الأم في مسيرة صانع الفيلم: إلى ذكرى بدرية ضيدان

«إذن، لن أرى والدتي بعد اليوم. والآن، فجأة، أشعر بالوحدة، بوحدة شديدة جدًا»

«إذن، لن أرى والدتي بعد اليوم. والآن، فجأة، أشعر بالوحدة، بوحدة شديدة جدًا»

مشهد ليلي في فراش نومه، محفوف بالسكون، يتلقى محمد خبر وفاة والدته، هامسًا للمشاهدين هذه العبارة المقتضبة. هكذا افتتح المخرج التشادي محمد صالح هارون فيلمه «وداعًا إفريقيا» (1999) والذي صوّر عودته للوطن بعد وفاة والدته. لفيلم محمد ارتباط شخصي شديد، حيث إنني شاهدتُ هذا الفيلم، صُدفةً، بعد عدة أسابيع من وفاة والدتي. لم تكن افتتاحية ذلك الفيلم بالعابرة؛ وصفت بدقة مشاعري في تلك الظروف. منذ مشاهدتي لـ«وداعًا إفريقيا» ظلّ يدور في ذهني سؤال: كيف تُصوَّر الأم في السينما؟ كيف يمكن للسينما، كغيرها من الفنون، أن تُعبّر عن علاقة الأم بالأبناء بكافة مشاعرها وتعقيداتها؟ وأنا هنا لا أعني تصوير شخصية الأم بوصفها عنصرًا رئيسًا في مؤسسة العائلة، بل أعني هنا علاقة الأم بالفنان، بالمخرج، ومدى تأثيرها على مسيرة الفنانين، ومستوى حضور الوالدة في أعمالهم. لذلك اعتزمتُ بهذا المقال أن أطرح أشكالًا عِدّة كانت فيها علاقة الأم بالفنان مؤثرًا رئيسًا على مسيرته.

شانتال أكرمان:

لربما من الأفضل أن نفتتح بالحديث عن المخرجة البلجيكية شانتال أكرمان، والتي من خلال مسيرتها الفنية، كانت والدتها ناتاليا أكرمان عنصرًا أساسيًا في أعمالها، بل إن علاقة شانتال بأمها على المستوى الفني تتجاوز سينماها، حيث نشرت عام 2013 كتابًا بعنوان في غاية العذوبة: «والدتي تضحك»، تحكي فيه شانتال عن ذكرياتها مع والدتها.

يعود تأثير ناتاليا أكرمان على سينما ابنتها منذ المراحل الأولى من دخولها عالم الإخراج، ففي عام 1976 أخرجت شانتال فيلمًا بعنوان «أخبار من الوطن» تلقي فيه مجموعة من الرسائل التي تداولتها مع والدتها خلال فترة معيشتها بالولايات المتحدة. الأم بالنسبة إلى شانتال في هذا الفيلم -كما وصفها العنوان- «الوطن» الذي تشعر فيه بالانتماء. بالعودة إلى جذور والدتها الناجية من الحرب العالمية الثانية، تذكر شانتال أن عديدًا من أفلامها يرتبط بطريقة أو بأخرى بماضي والدتها التي لم تكن تعرف شانتال نفسها كثيرًا من تفاصيله. وذكرت شانتال في أكثر من مناسبة أنها من خلال السينما كانت تحكي كثيرًا من معاناة أمها.

بعد عام من نشْر كتاب «والدتي تضحك» تُوفيت ناتاليا أكرمان، لتدخل ابنتها في حالة اكتئاب حاد دخلت على إثرها مصحةً نفسية، إلى أن انتحرت شانتال عام 2015، أي بعد عام من رحيل والدتها.

راينر فيرنر فاسبيندر:

بعد أن انفصل والدا راينر فيرنر فاسبيندر وهو في عمر السادسة، عاش لفترة من حياته مع جدته. يقول فاسبيندر في إحدى مقابلاته إنه لم يتعرف إلى مفهوم الأمومة إلا في مرحلة لاحقة من حياته، وإنه اكتشف أن السينما هي البوابة الوحيدة للتعرف من جديد إلى والدته «ليزلوت إيدير». اشتُهر فاسبيندر باستخدام عديد من أصدقائه في التمثيل، ولهذا السبب، كوّن فاسبيندر علاقة مع والدته من خلال توظيفها ممثلةً في أكثر من عشرين فيلمًا من أفلامه، وقال فاسبيندر في أحد لقاءاته إنه وجد الطريقة الأمثل لتكوين صداقة مع والدته من خلال قضاء وقت معها في التصوير، بل إنه حاول أن يصور حياة والدته ومعاناتها من خلال عديد من أفلامه.

إن العلاقة المضطربة التي عاشها فاسبيندر مع والدته كانت واضحة في عديد من أفلامه. عندما التقت ليزلوت إيدير بزوجها الثاني في عام 1958، وصف فاسبيندر اختيارها على هذا النحو: «لقد كانت تفكر في نفسها! لقد اختارت الشريك!» هذا الرفض الذي حمله فاسبيندر ظهر جليًا في فيلم «زواج ماريا براون»، والذي يعكس فيه مأساة والدته. على نحو مشابه لتجربة شانتال، بالنسبة إلى فاسبيندر كانت السينما هي الوسيلة الأقوى ليس فقط للتعبير عن معاناة والدته، بل للتعرف إليها والتقرب أكثر منها.

في عام 1986، أنشأت ليزلوت إيدير مؤسسة راينر فيرنر فاسبيندر (RWFF) لتكون بذلك المرجع الأول لتخليد حياة ابنها.

الخاتمة:

بعد هذا الاستعراض الموجز، يمكننا أن نرى أن السينما قادرة على أن تضيف ما لم تستطع الفنون الأخرى أن تضيفه، أن تكون الأم، أمام مرأى الجميع، صورة مخلدة بحضورها الجسدي والشاعري. إن هذا الملمح يسلط الضوء على التعريف الأولي للسينما، ذلك الضوء الساقط في بحر الخلود، الآلة الزمنية التي لا تموت ولا تتوقف عن الدوران.. أن تقوم شانتال بتصوير والدتها على طاولة الطعام في وسط المطبخ، أن يوبِّخ فاسبيندر والدته ويُقبّلها أمام الشاشة، أن يعيد تاركوفسكي تسريحة شعر والدته حتى تخلدها عين الكاميرا، ذلك ما يجعل السينما أداة متميزة لتخليد ذكرى الأم، وللتعبير عن دفء العلاقة بشكل لن تتمكن الفنون الأخرى أن تخلقه. إن هذه الأمثلة ما هي إلا منتخبات شحيحة وسط البستان المثمر، فالأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى. في نهاية هذا المقال، لو كنتَ مخرجًا سينمائيًا، لربما عليك طرح سؤال كيف ستخلِّد ذكرى الأحباب؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى