قام بتصوير فيلم قصير بمشاركة عدد من الهواة الإيطاليين والمصريين، ومحاولات أخرى مماثلة، إلا أن الفيلم الذي يحظى ببعض الأهمية خصوصًا عند المؤرخين هو فيلم «ليلى» من إخراج «ستيفان روستي»، إنتاج وبطولة «عزيزة أمير»، الفيلم الذي عُرض يوم 16 تشرين الثاني من العام 1927، أي نفس عام عرض فيلم «قبلة في الصحراء». كان من المقرر لفيلم «ليلى» أن يخرجه الشاب «وداد عرفي» وهو شاب قدم من تركيا إلى القاهرة عام 1926 ولم يمر وقت طويل بعد إقناعه «عزيزة أمير» بإنتاج الفيلم حتى نشبت بينهما مشكلات عديدة منها البطء في العمل، مما جعلها تستبدل المخرج «ستيفان روستي» بالمخرج الشاب، وربما يحظى الفيلم بأهمية كبرى عن «قبلة في الصحراء» فعلى الرغم من عرضهما في العام ذاته، فإن حفل افتتاح عرض فيلم «ليلى» كان حدثًا ضخمًا، حيث دُعي إلى الحفلة شخصيات وأسماء ذات أهمية، منهم الشاعر «أحمد شوقي» و«طلعت حرب». حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا مقارنة بالفيلم الأول واهتمت به الصحافة اهتمامًا كبيرًا. علق «أحمد شوقي» على العمل: «أرجو أن أرى هذا الهلال ينمو حتى يصبح بدرًا كاملًا».

عملان صامتان حققا القدر الكافي من الأهمية والنجاح في العام الأول للسينما المصرية، إلا أن التجربة الأهم في السينما المصرية الصامتة -استنادًا إلى رأي المؤرخ «جان الكسان»- كان فيلم «زينب» من إخراج «محمد كريم». الفيلم الذي عُرض في 12 آذار عام 1930 كان الفيلم الأول المقتبَس من عمل أدبي، فبحسب المؤرخ كانت قصة «زينب» هي أول قصة مصرية منشورة، كتبها «محمد حسين هيكل» في فترة دراسته للقانون في فرنسا عام 1910، ونُشرت عام 1914، ولكنه لم ينشرها باسمه إذ كُتب على الغلاف «مناظر وأخلاق ريفية.. بقلم مصري فلاح». كان «محمد كريم» قد قرأ القصة عندما كان يدرس السينما في ألمانيا وقام بكتابة سيناريو ليخرجها على الشاشة، إلا أنه لم يجد من يعاونه على إنتاج العمل. حتى في ألمانيا رفضته شركة «أوفا» السينمائية عندما قدّم السيناريو في مشروع لإنتاج فيلم مصري-ألماني مشترك، ورفضه المنتجون في القاهرة لعدم رغبتهم في إنتاج فيلم تدور قصته في الريف وأبطاله من الفلاحين، إلا أن «محمد كريم» صمم على إنتاج «زينب».

لجأ «كريم» إلى صديقه «يوسف وهبي» وعرض عليه إنتاج الفيلم بتكلفة لا تزيد عن 500 جنيه مصري. وافق «يوسف وهبي» وبدأ العمل الشاق حيث لم يكن هناك استوديوهات سينما في ذلك الوقت، وكانت الكاميرا تعمل باليد. حتى الإضاءة كانت تتم بواسطة مرايا يُلصق عليها قطعة من القماش أو لوحة كبيرة مغطاة بالورق تعكس الشمس على وجوه الممثلين. ما جعل هذا العمل مُختلفًا ومُبتكرًا هو تقديمه لمشهد واحد ملوّن وهو مشهد زينب في السوق تشتري الحلى والملابس استعدادًا للفرح. صُوّر المشهد على فيلم بالأبيض والأسود ومن ثم أُرسل إلى باريس ليتم تلوينه يدويًا. كان طول المشهد 400 متر، وكان أجر التلوين جنيهًا واحدًا للمتر، أي أن هذا المشهد كلّف المنتج أكثر من نصف تكلفة الفيلم بأكمله.

كان العمل هو أول عمل يُظهر القرية المصرية على الشاشة. تمت تصوير مشاهده عام 1928 في قرى محافظات الشرقية والقليوبية والفيوم، وبصعوبة استطاعوا التصوير في شوارع القرية أمام بيوت حقيقية. عُرض الفيلم في سينما «متروبول» وحقق نجاحًا كبيرًا أدهش حتى أصحاب دور العرض الذين حاولوا وضع عراقيل لمنع عرض الفيلم بحجة أن المشاهدين لن يشاهدوا فيلمًا تجري أحداثه في الريف. بعد نجاح العمل أعاد مؤلف القصة طبعها في كتاب مع وضع اسمه على الغلاف تلك المرة.

نطقت السينما المصرية في 14 آذار 1932 من خلال فيلم «أولاد الذوات»، إلا أن السينما المصرية وقتها لم تكن ناضجة بشكل كافٍ لنقول إن دخول الصوت عليها كان مؤشرَ تطور أو نضج فني بأي شكل، خصوصًا أن المرحلة السينمائية الصامتة في مصر لم تتجاوز أكثر من خمس سنوات، ولم تحقق أو تساهم في إنشاء أي قاعدة أو أسلوب فني، فلم يكن هناك كُتّاب للسينما أو مخرجون مُبتكِرون. وعليه، لم يتغير أي شيء من الناحية الفنية، إذ كانت الصناعة السينمائية وقتها ولفترة طويلة محدودةً وضعيفةً وتشابهت قصص وحبكات الأفلام المطروحة على الرغم من قلة عددها، إلا أن التغيير الوحيد الذي طرأ كان في جذب شريحة كبيرة من الجمهور المصري غير المتعلِم نظرًا لاعتماد السينما على الحوار كما في المسرح. كان «أولاد الذوات» ثاني فيلم يخرجه المخرج «محمد كريم» وشارك في إنتاجه «يوسف وهبي» مرة أخرى، إلا أنه قام بدور البطولة، وشارك في الفيلم أعضاء الفرقة المسرحية «رمسيس». اشترك في التمثيل: «يوسف وهبي»، و«أمينة رزق»، و«سراج منير»، و«دولت أبيض»، و«حسن البارودي»، والممثلة الفرنسية «كوليت دار فاي». صُور العمل في استديو سينمائي أنشأه «يوسف وهبي» عام 1931.

تعددت المحاولات الإنتاجية في تلك الفترة، إلا أن تأثير غياب النضج الفني كان واضحًا بقوة، سواء في أفلام المخرجين الأجانب -مثل العمل الذي قدمه المخرج «ماريو فولبي» بعنوان «أنشودة الفؤاد» عام 1932، الفيلم الذي جاء بقصة تكاد تتطابق مع قصة «أولاد الذوات» إلا أن الفيلم كان أكثر مللًا، حتى إن الكاميرا كانت ثابتة في أوقات طويلة من العمل- أو في الإنتاجات المصرية، مثل فيلم «تحت ضوء القمر» للمخرج «شكري ماضي» الذي عُرض في نفس العام، والذي كانت تجربة عرضه كوميديةً في صالة العرض. لم يكن الفيلم كوميديًا ولكن ما حدث أن سرعة دوران أسطوانة الصوت اختلفت عن سرعة دوران الفيلم ذاته، مما تسبب فى مفارقات تثير الضحك وتُفقد الفيلم جديته وموضوعيته، فمثلًا نرى مشهدًا لممثل يتحدث وفي نفس الوقت نسمع صوتًا من جملة سابقة لممثلة انتهى مشهدها وهكذا، فضلًا عن ضعف الأداء التمثيلي الذي وصفه المؤرخون بالكارثي، حتى إن الماكياج كان هزيلًا إذ تتدلى اللحى عن وجوه الممثلين بشكل واضح، لذا لم يكن من الغريب أن يفشل الفيلم بشكل كارثي.

اتسمت تلك الفترة بعشوائية بائسة وإنتاجات لمجرد الإنتاج فقط دون أي عملية بمعظم الجوانب الفنية الهامة. برزت أيضًا ظاهرة التعامل مع العملية الإخراجية بسذاجة شديدة -كما يحدث الآن- إذ كان هناك بعض الممثلات يُخرجن أفلامهن إلى جانب تولي مسؤولية تأليفها وإنتاجها والتمثيل فيها أيضًا، لأسباب مالية وأيضًا لعدم وجود أي نضج أو اتجاه واضح لتلك المرحلة. ومع غياب عديدٍ من العوامل الفنية وبالطبع صعوبة الدراسة السينمائية حينذاك، كان رواد تلك المرحلة هم: «محمد كريم»، و«أحمد جلال»، و«توجو مزراحي».

قدّم «أحمد جلال» تجارب جريئة ومطلوبة لتلك الفترة، فهو أول من قدّم فيلم خيال علمي مصري -«عيون ساحرة» عام 1933- في خطوة جريئة غير متوقعة لعدم توفر استوديوهات مجهزة بآلات حديثة لازمة لإتمام عمل كهذا، وعلى الرغم من صعوبة التحدي فإنه نجح، كونه المخرج والسيناريست للعمل، في تقديم فيلم متماسك، مُقنع للمشاهد، بلغة سينمائية جديدة حيث قلّ الحوار مع حركة الكاميرا. وبعد عامين كان أيضًا أول من قدّم للسينما المصرية عملًا تاريخيًا وهو فيلم «شجرة الدر». قام بإعداد السيناريو عن قصة من تأليف «جرجي زيدان» مؤسس دار الهلال، وتم التصوير في فندق «هليوبوليس» بمصر الجديدة.

أما «توجو» فكان من الإسكندرية وبدأ حياته الفنية هُناك، حتى إن معظم الأفلام المصرية الأولى أُنتجت هناك. هو الآخر كان يُخرج وينتج ويمثل أفلامه، إلا أنه اختلف وتميّز بعدة أشياء. كان من أوائل من استخدموا الفوتومونتاج ليعبّر عن مرحلة انتقال في تطور السرد القصصي، بينما كان الشائع وقتها السرد عن طريق الحوار فقط. دارت معظم إنتاجاته حول الموضوعات الاجتماعية والكوميديا، وتعاون مع عديدٍ من الأسماء ذائعة الصيت حيث كان هو من اكتشف «ليلى مراد» وتعاون مع «تحية كاريوكا» وأنتج لـ«أم كلثوم» فيلم «سلامة». اشتُهر أيضًا بسرعة إنتاجه فقد أتم تصوير فيلم «سلفني 3 جنيه» في أسبوع واحد.

ومن «توجو» إلى «محمد كريم»، مرة أخرى حيث يُكلِل جهود تلك المرحلة السينمائية -مرحلة ما قبل «استوديو مصر»- بثالث تجاربه الإخراجية «الوردة البيضاء»، الفيلم الذي قام ببطولته «محمد عبدالوهاب» وحقق من خلاله نجاحًا مُبهرًا وأرباحًا زادت عن ربع مليون جنيه، وهو رقم خيالي بالرجوع إلى ذلك الوقت. تضمن الفيلم ثماني أغنيات ألّف الشاعر «أحمد رامي» خمسًا منها وهي: «وردة الحب»، «ناداني قلبي إليك»، «يا اللي شجاك أنيني»، «يا لوعتي يا شقايا»، و«ضحيت غرامي»، والأغنية السادسة -«نيل النجاشي»- كانت للشاعر «أحمد شوقي»، والسابعة كانت موالًا قديمًا، أما الأغنية الثامنة كانت للشاعر اللبناني «بشارة الخوري» وهي قصيدة «جفنه عَلّم الغزل». استمر الفيلم في العرض حتى بعد سنوات من العرض الأول وبالطبع يرجع ذلك إلى الشهرة الكبيرة للمطرب «محمد عبدالوهاب».

