قبل أكثر من ثلاثمائة عام وتحديدًا في الشمال الياباني، آثر رجل رشيد أن يقطع الطرق الوعرة على قدميه ممتطيًا تلك المرتفعات اليابانية منساقاً برفقة الجداول والغيوم، فإذا تعب من المسير أرخى قدميه تحت الأشجار القريبة من الصخور الجرداء. مبتعداً عن السهول المنبسطة بجوار البحر مترجيًا استحضار أطياف أُناس مروا من هناك، مبصرًا بعمق أغوار الطبيعة.
بدت له تلك اللمحات غير مستهجنة، فطفق يتأمل المخلوقات الحية وغير الحية والتي وُجدت من قبل أمام عينيه لكن منعته وتيرة الحياة المُسرعة من تحسسها وأبعدته عنها شيئًا فشيئًا، ليدرك بعدها كل هذا الجمال.
جمع الحكيم ماتسوو باشو ما التقطته عيناه وتلمسته يداه داخل قصائد هايكو تلائم تلك الخفة، وتحوي بداخلها البطء المتلمس في هذا النوع من الشعر. في أشطُر قصيدة تصف أشجار الصفصاف وأقمار المساء، وتجمع الغيوم وطنين الحشرات، وتتنقل بخفة دون أن تشعر معها بقطع مسافات مكانية وزمانية كبيرة، متعمدًا هذا الأمر حتى لا تصيبك دهشة على حين غرة، والإلحاح كل الإلحاح أن تتلمس تلك الجماليات التي التقطها بوتيرة بطيئة تضمن عدم اضمحلال الشعور مع مرور الوقت.
تلبست المخرجة كيلي رايشارت نفس رداء باشو الحكيم، رداؤه الموسوم بالبطء. البطء في مراقبة شخصياتها المختلفة داخل أفلامها التي كتبتها ايضًا. تبحر غالبًا داخل أراضٍ ريفية في بلدات صغيرة غير مكتظة بالسكان، الأمر الذي على ما يبدو يجذبها للطبيعة البكر ويساهم بشكل كبير في استحضار تلك الثيمة، فآخر ما توده رايشارت هو ضجيج المدن الكبرى. تضع – الشخصيات – هناك، وتسير بالقرب منهم متتبعةً شؤونهم اليومية الاعتيادية دون لمحة بطولية تحلق فوق سمائهم، أقوياء بسطاء وبطيئو الكلام كما أطلق عليهم كونفوشيوس حين أراد امتداح أناس يعرفهم، ومن السهل إسقاط تلك النعوت على أبطال كيلي رايشارت.
في فيلم «الطريق المختصر لميك» (2010 Meek's Cutoff) داخل الأراضي الوعرة لولاية أوريغون المكتشَفة حديثًا، حيث تجري أحداث القصة في أواسط القرن التاسع عشر، تتتبع المخرجة كيلي رايشارت بعينها المراقبة ثلاث عوائل من البِيض وهم يغوصون في رحلة البحث عن الثراء الفاحش المستمد من بريق الذهب المخبأ داخل التربة البكر. وهناك رجل يدعي (مييك) يدّعي علمه بالطرائق المطمورة، أو إذا صح القول غير المكتشَفة، ليقود تلك الأرواح المتعطشة إلى العيش دون همّ يراودها في البحث عن طرائق تتكسب من خلالها المال. وهناك هدوء يسود المكان وهدوء يملأ أحاديث الوافدين الجدد.
تبدأ الشكوك بالتحليق عندما تطول رحلة العوائل الثلاث والتي كان مقرر لها أن تنتهي في غضون أسبوعين، ليجدوا أنفسهم وقد أمضوا خمسة أسابيع خلف دليلهم (مييك) دون أن يبصروا جبالاً تنبئهم بقرب الأرض الموعودة. تتجلى علامات الصراع لتبرز التشكيك في مصداقية الرجل، ولعل هذا لم يكن كافيًا لرفع مستوى الأدرينالين في أحداث الفيلم، ليظهر على الخط رجل من السكان الأصليين يغربل سير الخطة المنشأة من قِبل الدليل مييك، ناهيك عن إحداث شرخ في العلاقة فيما بينهم. بيد أن تلك الحرارة المنبعثة من الأحداث لم تُغرِ كيلي رايشارت في الانجذاب نحو سعيرها، حيث إن ما وقع كان مناقضًا تمامًا لما هو متوقع حين تمكنت المخرجة من جعل تلك النار تذوي ساعة اشتعالها، متمسكة بالرتم البطيء المتبع منذ البدء.
هي لا ترغب في خلق دوامة من شأنها أن تقذف بشخصياتها صوب جهات متفرقة. ومن الأمثلة التي تبرهن على قدرة تحكمها وعدم انجرافها تجاه نشوة السرعة: مشهد المواجهة بين (إيميلي) وصاحب هذه الأرض حين يظهر للعيان أول مرة. نلمحه يركض مسرعًا مبتعدًا عن تلك المرأة الغريبة، لتعود (إيميلي) أدراجها جهة العربات الناقلة، وتخرج من داخلها بندقية حتى تتمكن من الإيقاع بالرجل العدو.
رغم كل تلك التفاصيل المثيرة والعوامل التي من شأنها رفع رتم المشهد ليغدو سريعًا يحبس الأنفاس، فإن كيلي قد أحكمت قبضتها على مقود سرعة المشهد لتبطئ من تسارع نبضاته، وتجعله هادئًا ساكنًا في تناقض عجيب وتقديس شديد لما آمنت به منذ البدء: البطء في السرد.
لا تتبع كيلي بكاميرتها الرجل الهارب، فتركيزها مُنصب على إيميلي والتي بدورها تأخذ وقتًا طويلاً في إعداد البندقية من خلال تعبئتها بالبارود، إلى أن تتمكن بعد مرور زمن لا بأس به من إطلاق الطلقة النارية الأولى، والتي لا نعلم إلى أين يصل مداها، وهل تتمكن من إصابة الهدف المتحرك والغائب عن الأنظار أم لا.
ومثلما ظل باشو يتتبع الجمال من خلال مراقبة التحولات البطيئة في الطبيعة، ترصد رايشارت في الفيلم تبدلات طبائع المرتحلين داخل الصحراء القاحلة رويدًا رويدًا ناحية الجهة المظلمة للروح، بعد إحاطتها بشدائد يصعب على الإنسان التكيف معها بسهولة. وفي كلا الحدثين يظل البطء هو السمة البارزة.
رحلة متأنية أخرى تأخذنا كيلي رايشارت ناحيتها؛ نرافق فيها هذه المرة ليزي في فيلم «الحضور» (Showing Up 2022). وفيه تستعد ليزي لعرض منحوتاتها في معرضها الفني الأول، هواية تؤمن كثيرًا بتميزها فيها رغم عدم وجود دلائل تشير لتلك الاستثنائية مقارنة بآخرين يمارسون نفس الصنعة. القلق والاضطراب يرافقانها مع اقتراب يوم الافتتاح. وخلال تلك الفترة واثناء لحظات الانتظار تدفع ليزي روتين حياتها اليومية مع نفسها ومع من هم حولها.
ليزي فتاة مُنعزلة، تغمر منزلها بقطع منحوتة، شكلت من خلالها كل اعوجاج وانحناء متجسد بداخلها. ترقب قطتها التي انقضت على حمامة، تعهدت ليزي بالاعتناء بها في محاولة منها لإصلاح ما أفسدته قطتها، وربما لإضفاء حيوية أكثر داخل المنزل، والذي دأبت تعاين العيوب المتراكمة بداخله، لتبرز معها مشكلة يصعب التغاضي عنها، حتى يتسنى لها التركيز أكثر صوب معرضها المرتقب، فسخان الماء لم يعد صالحا للاستعمال، وهو أمر يعد أساسيًا لإتمام روتينها اليومي. فعند الاستيقاظ الباكر، أول ما يجول في خاطرها هو أخذ حمام دافئ يهيئها لخوض غمار أيامها المتكررة. تصبح تلك المعضلة الحدث الأبرز لنندمج مع ليزي في محاولة إيجاد حلٍ سريع حتى تعود الأمور إلى نصابها. ولعل هذا الأمر يجعلنا نتساءل: ما الأمر المثير في مراقبة اشتباك ليزي مع مالكة المنزل بشأن مشكلة المياه الساخنة، وتكرار الاتصال بعائلتها لتؤكد على حضورهم معرضها الفني الأول؟ وهل يستدعي الأمر صنع فيلم يدور حول ذلك؟
هي خلاصة واحدة سنصل إليها حتمًا، تفضي إلى أن كيلي رايشارت نصّبت نفسها مراقبة ومتأملة جيدًا للأمور العادية في حياة البشر، مخلصة لتلك الرتابة الباهتة دون ألوان ساطعة تفرضها رغبةً في تلميع القصة.
يتجلى ذلك الأمر في مَشاهد إنقاذ ليزي للحمامة بعدما انقضت عليها القطة، لتلتقطها الجارة وتوكل إليها بمهمة العناية بها لحين عودتها من العمل. نرقب ليزي وهي تلاحظ تغييرًا في نبرة صوت الحمامة، تأمل في كل مرة أن يختفي الصوت، إلا أنه يظل متربصًا دون تغير يذكر. تحملها بين يديها، تقربها من وجهها أملاً في استشعار شيء، أي شيء حسن بالطبع. تحملها داخل الصندوق، وتضع الصندوق داخل السيارة التي ستقلّهم إلى العيادة البيطرية. وهناك نجد الحمامة مُستلقية أمام الطبيب البيطري. يخيم صمت فيما بينهم لبرهة، وهي عادةٌ تتقنها كيلي رايشارت في أفلامها، لتبدأ بعدها جملٌ اعتيادية بالتكشف؛ ماذا حدث لها؟ وماذا فعلتِ بها؟ وما الذي يجب عليكِ أن تفعليه حتى تتعافى… تُبدع رايشارت في تتبع هذه الرتابة حتى وإن بدت غير مغرية عند كتابتها على الورق، ولعل سطوعًا يظهر في أحيان بشكل طفيف وللحظات قليلة داخل أروقة الفيلم، يبعد عنّا تلك الألوان الرمادية في تناصٍ شبيه بما يحدث لنا في حياتنا الواقعية.
تتقصى كيلي رايشارت كثيرًا حول العلاقة بين العرق الأبيض والأعراق الأخرى، خصوصًا في السنوات الأولى من دولة أمريكا اليافعة. وفي فيلمها «البقرة الأولى» (2019 First Cow)، أبرزت هذا الجانب وتلك العوالم غير الاعتيادية، وتمكنت من تعرية كل الشخصيات دون استثناء، مع بروز صفات قد لا نراها من نفس الأشخاص إن وُجدوا في مكان آخر. مثل السعي الحثيث والدؤوب خلف المال الذي يجعل من الطرق غير المشروعة سابقًا أمرًا مستساغًا ومقبولاً في تلك الرحلة، ولعلنا هنا نجد تشابهًا طفيفيًا مع فيلم «الطريق المختصر لميك» في رصد الرحلات المسعورة نحو جني المال.
وفيه نرى كوكي رجل عُيّن طباخًا لفرقة تصطاد الحيوانات، خصوصًا تلك المكسوة بالفراء الجالبة للمال إن تمكنوا من بيعها، والتي عُدّت وفيرة في تلك الأراضي البتول. وفور انتهاء مهمته مع تلك الجماعة، تتقاطع طرقه بالصدفة الغريبة مع مُهاجر صيني هارب من جماعة روسية اتهموه بقتل صديقهم.
يراودنا شك بأن القصة تتعلق بأموال أُخذت. يغري الصيني الطباخ كوكي بالتعاون معه في أي شيء من شأنه أن يدر الأموال ليسهل عليهم رغد العيش والتوسع في التجارة في المدينة الأضخم سان فرانسيسكو. فهنا عند الحدود وفي أعماق البرية ستصل الأموال سقفًا معينًا لا تقوى على تخطيه، والجشع رفيق المال وأنيسه، لا يرضى بالوقوف عند حد قد قُدّر له من قبل، طالما وجد مرتعًا داخل روح الإنسان الظمآن.
تلمع بأذهانهم فكرة خبز بسكويت وبيعه إلى قاطني المستعمرة. تبرز لديهم مشكلة في عدم وجود حليب، إلا أن رئيس العمال يرعى بقرة كانت قد قدِمت مؤخرًا، معلنةً نفسها البقرة الأولى في تلك المنطقة. يبدأ السجال حول شرعية استخدام حليبها في صنع ذلك البسكويت اللذيذ الجالب للثروة، لتمر تلك الغلطة سريعًا دون تمحيص من قِبل الاثنين، طالما المال قادم في نهاية الطريق وهذا كل ما يهم .
في كل مرة تتعمد كيلي رايشارت عرض مشهد بذات التفاصيل، من لحظة اقتراب كوكي والرجل الصيني من مرعى رئيس العمال وتسلق الرجل الصيني جذع شجرة للمراقبة و التحذير من اقتراب أي شخص، وخطوات كوكي المتأنية ناحية البقرة وحديثه معها بهدوء يبعث السكينة على المشاهد المُستمع قبل البقرة المحلوبة. إنها طريقة مملة لعرض هذا المشهد مرارًا وتكرارًا، لكن ثمة ميزة لدى كيلي رايشارت التي تعتمد عليه في فرض ما تؤمن به، كونه يمضي على مهل.
عند قراءة تعليقات المشاهدين في مواقع تقييم الأفلام، ستجد كلمة "بطء" تتكرر كثيرًا عند التطرق لأي فيلم مرتبط بكيلي رايشارت. يقول بعضهم:«إن كنت ممن يملون بسرعة فلا تشاهد هذا الفيلم»، قد يكون هذا الرأي متطرفًا نوعًا ما، فلكل مُشاهد الأحقية في مشاهدة أي شيء والحكم عليه وحده دون وصاية من أحد. إلا أني أتفهم هذه الجملة كثيرًا، فليس بوسعنا التغاضي عن بطء السرد في أفلام المخرجة، والأمر هنا ليس متعلقًا بالأحداث والتي – على العكس من ذلك – ستجدها ضخمة ومن شأنها أن تسرع من وتيرة السرد القصصي داخل الفيلم، بيد أن كيلي رايشارت تبدع في وضع منعطفات ومطبات عمدًا حتى تشعرك بمرور الوقت كاملاً دون أي اقتطاع أو قفزات. تتعمد وجود لحظات صمت طويلة بين المتحاورين، وتتعمد أيضًا الإطالة في أخذ لقطة قد يُفهم سياقها منذ الثواني الأولى.
كما في شعر الهايكو ومُعلمها ماتسو باشو، نتلمس كذلك في أفلام كيلي غياب الأحداث المُفتعلة، ونتحسس تلك اللحظة الآنية وهي مرتحلة ببطء، متهيبة لا ترغب في الرحيل، تبطئ من حركتها لتستشعر دقائق مكنوناتها. لذا أمعِن النظر ولا تتعجل انكشاف الأحداث، فسينما كيلي رايشارت ترتكز على الإيحاء وعلى ما لا يُقال.
ولعل في هذا الاقتباس لقصيدة ايمان مرسال وصف مُكثف لأفلام رايشارت:
«سترى بوضوح إخلاصه لخطوته،
بطيءٌ ربما
ويمشي عادةً في خطٍ مستقيم»