يسهل ربط الشعر بالموسيقى، إذ إننا حينما نتحدث عن الموسيقى في القصيدة العمودية مثلًا، فإننا نتحدث عن إيقاعات بحور الشعر التي وضعها الخليل، وهي التي تقوم على تفعيلات، في جوهرها موسيقية، تقوم على تركيب اللغة وفقًا لمقياس الحركة والوقوف (أو الإيقاع بالتحديد)، وهذا ما يصعُب أن نصفه في غير الشعر من الفنون1. ولكن يمكننا أن نرى في الرواية مثلًا محاولات الكثير من الكتاب تقديم روايات موسيقيَّة البُنية، تحتكم فيها الحبكة إلى الهارموني والفيوغ والبناء السمفوني أو السوناتي - من السوناتا - في صياغة حبكات رواياتهم، من أهمهم ميلان كونديرا وهاروكي موراكامي على سبيل المثال، وهي في حقيقتها تركيبات معقَّدة، مثيرة وممتعة للغاية، وما إن اطلعنا على هذه المفاهيم والتقنيات الموسيقية، صار ممكنا ملاحظتها في روايات هؤلاء، والتي أدّعي أنَّها تُقيم محاذاة ما بين هذه المفاهيم الموسيقية وما بين التركيب البنيوي للحبكة الدرامية2. هذا ما أدعي وجوده تمامًا في حبكة فيلم «لا لا لاند» (2013)؛ فعلى عكس ما تتَّصف به الأفلام الموسيقية الاعتيادية، لا تعتمد موسيقية «لا لا لاند» على وفرة الأغاني الأصليَّة والموسيقى التصويريَّة في الفيلم ليكون موسيقيًا فحسب، بل إنَّه في حبكته وتكوينه الدرامي موسيقي البنية لدرجة تشبه تلك التي نجدها عند كونديرا أو موراكامي، لكنه أكثر دقة وشفافية لما يمكن للكاميرا والصورة أن تقدّمه من خلال تقنياتها المختلفة غير الموجودة في الرواية وأكثر دقة في إيصال الحبكة الدرامية نظرًا للإمكانيات الهائلة التي يقدمها التصوير للحواس والذي لا تمتلك مقوّماته المادة المكتوبة في الروايات.
وكما أننا نجد عند موراكامي تداخلاً في الشخصيات والعوالم؛ هو في واقعه فيوغ وهارموني يحرّك الحبكة في «كافكا على الشاطئ» مثلًا، نجد عند داميان شازيل، مخرج «لا لا لاند» وكاتبه، ثيمة ثابتة لقصة رومانسية اعتيادية متصاعدة. فالحدث فيها بمثابة التنويع على الثيمة الأساسية نفسها، كما نجده في الهارد بوب في الجاز3: ميلودي - أو لحن - أساسي تؤديه الفرقة كاملةً، حيث يتم التنويع والارتجال فيه - وليس عليه - كلما ترجّلت آلة لتؤدي السولو الخاص بها، قبل أن تعود الآلات جميعها لتعيد تكرار اللحن الأساسي نفسه - مع تغيير طفيف - قبل نهاية المقطوعة، وهذا ما يصعب تفسيره من خلال الحبكة بشكلٍ مباشر، غير أنني سأحاول أن أقوم بذلك.
يُمكن القول إن عصب الفيلم الأساس - من وجهة نظر موسيقية - هو الهارموني، ولو حاولنا أن نفهم الهارموني (التناغم) بدقة من وجهة نظر موسيقية لوجدنا أنه التقاء لحْنَيْن (melodies) منفصلين عن بعضهما البعض. إذ إن المقطوعة الموسيقية بإمكانها أن تحتوي على لحن ولحن مضاد (ميلودي وكاونتر ميلودي)، يتجاوران في المقطوعة الواحدة ويكون كل واحد منهما ملفوظًا بآلة مختلفة عن الأخرى - في العادة - قبل أن نجد أن اللّحنين يلتقيان في لحظة ما، وهنا يكون لقاء الآلتين واندماجهما في نوتة واحدة تقريبًا. يتحقق الهارموني من خلال انسجام اللّحنين في المقطوعة، وتتحقق لحظة الذروة التي تجهّز لها المقطوعة طوال الوقت: تطابق اللّحنين المختلفين في لحظة واحدة بعد تجاورهما، وذلك ما يمكن أن نراه بوضوح في بداية «لا لا لاند» قبل دخول الثيمات الأكثر جازيّةً لاحقًا. تبدأ حبكة الفيلم بزحام شوارع لوس أنجلوس: تتدرّب ميا على دور في مسلسل تلفازي رخيص بينما هي في سيارتها في ساعة الزحام، مما يجعل من قائد السيارة التي تنتظر وراءها منزعجًا، قبل أن يضرب بوقًا صاخبًا يسبق أحداث تطور شخصيتها. تنطلق الحبكة لتتحدث عن ميا وحدها بأحداث متعددة تحاول من خلالها أن تفهم سياقها الخاص - أو لحنها الخاص - قبل أن ينتهي السياق الخاص بميا في لحظة لافتة: صوت البيانو الذي تُعجب به بدرجة فائقة هو ذاته صوت بوق السيارة في بداية الفيلم. تعود بنا أحداث الفيلم هنا لتؤكد على تجاور اللّحنين كما تجاورَ صوت البيانو مع صوت بوق السيارة، لنعود إلى سباستيان أخيرًا، الذي يزعج ميا في السيارة وهما عالقان في زحام لوس أنجلوس، في مرحلة سابقة؛ قبل أن نعرف سياق سباستيان الخاص ومغامراته الرومانسية في العزف على البيانو في عالم لا يقدّر الجاز كما يتمنى.
لا ينتهي سياق سباستيان إلا في لحظة دقات البيانو التي سمعتها ميا ذاتها، وهو ما يتضح من سياق الفيلم أنَّها دقات سباستيان نفسه على بيانو أحد المطاعم التي لا تحب عازفي الجاز. لحظة الذروة الهارمونية هنا هي في التقاء السياقيْن المتجاورين، أو اللحنين المتجاورين نفسيهما، وهي ثيمة متكررة في الكثير من الأفلام بالطبع. غير أن ما يجعلها ذات أهمية كبيرة في «لا لا لاند» أنَّها لحظة موسيقية مقصودة بوضوح، إذ إن معزوفة سباستيان نفسها هي الموسيقى التي يقوم عليها الفيلم ككل وتتفرّع أغانيه منها، وتتكرّر في مواضع تكون فيها أحيانا بمثابة الموسيقى التصويرية، وفي أحيان متفرقة، تنطلق منها عدة معزوفات أخرى، كما ينتهي الفيلم بها نفسها في مقطع الـ Epilogue4 ، والذي يعيد تصوير الفيلم منذ البداية، في تسلسل سريع للأحداث، ليلخّصه من منظور رومانسي مناقض لحبكة الفيلم الفعلية من خلال دمج جميع الأغاني المتبقية التي انطلقت من نوتات المعزوفة الأولى نفسها.
يجدر القول والتأكيد، بالإضافة لما سبق، أنه كما أن للهارموني لحظة ذروة يتحقق فيها التقاء اللّحنين والسياقين في الفيلم، إلا أنه في الوقت ذاته يمكن القول إن للهارموني شكلًا عامًا، وهو الذي يتجاور فيه اللحنان دون التقائهما في اللحظة الهارمونية ذاتها. فكما أن بداية الفيلم كانت بسياقين مختلفين، ولحظة الذروة الهارمونية للفيلم هي في التقاء ميا بسباستيان وفي علاقتهما، إلا أن السياق - والشكل - الهارمونيّ للفيلم ككل يتجاوز اللحظة الهارمونية بذاتها. إذ يفترق سباستيان عن ميا بوضوح في لحظات عديدة، والغياب هنا -غياب اللحظة الهارمونية- يكاد أن يكون الشغل الشاغل للفيلم على مستوى الحبكة كما هو على مستوى أفكار الفيلم -والتي سنتحدث عنها لاحقًا-، إذ يكاد يكون الفيلم في زبدته وذروته هو هذا التأصيل للفراق بوصفه النتيجة الأكثر رومانسية. فكما للهارموني ذروة كذلك للّحنين المجتمعين لحظات افتراق تكاد أن تكون أهم ما يؤمنه الشكل الهارموني للموسيقى، وبالتالي للفيلم، إذ يؤكد على أن ذروته ليست في اللحظة الهارمونية، بل في اللحظة التي يتعقّد اللحنان -أو الشخصيتان- فيها من بعد اللحظة الهارمونية، ليأخذا الصيغة الأكثر نضجًا من اللحن ومن الشخصيات في الفراق، وذلك بعد اللحظة الهارمونية التي تشكّلت في العلاقة.
لذا يمكن القول إن الهارموني هنا يشكّل نقطة أساس ينطلق منها الفيلم في محاولة تفكيك الشخصيات، بل وفي تحديد الوحدة الموضوعية للشكل الإخراجي، إذ يقوم داميان شازيل هنا، بوصفه المخرج والكاتب، باستخدام هذا الشكل الموسيقي ليخرج النص في هيئة بصرية، تنتقل فيها الصورة من حدث إلى آخر ومن أغنية إلى أخرى بناءا على الشكل الموسيقي نفسه، تمامًا كما تنتقل الكاميرا من تصوير ميا إلى سباستيان وفقًا لمعيار التزامن والتجاور حين يتهيأ اللّحنان أو سياقا الشخصيتين للتلاقي في لحظة هارمونية أخرى، كما أنه يستحيل بالتالي إلى افتراقٍ يشكّل أيضًا افتراق اللّحنين، ليبني بذلك الفكرة -والشكل- الهارمونية كلها.
يُمكن للقارئ هنا أن يطعن في الجدليّة التي طرحتها لتوي في الفقرة السابقة، إذ تكاد الأفلام التي تستخدم سياقين منفصلين للوصول في النهاية لتلاقي الشخصيات في لحظة واحدة أن تكون لا نهائية من كثرتها، كما أن الروايات -حتى تلك التي لا تركن ولا تعي بالموسيقى ولا تحيل إليها- ممتلئة بهذه الحبكة الكلاسيكية. غير أن ما يوقفنا هنا لوهلة أخرى في معالجة الفيلم من هذا المنظور هو محورية الأغاني والموسيقى في الفيلم، وهو الفيلم الموسيقي في أساسه. يؤكد داميان شازيل في مقابلات متعددة، حينما يتحدث عن الفيلم وعن كونه يحكي جزءًا من قصة حياته هو، وهو المهووس بالجاز، الذي يحاول أن يعزف على الساكسفون بين الفينة والأخرى رغم ولعه بالسينما والإخراج، وذلك ما يمكن لنا أن نراه في حبكة الفيلم وحواراته بدقة. ففي الوقت نفسه الذي يحكي فيه الفيلم معاناة فنان في بداياته في مدينة اللا لا لاند، والتي تظهر في قصة سباستيان وميا، كما تظهر في بدايات داميان شازيل نفسه بالإضافة إلى مؤلف موسيقى «لا لا لاند» جاستن هورويتز، فإنه أيضًا يقوم بتأكيد فكرة المخرج لماهية الجاز، وذلك على لسان سباستيان نفسه في أكثر من موقع: سياق أساسي تنطلق منه الكثير من الأفكار الموسيقية المتسقة مع اللحن، في الوقت ذاته الذي يقوم فيه كل عازف مشارك في المقطوعة الجازية بالارتجال على اللحن ليضيف عليه.
يمكن القول إن الفيلم في صميم حبكته تجسيد مباشر للفكرة على مستوى بصري: فبالإضافة للهارموني الذي يمكن فهم شكل الفيلم ككل من خلاله، يمكن أيضًا فهم كل أغنية ومقطوعة متفرعة من الفيلم بوصفها ارتجالاً إضافيًا على الفيلم؛ إذ لا يمكن لنا أن نعد فيلمًا مثل «لا لا لاند» على أنه فيلم غير جاد ومشابه لأي من الأفلام الموسيقية الأخرى التي نعرفها - والتي من ضمنها الأفلام التي تأثر بها - بل هو فيلم جاد بالتأكيد. وذلك ما يجعلني، بعد المشاهدة الرابعة، أنتبه إلى أن كل مقطوعة ورقصة في الفيلم لا تأتي اعتباطية، رغم أنَّها غير واقعية. وعلى الرغم من تأدية مجموعة هائلة من الناس لرقصات في شوارع لوس أنجلوس وزحمة طرقها، لوهلة، في بداية الفيلم، وتوقّف الوقت تمامًا في الحفلة التي ذهبت لها ميا في بداية الفيلم بوصفه عاملاً تملكه ومن ثم رقص الجميع ودخولهم إلى عقلها، والعديد من المشاهد الأخرى غير الواقعية في الفيلم، إلا أننا يمكننا أن نجد أنَّها نتيجة مباشرة لمقطوعة جازيَّة تسمح بارتجالات تخرج عن اللحن الممنهج -والواقعي- لتتجاوزه للوصول إلى صورة أكثر خيالية وذاتية في قراءة الأحداث وفهمها، ما يشكّل فيلمًا ومقطوعة أكثر متعة وإبداعًا. وذلك ما يتمثل بوضوح في اللحظة الغزلية اللعوبة الأولى في الفيلم، حين تغرب الشمس على أحد إطلالات لوس أنجلوس وسط رقص لعوب ومشاكسة موسيقية بين ميا وسباستيان، والتي تنتهي برنة هاتفها التي تعيد الفيلم مرةً أخرى إلى الواقع. يمكن فهم المقطع الموسيقي هذا بوصفه الارتجال الحالم -عبر الرقص والغناء-، قبل أن تعيده رنّة الهاتف إلى الواقع، وهي النوتة الموسيقية الوحيدة التي تنسجم مع الواقع، إذ إن الواقع لحنٌ طبيعي، بينما الرقص والموسيقى في الفيلم يظهران بصفتهما ارتجالًا.
ولذا يُمكن القول عن الفيلم الموسيقي في حالة «لا لا لاند» تحديدًا ما يمكن قوله عن الجاز: تكسير جريء ومقصود لجمود السينما الواقعية، بوعي تام بشروطها الموضوعية. والخروج عن السياق هنا هو نتيجة لتفكير موسيقي جريء، ولفهم العالم بأسلوب موسيقي وفهم الأحداث من منطلق موسيقي، كما أنه في الوقت ذاته إبداعٌ على مستوى المفاهيم الموسيقية نفسها دون التقيّد بنظرية الموسيقى أو بالسياقات الأشد تأسيسًا للموسيقى وذلك على العكس من أفلام موسيقية أخرى أقل جدية مثل "ماما ميا" (Mamma Mia! - 2008) أو مثل "أعظم رجل استعراض" (2017 - The Greatest Showman)، إذ في الوقت الذي يبدو فيه «لا لا لاند» مجرد فيلم موسيقي آخر، لا يتقيّد بأي واقعية ولكن يأخذ موسيقية الفيلم كحجة للتحرّر دون غاية فنية حقيقية بحجة الموسيقى، يتحرر «لا لا لاند» من القيود الواقعية بواقعية أخرى ذات شروط فنية تخدم الحاجة الفنية للفيلم في المقام الأول قبل أن تكون تحررًا عابرًا دون مغزى، وهذا ما يجعل منه الفيلمَ الأكثر متعة في العقد الأخير من وجهة نظري، متفردًا ورائدًا في السينما العالمية كلها.
في الحديث عن الجانب الموسيقي والبنيوي للفيلم واتصال الإخراج به بدرجة وثيقة، هناك ظلمٌ كبير لتفرّد داميان شازيل وبراعته في إخراج الفيلم بصريًا. إذ يمكن للمشاهد أن يعرف داميان شازيل في جميع أفلامه من خلال أسلوب "الكلوز أب" المتفرد الخاص به، وهو الذي يظهر في طريقة اقتراب الكاميرا من الممثلين والأشياء والمناظر الواسعة (Landscapes) كما لو كان رجلًا يقترب منها أو يبتعد عنها، فهو في الحقيقة يخرج الأفلام كما لو كان يتخيّل نفسه متفرجًا على الأشياء ومتجولًا حولها، ويمكن لنا أن نرى ذلك بوضوح في الأغنية الافتتاحية للفيلم «لا لا لاند» (Another Day of Sun)، التي امتدت في لقطة واحدة من بدايتها وحتى نهايتها، تتنقّل الكاميرا من المغني الأول إلى الثاني، ومن راقص إلى آخر دون أي قطع مونتاجي، فهي تتحرّك كما لو كانت عيون داميان شازيل الراكض والمتحرّك بين سيارة وأخرى، حيث يتخيّل كل أطراف الفيلم من وجهة نظره هو بوصفه فردًا صاحب مخيلة واسعة يحاول أن يصوّر الأشياء بعينيه، كما يحاول أن يقفز من مكانه ويطير ليصوّرها بأفضل صورة. يتكوّن افتتاح الفيلم المبهر والمملوء بالألوان الحيّة كما لو كان صنيعة مخيّلة داميان شازيل العالق في زحام لوس أنجلوس تمامًا، لا كإله يصوّر ما يحدث في لوس أنجلوس. إن فرادة الإخراج هنا هي في فائض ذاتيّته الرقيقة والحالمة، وهذا ما يميّز أعمال داميان شازيل بالعموم، التي يضيف بُعدها الموسيقي إليها استثنائية فائقة.
لا تتمثّل ذاتية داميان شازيل في صناعة الفيلم من خلال أسلوبه المتفرد في الإخراج فقط، بل في تأثره في الوقت ذاته بالأفلام الموسيقية الأخرى التي يريد أن يستعيد توهّجها في هذا المشروع-الحلم، كما يسميه، بشكلٍ حديث في «لا لا لاند» كما يؤكد في مقابلاته المتعددة. إذ يذكر شازيل أفلامًا عديدة من ضمنها «أمريكي في باريس» (An American in Paris - 1964)، «لنغني تحت المطر» (Singin' in the Rain - 1952)، والفيلم الفرنسي «مظلات شيربورغ» (The Umbrellas of Cherbourg - 1964). وذلك ما يساعدنا في فهم التشابه بين «لا لا لاند» وهذه الأفلام على أنه تشابه مقصود، فشازيل لا يتأثر بهذه الأفلام ويتمثل تأثّره في الأفلام بتلقائية، بل هو - في حقيقة الأمر - يعلّق على هذه الأفلام ويقدّم قراءته النقدية البصرية لها حين يحيل إليها، تمامًا كما يحيل شاعر مثلًا إلى صورة استخدمها شاعرٌ يسبقه ويغيّر فيها ليقدّم رؤيته هو للصورة ذاتها.
يمكننا أن نرى ذلك بوضوح مثلًا في تشابه الحبكة بين «مظلات شيربورغ» و«لا لا لاند»، فقصة الحب متشابهةٌ في الفيلمين، قبل أن يغيبا عن بعضهما البعض مع أحلام العودة والانتظار، وقبل أن يعودا ليريا بعضهما بعد انفصال دام لسنوات وبعد أن تجاوز كلٌ منهما مرحلة العلاقة نفسها. ينظر البطلان في الفيلمين في عيني بعضهما، وهو ما يصبح بحد ذاته حوارًا متبادلا عبر النظرات، دون أي حوار فعلي. هناك أهمية بالغة في التوازي والمقارنة بين الحبكتين، إذ من خلال الفروق بينهما يمكن لنا أن نفهم وجهة نظر شازيل في الفراق والعتاب والحب والنظر إلى العلاقات السابقة، فنجد في "مظلات شيربورغ" نظرات عتاب وتحامل وغضب وانزعاج، بينما نجد في «لا لا لاند» نظرات حب وافتتان. يمتلئ حب شيربورغ وفراقه بسوء الفهم، ويضجّ «لا لا لاند» بفهم واتساق كبير رغم الفراق. يحتاج بطلا شيربورغ إلى تجاوز مشاعر الحب لكي يصلا إلى مرحلة الكره أو اللامبالاة، بينما يعتبر وعد ميا لسباستيان ووعد سباستيان لميا بأنهما سيحبان بعضهما إلى الأبد حقيقيًا، فعيون سباستيان وميا في الحانة مليئةٌ بالحب والامتنان رغم عدم وجود أي حوار بينهما ورغم الفراق. يوضّح شازيل هنا رؤية فاتنة عن الفراق، ومفارقة لذيذة عن الحب الأبدي رغم الفراق، وهو ما لا يوجد في مظلات شيربورغ الذي تأثّر به بوضوح.
بالمقابل يتأثر شازيل ويعلّق نقديًا على «أمريكي في باريس» و«لنغني تحت المطر» من جهة استطيقية في المقام الأول. إذ يمكن لنا أن نرى فيهما بهجة الغناء الحالمة في المطر وألوانه العديدة الفاتحة والفاقعة في أطراف الفيلم وأغانيه، لكنها تظهر في حبكة «لا لا لاند» بشكلٍ منطقي وواقعي، وهو الأكثر واقعية والأقل كليشيهيةً من "هوليووديةِ" الغناء في المطر. كما أن الإحالة إلى «أمريكي في باريس» تأتي في لحظة ذكية محددة عند ذهاب ميا إلى باريس ومن خلال الـ Epilogue نفسه، حين نرى سباستيان وميا يرقصان عند نهر السين في إحالة مباشرة إلى مشاهد متعددة من أمريكي في باريس، وهي إحالة مباشرة أيضا في ذهاب أمريكية للتمثيل والتقدم المهني في باريس من خلال ذهاب ميا نفسها.
نرى قلق التأثّر عند شازيل هنا واضحًا وواعيًا بذاته، ما يجعل من مشاهدة الفيلم وإعادة مشاهدته مرارًا وتكرارًا إلى جانب الأفلام التي يتأثر بها مهمةً مشوّقة ومليئة بالدلالات العديدة، كما يفاقم من تقديرنا 5للفيلم، حيث يتجاوز «لا لا لاند» الأفلام المتأثر بها بمراحل، وهنا يصبح قلق التأثر، كما يقول هارولد بلوم، فاعلاً في تكوين عمل إبداعي فريد.
وإذ أنهي القراءة الموضوعية للفيلم بالحديث عن ذاتية شازيل الفائقة في تكوينه وإخراجه، أجده منفذًا سلسًا للوصول لارتباطي الشخصي بالفيلم. إذ يتقن الفيلم الرومانسي الأكثر واقعيةً النفاذ إلى أحد أعمق نزعاتي تناقضًا وحميميةً في الآن ذاته. يؤكد «لا لا لاند» على رومانسيته، إذ يربط شخصيتين حالمتين ببعضهما من خلال أحلامهما الفنية في مدينة الأحلام. يحاول سباستيان أن يعيد تكوين مشهدٍ موسيقيٍ جازيٍ في لوس أنجلوس، وهو النوع الموسيقي الذي يحتضر في لحظة من التاريخ يبتعد فيها مُستمعو الموسيقى عن الموسيقى الحية والمباشرة إلى سبوتيفاي وآبل ميوزك وغيرها، في الوقت الذي تحاول ميا فيه أن تشق طريقها لتكون ممثلة هوليوودية ناجحة بينما تعمل نادلةً في مقهى ما، وسط مدينة يزيد عدد الطامحات فيها إلى التمثيل على عدد سكانها. إن الحلم هنا هو المحرّك الفعلي للشخصيات، كما هو المحرّك الفعلي لعلاقة الشخصيتين العاطفية ذاتها، فيسحر سباستيان ميا من خلال مقارنتها بلوي آرمسترونغ: لم يتمكن آرمسترونغ من صناعة تاريخ الجاز كما نعرفه اليوم إلا من خلال مغادرته للفرق الاعتيادية وتكوين فرقته الخاصة، والتي من خلالها تمكّن من تقديم أهم ارتجالاته الموسيقية التي صارت جزءا من تاريخ أميركا، بوصفها أسلوبًا مميزًا مؤسسًا للجاز، وذلك ما يسحر ميا بسهولةٍ وهي التي لا تحب الجاز، الأمر الذي دفعها إلى كتابة مسرحيتها الخاصة المونودرامية، التي تؤديها لوحدها.
في المقابل، وعلى الرغم من ابتعاد سباستيان في فرقة لا تشبه الموسيقى التي يحبها، نجد أنَّها اللحظة الفارقة في العلاقة: ميا تنتقد سباستيان لاستمراره في فرقة لا تشكّل الموسيقى التي يحبها، وهو ما يبعده شيئًا فشيئًا عن حلمه، فتتصاعد الأحداث جميعها في هذا السياق: تبتعد ميا إلى الوراء حيث يبتلعها الحشد المعجب بموسيقى سباستيان في إحدى الأمسيات لتستمر في الابتعاد عنه كلما ابتعد هو عن حلمه، كما أنها تبتعد شيئًا فشيئًا عن حلمها، عند غياب سباستيان عن حضور مسرحيتها السولو، التي اعتقدت هي أنَّها فشلت، قبل أن يصبح سباستيان سبب حضورها لاختبار الأداء الذي يعطيها دور العمر، بينما يعود هو إلى حلمه في تأسيس حانة جازيَّة فاعلة وذات قيمة كبيرة.
أجد هنا أن الحلم، الذي يحرك حتى رومانسية العلاقة ذاتها، هو العنصر الأكثر واقعية في الوقت نفسه، إذ لا تقوم العلاقة على حبهما وأولوية العلاقة، بل تقوم على أولوية القيم الأولى الأساسية: الحلم والطموح والغاية المتجاوزة للعلاقة ذاتها. فالحب هنا، الذي ينتهي نهاية سعيدة وغير سعيدة في الآن ذاته، يصبح هو المحرّك لتحقيق الذات والقيم المتجاوزة للعلاقة لا العائق لها، ولذا يصبح الحب الأكثر رومانسية هو بذاته الأكثر واقعية، إذ يحول دون اكتمال اتصالهما، فيستمر الحب على الرغم من افتراق الشخصيتين، وهو ما يمكننا أن نراه في لحظة التقاء عيني ميا وسباستيان بعد أن يعيد شازيل سرد الفيلم، مستهزئا من السردية التي كان من الممكن لفيلم رومانسي هوليوودي غير واقعي أن ينتهي بها، والتي كانت ستنتهي باكتمال العلاقة بدلاً من افتراق الشخصيتين الآسرتين.
حول هذه الرومانسية الأكثر واقعية أجدني ملتفًا ومتشبثًا. أيمكن لنا أن نكون رومانسيين وحالمين لواقع يجده الآخرون في الغالب غير واقعي، كما أنه يبدو صعبًا للغاية وفقًا للمعطيات الواقعية؟ الجواب صعب بالطبع، لكن المعادلة القائمة على التضحية الرومانسية والواقعية في الآن ذاته، والتي نجدها في الفيلم بأكثر أشكالها جمالاً وحزنًا، هي الإجابة الفعلية عليه.
ختامًا، أجدني في الحقيقة من خلال الجانبين الشخصي والموضوعي، أكتشف فيلمًا جديدًا في كل مرة أعيد مشاهدته فيها. إذ لا أظن أنه يوجد تفصيل واحد عابرٌ طوال الفيلم. يعيد الفيلم من خلال التوليفة الذاتية والموضوعية المتقنة هذه إنتاج الأفكار والمعاني بأفق مفتوح ومتعدد، ما يمكّنه من أن يكون كلاسيكيًا وخالدًا، وهنا تمامًا تكون توليفة الفيلم العظيم والكلاسيكي: أن يحوي الشروط الموضوعية القادرة على الإثارة الذاتية، والتي تعيد تشكيل معناه باستمرار مع كل مشاهِد، ومع كل مشاهَدة.