لم تشهد تلك الفترة إلا عددًا قليلًا من الأعمال الجيدة، إلا أن دخول الصوت على السينما المصرية كان له تأثير قوي وتبعات لما بعد تلك المرحلة، أهمها حينذاك دخول الأغاني في الأفلام في فترة ذهبية من التاريخ الغنائي المصري والعربي. كيف لا ونحن نتحدث عن «أم كلثوم» و«محمد عبدالوهاب» و«أسمهان» و«ليلى مراد» وعديدٍ من الأعلام؟ حتى إن حضر بعضهم على الشاشة لأسباب دعائية فإن أغلب الأعمال المُتضمنة مشاركتهم لم تفقد أيًا من جديتها أو قيمتها الفنية. مع بداية دخول الصوت إلى السينما المصرية ازدادت جماهيرية السينما مع عدم وجود أي هامش تطور فني للأعمال نفسها، أما بالنسبة إلى الأفلام الغنائية أو حتى الأفلام المتضمِنة لبعض الأغاني، اختلف الأمر حيث إنها تراوحت ما بين كونها أعمالًا مقبولة أو جيدة على المستوى الفني والجماهيري. عملية الترجمة نفسها فيما يخص الفيلم الأجنبي، أصبحت تُطبع الترجمة مُرفَقة مع الفيلم نفسه على الشاشة حيث كانت في الماضي تظهر على شاشة صغيرة مجاورة لشاشة العرض، لذا كان من المُرهق النظر إلى شاشة العرض ومن ثم النظر إلى شاشة الترجمة وهكذا. ساهم أيضًا ظهور شركات التوزيع في عديدٍ من التسهيلات، إذ كان قبلها يُضطَر المُنتج إلى أن يتفاوض مع دور العرض بنفسه حتى تَوَلّت شركات التوزيع تلك المهمة. دور العرض نفسها حظيت بفرص لانتشار واسع في الأقاليم ومدن الوجهين القبلي والبحري، والأهم هو انتشار الفيلم المصري في الوطن العربي ومنافسته للأفلام الأجنبية، والانتشار الواسع للهجة المصرية.

كل تلك العوامل ساهمت في تأسيس اتجاه فني واضح ومناخ سينمائي حتى خارج الصناعة نفسها، خاصة مع ظهور المجلات الفنية مما يُعدّ رد فعل طبيعيًا للتطور والاستقرار الفني -مجلات مثل «الكواكب» و «فن السينما» اللتان أُصدرتا عام 1933- و ظهور عديدٍ من كُتّاب السينما المصرية والنقاد المصريين بعد أن فتحت الجرائد لهم صفحاتها.

انتقلت السينما المصرية إلى مرحلة أخرى أكثر تطورًا وهي مرحلة «استوديو مصر» بعد أن تم بناؤه وتجهيزه، وكانت تلك المرحلة بمثابة مدرسة جديدة للسينما المصرية. كان فيلم «وداد» هو أول فيلم يُصوَّر في «استوديو مصر». قامت ببطولته «أم كلثوم» وكان من تأليف وحوار الشاعر «أحمد رامي» وقام «أحمد بدرخان» -وهو أول مصري يدرس الإخراج في باريس- بإعداد السيناريو، وأخرج الفيلم المخرج الألماني «فريتز كرامب». كان فيلم «وداد» أول فيلم مصري يُعرض في مهرجان دولي للسينما إذ عُرض في مهرجان البندقية السينمائي عام 1936.

كثرت الأفلام الغنائية في بداية تلك المرحلة التي امتزجت فيها عناصر الساحة الغنائية مع الساحة السينمائية، إذ نجد مثلًا «محمد كريم» ينتج خمسة أفلام غنائية، جميعهم من بطولة «محمد عبدالوهاب»، وفي كل فيلم يقدّم ممثلةً جديدة لدور البطولة أمامه، وبما أننا نقتفي أثر المؤرخين لتلك المراحل التي ربما لم نشاهد منها شيئًا لتلف أو فقدان أعمال عديدة، نقر بأهمية الأعمال بحسب تدويناتهم عنها. في تلك المرحلة مثلًا يؤكد المؤرخ الفرنسي «جورج سادول» -بعدما شاهد عددًا من الأفلام المصرية القديمة عام 1965 وأبدى إعجابه الشديد بفيلم «العزيمة» من إخراج «كمال سليم»- على أنه وجد الفيلم على مستوى فني عالٍ فاق تصوراته عن الفيلم المصري في الفترة من 1930-1945، كتب عنه في كتابه «قاموس الأفلام» واعتَبر «كمال سليم» مخرجًا من أحسن مخرجي السينما في العالم. لم تأتِ تلك المرحلة بأفلام ذات مستوى عالٍ إذا استثنينا أفلامًا مثل «العزيمة» و«غرام وانتقام»، إلا أن وجود «استوديو مصر» في تلك الفترة خفّف أعباء كثيرة على المخرجين من النواحي الفنية للعمل مثل الديكور والمصورين والكُتاب وحتى نظام العمل نفسه الذي تحرر نوعًا ما من إزعاج ومطاردة المُنتجين.

في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية اتخذ الإنتاج السينمائي منحىً آخر حيث كثرت الإنتاجات بشدة دون أي عناية بالمحتوى الفني مرة أخرى، فمثلًا في موسم 1945-1946، وصل عدد الأفلام المُنتَجة إلى 67 فيلمًا وهو عدد ضخم لموسم واحد. اتفق عدد من المؤرخين على أن تلك الفترة هي بداية ظهور «الأفلام الهابطة» التي تعتمد على قصص ساذجة ومدة تصوير قصيرة بغرض تحقيق أعلى ربح تجاري ممكن. وبجانب تلك الموجة لمع اسم مخرج جديد من تلامذة «استوديو مصر» وهو المخرج «صلاح أبو سيف» الذي قدّم باكورة أعماله «دايمًا في قلبي» عام 1946، الفيلم المُقتبَس من الفيلم الإنجليزي «جسر واترلو». فيه قامت «عقيلة راتب» بالدور الذي مثّلته «فيفيان لي»، وقام «عماد حمدي» -الوجه الجديد حينذاك- بتقديم الدور الذي مثّله «روبرت تايلور».

ومع ذلك لم تُكلّل جهود «صلاح أبو سيف» أو «كامل التلمساني» الذي أنتج فيلمًا واقعيًا -«السوق السوداء»- امتدادًا لمدرسة «كمال سليم»، ومع فشل الفيلم تجاريًا على الرغم من كونه مقبولًا من الناحية الفنية، اتجه لإخراج عدة أفلام تجارية على شاكلة الأفلام الناجحة في شباك التذاكر حتى اعتزل الإخراج نهائيًا في أواخر الخمسينيات. ولسوء الأوضاع على الساحة السينمائية، قررت الحكومة عمل مسابقة للسينما عن موسم 1950-1951 وتشكلت لجنة تحكيم على رأسها «توفيق الحكيم»، و«عزيز أباظة»، و«محمد زكي عبدالقادر»، و«محمد حسن»، و«محمود الشريف».

حصل «أحمد بدرخان» على جائزة الإخراج عن فيلمه «ليلة غرام» كما حصد الفيلم جائزة أحسن ممثل -«حسين رياض»- وجائزة أحسن دور ثانوي للممثلة «ماجدة»، أما جائزة أحسن ممثلة فذهبت إلى «فاتن حمامة» عن دورها في فيلم «أنا الماضي». شددت اللجنة التحكيمية في تقريرها على أهمية المعالجة الفكرية والحوار في الفيلم معالجةً سينمائيةً خالصة في إشارة إلى ضرورة وجود كُتاب سيناريو، وهؤلاء لم يكن لهم وجود في مصر حتى ذلك الوقت.

تطورت السينما المصرية في مرحلة ما بعد ثورة 23 يوليو -أي من 1952 حتى 1963- بشيء من الحذر. امتدت آثار سينما ما بعد الحرب العالمية الثانية من أفلام تجارية دون المستوى، إلا أن رائد تلك المرحلة -وكما أشرنا إلى محاولة خروجه عن السرب سابقًا- كان المخرج «صلاح أبو سيف» حيث تمسّك بتقديم أفلام واقعية تعبّر عن رؤيته هو لا عما يريده شباك التذاكر. قدّم «صلاح أبو سيف» في تلك الفترة ستة أفلام كانت سبب شهرته وشهرة اتجاهه الواقعي وهي: «لك يوم يا ظالم»، و«الأسطى حسن»، و«ريا وسكينة»، و«الوحش»، و«شباب امرأة»، و«الفتوة».

عملت أفلام «صلاح أبو سيف» على تغيير طريقة صُنع الفيلم عند كثيرين من المخرجين في مصر، حيث لم يكن من المتعارف عليه في الصناعة أن تختار موضوع الفيلم أولًا ومن ثم تبدأ في كتابة قصته، وعليه، كانت تلك الأفلام مختلفة عن المعتاد في الفيلم المصري، وبالطبع، باعتباره مخرجًا واقعيًا لم يكتفِ بتقديم مستوى فني طيب فحسب، بل كان يهتم أيضًا بالنقد الاجتماعي وطرح مسائل الخوف والشر والخيانة وتسليط الضوء على مشكلات متأصلة في المجتمع ومشكلات سياسية. يمكننا القول إن «صلاح أبو سيف» فتح الباب لاتجاه جديد وموضوعات جديدة في السينما المصرية، إذ نجد «يوسف شاهين» يقدّم فيلم «صراع في الوادي» و«سجين أبو زعبل» من إخراج «نيازي مصطفى»، وعديدًا من الأفلام الأخرى التي تضمنت قضايا تاريخية ومنها الأفلام المناهضة للاستعمار.

كانت تلك الفترة بداية انتهاء عصر المُنتجين الأفراد الأجانب أو المتمصّرين، فقبل ظهور الإنتاج العام كان الإنتاج يعتمد على هؤلاء المنتجين أو على «منتجي الحرب» كما يصفهم «جان الكسان»، وهم منتجون لا يهتمون إلا بالتجارة من خلال الأفلام دون المستوى لإنجاز أكبر قدر من الأعمال وحصد أعلى إيرادات دون تقديم أي جديد أو أي مستوى جيد. ومع انتهاء تلك الفترة لم تنتهِ المعاناة بالنسبة إلى المخرج المصري، وبالحديث عن المعاناة نتطرق بالطبع إلى المعاناة الأزلية مع الرقابة المصرية، فمثلًا حاول «صلاح أبو سيف» استخراج تصريح لإخراج رواية نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة»، وقدّمها للرقابة ست مرات بأسماء مختلفة جميعها رُفضت حتى استطاع بعد عشرين سنة أن يقدمها بعنوان «القاهرة 30». من أهم أسماء تلك المرحلة: «كمال الشيخ»، و«يوسف شاهين»، و«توفيق صالح»، و«عاطف سالم».

برز اسم «كمال الشيخ» بعد تقديمه فيلم «حياة أو موت»، أما «يوسف شاهين» فقد لمع اسمه بعد تقديمه «صراع في الوادي» ويحسب له في تلك التجربة أنه من اكتشف «عمر الشريف» في عمل اشترك فيه «فريد شوقي» و«فاتن حمامة» و«زكي رستم»، في عمل ناقش الإقطاعية والاستبداد. ترك «يوسف شاهين» انطباعًا جيدًا بعد أن لفت الأنظار إليه خاصة بعد تجربته الفنية العظيمة «باب الحديد» وهو بلا شك عمل أيقوني من علامات السينما المصرية.

عُرفت تلك الفترة أيضًا باتجاه المنتجين إلى الأدباء والأعمال الأدبية الكبيرة افتراضًا منهم أنها قد تؤثر على شباك التذاكر دون الإخلال بالسيناريو في نفس الوقت، وهو ما يحقق المعادلة الصعبة للجمع بين كون الفيلم تجاريًا وعلى قيمة فنية عالية في نفس الوقت، الأمر الذي لم يحدث كثيرًا -رغم المحاولات- إلا في بعض الحالات، مثلًا حينما تقاضى «إحسان عبدالقدوس» أكبر أجر دُفع لمؤلف وقتها -كان أربعة آلاف جنيه مصري- ليتم إنتاج أفلام من تأليفه وهي: «الوسادة الخالية»، و«لا أنام»، و«الطريق المسدود»، و«لا تطفئ الشمس»، وكانت الأفلام من إخراج «صلاح أبو سيف».

قُدّم في تلك الفترة -من 1952 إلى 1963- أكثر من 600 فيلم مصري. ومع أزمة التضخم والمستوى المتدني في كتابة السيناريو المصري وقلة عدد الكُتاب، أُنشئ معهد السينما عام 1959 ومعهد السيناريو عام 1963 وإلى جانب المعهدين -حيث لم تُتَح الفرصة لخرّيجيهما بشكل حقيقي- بحثت وزارة الثقافة عن حل لإنقاذ الصناعة، وبدلًا من تأسيس مؤسسة دعم السينما عام 1957 اتجهوا للإنتاج السينمائي عبر تأسيس مؤسسة السينما عام 1962. ومنذ الإعلان عن دخول المؤسسة إلى الساحة الإنتاجية، دخلت السينما المصرية في مرحلة القطاع العام وتراجعت الشركة الخاصة عن الإنتاج مؤقتًا لدراسة تلك الخطوة وتبعاتها على المجال الفني، إلا أن تسرُّع المؤسسة ورغبتها في إثبات وجودها في الميدان دون أي دراسة أو تخطيط أو بوادر لمشروعٍ ما، أدى إلى تكرار المأساة السابقة المتمثلة في إنتاج أفلام تجارية قليلة التكلفة، وهي المشكلة التي على أساسها أُسست تلك المؤسسة لحلها! وبالتالي لم يكن هناك مبرر لخوف القطاع الخاص من الإنتاج حال وجود القطاع العام المتمثل في مؤسسة السينما، وعاد القطاع الخاص إلى الإنتاج بينما انشغلت المؤسسة بتقديم أفلام من الدرجة الثانية، أفلام لاقت نقدًا قاسيًا من النقاد والصحفيين المرتبطين بالسينما في مصر، وعليه، حاولت المؤسسة أن تنتج نوعية أخرى من الأفلام فقدمت أعمالًا مثل «صغيرة على الحب»، و«الخائنة»، و«القبلة الأخيرة»، و«عندما نحب»، وأفلامًا أخرى على تلك الشاكلة لم تلقَ وقتها أي احتفاء أو تقدير، بل كانت نموذجًا للفيلم السيئ في مجتمع اشتراكي حيث لم تقدِّم أي مشكلة أو تصور حقيقي للحياة الاجتماعية في الستينيات، بل كانت فقط تكرارًا للأفلام الرديئة التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية.

أفسحت المؤسسة المجال وغيّرت بعض السياسات -حتى ولو بشكل مؤقت- للدفع بدم جديد في شرايين السينما المصرية عن طريق إنتاج أفلام مثل «ثورة اليمن» من إخراج «عاطف سالم»، وفيلم «القاهرة 30» من إخراج «صلاح أبو سيف»، وفيلم «السمان والخريف» من إخراج «حسام الدين مصطفى». وعلى الرغم من محاولات إعادة النظر في سياسة المؤسسة التابعة للقطاع العام، فقد باءت جميع المحاولات بالفشل مع ضغوط القطاع الخاص على الدولة لإنهاء دور القطاع العام، ويعود القطاع الخاص مرة أخرى لتصدُّر المشهد مع حصر دور المؤسسة في تمويل ودعم المنتجين فحسب. وفي نفس العام أعلنت جماعة السينما الجديدة عن نفسها في أيار 1968، مُصدرين بيانًا ضد المفهوم التقليدي للإنتاج السينمائي في مصر، وعبّروا عن استيائهم من عدم ظهور أي مفكر سينمائي يقف إلى جانب السينمائيين أصحاب التيارات مثل «روسيليني» و«بيرغمان» و«أنطونيوني».

أكّد البيان على أن السينما هي فن يقوم على أسس علمية وعلى معرفة بخصائص الضوء وكيمياء الفيلم وحساسيته، وعلى موقف يتخذه السينمائي من التيارات المعاصرة في الموسيقى، فالسينما فن يجمع جميع الفنون التي عرفها الإنسان حتى الآن في عضوية مستقلة، ولا يمكن تحقيق هذه الوحدة إلا على أسس علمية، مشيرًا إلى سبب انصراف الجمهور عن السينما المصرية نظرًا لأنها تعجز عن تحقيق تلك الوحدة ولا تستطيع مخاطبة مشاعر الجماهير أو حتى تحريك أفكارها، وأن حجة السينمائيين بضعف الإمكانات ومعدّات التصوير هي حجة فاشلة، وأن المشكلة تكمن في الإنسان الذي يستخدم الآلة، كما شدد البيان على ضرورة الخروج من الاستوديو. حدد البيان سبب الأزمة في النظام الإنتاجي لأنه في الأساس يخلق سيناريوهات لا تقوم على تحليل الواقع الإنساني أو مناقشة أي قضية اجتماعية بشكل ما، بل هدفه هو خلق جو ساحر للنجوم على الشاشة، وأوضح البيان مطالبات صريحة وهي أن تتعمق السينما المصرية في حركة المجتمع لتدرس وتحلل علاقاته الجديدة وتكشف عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات. ودعى أيضًا إلى أن تكون السينما واقعية أصيلة الموضوعات عالمية التقنية، لتستعيد جمهورها وتنتشر انتشارًا عالميًا.

ومع كل هذا كمنت المشكلة في جماعة السينما الجديدة لكثرة الاختلافات الفكرية والتوجهات ووجود عديد من التناقضات، فكان معظمهم يبحثون عن فرصة لعمل سينمائي في المؤسسات الرسمية عن طريق الضغط عليهم للحصول على تنازلات يمكنهم من خلالها تقديم أنفسهم وإخلاصهم أيضًا، وهو على النقيض تمامًا من مضمون البيان الثائر. لا أجزم أنها بالكامل كانت جماعة استغلالية، إلا أن معظم المنتمين إليها خالفوا مبادئ البيان الأول وساهموا في إرجاع السينما إلى عصر التخلف والسيطرة الذي جاء هذا المجتمع للقضاء عليه في المقام الأول، فأصبح مشاركًا فيه نتيجة لعدم دراسة الدوافع جيدًا، وربما بسبب نفاق واستغلال وغرور بعضهم، حيث أشار «أمير العمري» في دراسة عن الجماعة إلى أنها جمع من خريجي معهد السينما وهم موقنون أنهم المؤهلون دونًا عن غيرهم للعمل السينمائي بحكم دراستهم، حتى صرّح «فؤاد التهامي» المتحدث باسم السينمائيين الشباب في مهرجان دمشق الأول لسينما الشباب عام 1972 بأنهم ليسوا امتدادًا للفراغ، بل إنهم جيل يمتد من المحاولات الجادة للسينما المصرية عبر تاريخها، معتبرين أنفسهم امتدادًا لـ«كمال سليم» و«كامل التلمساني» و«يوسف شاهين» و«صلاح أبو سيف».

وبعد عناء طويل ومفاوضات مع المؤسسة لإنتاج أعمال لجماعة السينما، وبعد محاولتين فاشلتين مع «علي عبدالخالق» والمخرج الفلسطيني «غالب شعث»، أُغلقت المؤسسة وسقطت الخطط الإنتاجية المشتركة مع الجماعة واتجه معظم أعضائها إلى العمل في السينما التجارية، وقليل منهم بقي على نفس المبادئ الأولى المعلنة، حتى ظهرت تجارب أخرى شبابية الهدف منها هو صُنع سينما شاعرية بسيطة قائمة على محاولة صنع السينما بشكل جيد فقط لا التغيير في قواعد صناعتها، وهكذا تكوّن في السينما المصرية تيار جديد على رأسه المخرج «محمد خان» و«يحيى العلمي» الذي ارتبط اسمه بالتليفزيون فيما بعد.

من السبعينيات إلى الآن، سطّرت السينما المصرية قصتها المليئة بالتناقضات، فهي إما أفلام «مقاولات» كما كانت في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولكن بشكل مختلف يواكب العصر الجديد، خصوصًا مع انتشار سينما الحركة، وإما محاولات تجريبية بميزانيات منخفضة ساهمت -بعد تمسُّك صُناعها بإخراجها كما هي- في تكوين مدارس جديدة واتجاهات مختلفة، كما فعل «صلاح أبو سيف» الذي مهّد الطريق لـ«يوسف شاهين» و«كمال سليم»، وتبعهم «محمد خان» على نفس الطريق و«داود عبدالسيد» الذي خلع عباءة السينما التسجيلية لينطلق مع حلمه الروائي مؤسِسًا واقعية جديدة للسينما المصرية والعربية، وعديد من الأسماء الأخرى التي عرفناها ولم تُذكر، وأسماء لم نعرفها بعد، إلا أنها بالتأكيد في انتظار ذِكرها.

الهوامش:

1. قصة السينما في مصر - سعد الدين توفيق.
2. السينما في الوطن العربي - جان الكسان.
3. الواقعية في الفيلم المصري - إريكا ريشتر.
4. تاريخ السينما العربية - حسين عثمان.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى