الأسوأ يفوز أيضًا: قراءة في فيلم «رحلة 404»

February 24, 2024

ما الذي يمكن أن يجذبك في فيلمٍ تتوسَّطه منى زكي بوجهٍ باتجاه الشرق، وأخرى بكامل جسدها تجرُّ حقيبةً في صحراء قاحلة، وعينها تلتف غربًا بعكس اتجاهها، وامرأة وحيدة بين ثلاثة رجال متناثرين حولها يرتدون أقنعة؟!

هكذا جاء بوستر الفيلم الذي يحمل عنوان «رحلة 404» (2024)، أسفله كلمة Error (خطأ)، من تأليف محمد رجاء، وإخراج هاني خليفة، وإنتاج محمد حفظي وشاهيناز العقاد ومجموعة Arabia Pictures Entertainment السعودية وهاي ميديا للإنتاج الفني والتوزيع، ومن بطولة منى زكي بالطبع في دور غادة سعيد، والثلاثة الكبار خالد الصاوي في دور ياسر، ومحمد ممدوح في دور طارق عبد الحليم، ومحمد فراج في دور طارق عبد الحميد، وهو اللبس في الأسماء الذي أعاد غادة إلى طارق عبد الحليم، وذكريات الجامعة، والخطيئة الأولى التي أعقبتها الخطايا كقطع الدومينو حتى توقفت عند آخرها، مقررة ألّا تعيد صف القطع من جديد.. 

تبعات المكان

يحفرُ الفيلم في منطقة شائكة جدًا وحساسة على الصعيد الأخلاقي، ويحمل تصنيفًا عمريًا لمُشاهديه: +18، وأحداث الفيلم تأتي مؤيدة لجماليات البوستر، ومبررة لاستبدال الاسم القديم - «القاهرة مكة» - والبوستر السابق بتوكيد المكانين، وما تلقيهما المدينتان من تبعات، وذلك لمكانة كليهما في النفوس، وما يمكن للتأويلات من شطط يصل إلى مناطق مسيئة يمكن تجنبها بالعنوان الجديد - «رحلة 404» - وببوستر إيحائي غير مباشر، وحل إشارته بعزم غادة سعيد على أداء فريضة الحج، مولية وجهها نحو المشرق، وليس في الحج من إشكال على الإطلاق، فليس غريبًا على مسلمة أن تتهيأ لأداء فريضة الحج، وهنا يأتي جمال كتابة السيناريو باختيار غادة سعيد تحديدًا لهذه الفريضة، وتفاعل المحيط حولها تجاه هذا العزم، والتدرج بعرض وكشف الشخصيات المحيطة بها على كثرتها، فهي من أسرة مفككة، تعيش مع والدها القابل والمغمض عينيه حول مصدر الأموال التي تأتي بها ابنته، والذي يعزم على الحج معها! إما مَحرمًا أو إيمانًا في هذا العمر المتقدم لوالد لا يأبه بشيء، فعسى الله أن يغفر له، وهذا ما لا تتبعه الصورة، فالرجل في هذه المعادلة ليس محل نظر وفرادة.

استكمالًا للحديث عن أسرة غادة، لا بد من البحث عن الأم، الوالدة التي تطاردها في كل مكان، حتى الوصول إلى تعقيد الأحداث باصطدام سيارة بوالدتها لحظة فرارها منها. ولأن الأفلام تزداد جذبًا بكثرة الأحداث، وجريان الفيلم في أقل من ساعتين، ما بين تطبيب والدتها التي دخلت مستشفى خاص لقربه وعدم قدرتها على سداد ثمن علاجها، تتصاعد الأحداث في رحلتها للبحث عن أموال، وهذه الرحلة التي لعلاجها تسافر بها في دهاليز البحث عن أموال، فهذه هي الرحلة التي تسبق حجها، وهي التي يصدق عليها لفظ Error، فهي التي تسحبها للخلف وتلفت نظرها غربًا بعكس اتجاه رحلة الحج، وتعيدها إلى «شهيرة» التي تقوم بدورها الفنانة شيرين رضا، وصديقاتها السابقات، مقابل الصراع على المال من أختها، وطمع الجميع في بيع ما يستطيعون بيعه بثمن بخس، استثمارًا للضائقة المالية، فهو أفضل توقيت لكل من يستطيع أن يقطف!

الحجاب، أو العلامة

يُشكِّل الحجاب رمزًا للتوبة، وهو ما تمسكت به غادة في تحولها، وهو أول الطرق لصراع الطرفين في لقاء غادة بشهيرة، وبداية الرحلة في نزع الحجاب، والعودة إلى الخلف، وتأثر شهيرة بجُملة «ربنا يهديكِ»، وتأجُّج الموقف بتراجع شهيرة عن منحها المال الذي منحته بطيب خاطر قبل تلك الجملة، ورهنه لقاء سهرةٍ طلبها زبون مجهول لا يمكنها التفريط فيه بعد استفزازها.

كان الحجاب جاذبًا لهذا الزبون، وهو الذي ميّز غادة عن شهيرة وغيّرها وقادها إلى الحج، لتعاود شهيرة مراجعة ما بذلته من أجل غادة، وتُذكّرها ألّا تغتر بما تتوهمه حلالًا، فما هو إلا وليد الحرام! وتضعها في إشكالية الفضيلة والرذيلة، ويزداد هذا الصراع بعد الوصول إلى طارق - زوجها السابق - واستشارته ما بين خطيئتين: الغش التجاري، وسهرة عابرة في ليلة حائرة. إنَّهما خياران أحلاهما مُرّ. يُرجِّح طارق لها الخطيئة الأخيرة ما بينها وبين ربها، عند المقارنة بعظمة الذنب الذي يصل ضرره إلى الناس، وما يجرّه من دعاء تُفتّح له أبواب السماء، لذا تتوقف غادة ساخرة أمام فتواه التي لم تقبلها، ولذلك تسير في تحقيق مكسب وراء تسويق مخطط سكني بذكائها، وتمرير ما تراه ممكنًا أمام العودة إلى الخلف، وعملها السابق مع شهيرة في بيع جسدها، فالأخير يتطلب نزع الحجاب، في حين أن الغش التجاري لا يلزمه خلع الحجاب على الإطلاق، بل ربما يكون وسيلة لتمرير وقبول هذه الصفقة، ووسيلة ميسرة للبيع والتسويق.

الأنثى، أو الضحية

لا يُقدَّم الرجل بوصفه ضحية، فدائمًا المرأة هي الضحية في المعادلة الجنسية القائمة بين ذكر وأنثى، ومع ذلك تظل المرأةُ الحلقةَ الأضعف في هذه المعادلة، وهي من يلزمها التكفير، ويلحقها الأذى طويلًا، فهي من تستحق الوأد خشيةَ العار، وهي المومس العمياء عند بدر شاكر السياب في قصيدته حين تساءل على لسانها:

«ومن الذي جعل النساءْ
دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟
الله -عز وجل- شاء
ألَّا يَكُنَّ سوى بغايا أو حواضن أو إماء
أو خادماتٍ يستبيح عفافهن المترفونْ
أو سائلات يشتهيهن الرجال المحسنون!
لو لم تكن أنثى! وتسمع قهقهاتٍ من بعيد»

والفيلم جاء على هذا الأمر، وتناوله السيناريو بملاحقة كل أطراف العملية، منذ أول خطيئة مع طارق عبد الحليم، ونفور الرجل من الاقتران بامرأة تناولها بسهولة، والميل ساعة الزواج صوب امرأة عفيفة بحجاب مثل زوجته التي اقترن بها، وأتى منها بأولاد، وساق القدر غادة صدفةً للعودة والاتصال به، لتعود الحكاية، وتُناقَش المسألة من جديد بصورة أخرى، عندما ترتدي غادة الحجاب، وتعتزم على الحج، وتسأل المعونة من أجل والدتها، ليراجع طارق عبد الحليم نفسه، ويُكفِّر - دون حج - عن خطيئته السابقة بما يمكنه التكفير به، وعلى ذلك يُقاس جدال غادة وطارق (الزوج السابق)، وتعرية النفس البشرية التي استكانت للمخدِّر هروبًا من كل ما يراه خطيئة، أولها مع والدته التي عاشت خائنة لأبيه، ومحاولة الهروب دون جدوى، لتقع غادة ضحية زيجة من أجل التكفير، ولتكتشف خلال هذه الرحلة الزوجية ما يجعلها تكفِّر عن خطيئتها بعدم جلب مخلوق جديد للحياة، فمن عاش جناية والديه عليه لا يمكنه أن يجني على أحد! ومن عاش السوء لا يتمناه لغيره.

حقوق العباد

تحتاجُ حكمة طارق في عظمة الذنوب التي تطال العباد إلى تأمل، ولذلك يفوز طارق في هذه اللعبة، عندما ترفض غادة ما مال إليه وتؤول بها الحكاية إلى انتقام رباني بسرقة جهدها من الأوباش: هشام (الذي يقوم بدوره محمد علاء)، ومراد (الذي يقوم بدوره شادي ألفونس)، لتعود بما سرقته دون أن نراه ونطّلع عليه، إلا أن الله اطلع عليه ولم يفضحها، لتعود من تلقاء نفسها، وتعيد ما سرقته تائبة من خطايا العباد، وغير متجرئةٍ حتى لما أتيح لها من شِقّة ياسر (خالد الصاوي)، والذي منحها الشقة برضا نفس وبتوقيع على بياض، وفي حالةٍ كاد فيها أن يودّع الحياة، فلا يسائلها بعدها أحد، ومع ذلك ارتضت الخيار الأصعب، وخلع الحجاب، والعودة في ليلة تكشف كل شيء، فتتابع ما هو أسوأ. لم يترك لها مجالًا لمنع ما تريد منعه، حتى الانسياق لهذه الليلة التي قاومت كثيرًا للفرار منها دون فائدة، فما الذي بقي من السوء لم تبلغه؟! ولعلها تأخذ بنصيحةِ شهيرة من قبول الخطيئة الأخيرة، والحمد لله أنها ذاهبة للتكفير عن كل شيء، والعودة كيوم ولدتها أمها! 

التطهير

تحتاجُ النفس البشرية إلى تطهير، والسينما إحدى وسائل التطهير الحديثة والأكثر فاعلية من المسرح الذي حكى عنه أرسطو، وجعله من خلال التراجيديا المساعد الأقدر على تخليص المُشاهد من الانفعالات عن طريق إثارة هذه الانفعالات الداخلية بمؤثر آخر، فالسينما بقربها من المُشاهد، وقدرتها على إدخاله في ثنايا الفيلم والسير في الطرقات مع غادة سعيد، قادرةٌ على تطهير ما في النفس البشرية وتذكيره بالعودة إلى الله، والاقتراب منه والحج إلى ما فيه صلاح النفس، ولهذا حصل الفيلم، بفنيّته العالية ورسالته العظيمة، على جماهيرية عالية، وعلى نجاح في شباك التذاكر، رغم حمله تصنيف +18! فحصد التقدير من لجان التحكيم بفوز بطلته منى زكي بجائزة أفضل ممثلة عن شخصية غادة سعيد، وحصول مخرجه هاني خليفة على جائزة لجنة التحكيم الخاصة و«قناع توت عنخ آمون الفضي» في الدورة الثالثة عشرة من مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، وإن كان هذا تقدير لجان التحكيم، فإن المكانة التي يتطلع إليها أي فيلم هي رضا الجمهور، وإقباله على الفيلم وحصده مراكز متقدمة في مبيعات شباك التذاكر، فمنذ وصوله إلى السينما السعودية وهو داخل قائمة الأكثر مبيعًا، وقد انتقل في الأسبوع التالي إلى المرتبة الأولى في الأكثر مبيعًا لأسبوعين على التوالي، وهذا مؤشر رائع لوعي الجمهور السعودي، وتقديره للأفلام الجادة، وإقباله على ما يستحق المشاهدة بعيدًا عن الكوميديا والتسويق بالضحك والتهريج.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى