كيف يمكن لمبدع تحفٍ سينمائية أجدُّها «الفتى ومالك الحزين» أن يتقاعد؟

(خمسون سنة وأكثر من أفلام الأنيميشن للتجديد في لغتها السينمائيَّة ومعانيها الإنسانيَّة)

يحلو للمنتِج المصري-اللبناني غابي خوري، المدير العام لشركة يوسف شاهين السينمائيَّة «مصر العالمية» وابن شقيقة المخرج الكبير الراحل، أن يروي عن خاله حكايةً كانت تتكرَّر في السنوات الأخيرة من عمل ونشاط صاحب «باب الحديد» (1958) و«الأرض» (1970) و«المصير» (1997)، وغيرها من تحفٍ سينمائيَّةٍ تُعلِّم تاريخ السينما العربيَّة، كيف أنَّه في كلِّ مرَّةٍ كان شاهين ينتهي فيها من تحقيق فيلمٍ جديدٍ له ويفاتحه خوري بأنَّ الوقت قد حان كي يرتاح ويريح مساعديه معه ويتقاعد مراعاةً لسنِّه وأمراضه المتراكمة، كان المخرج الكبير، وحتى دون أن يعطي قريبه فرصةً للكلام، يحدِّثه عن مشروعه المقبل، وذلك بعد أن يكون قد صرَّح أمام الصحافة بأنَّه تعب من الوقوف وراء الكاميرا وبات يشعر أنَّ وقت التقاعد قد حان. وهي الحكاية نفسها التي تُروى عادةً عن إنغمار بيرغمان وتقلُّباته خلال سنواته العشرين الأخيرة، بين الانصراف إلى راحةٍ لا بدَّ منها لتنهي مساره الإبداعي على نحوٍ بديع، وبين التهيؤ لمشروعٍ جديدٍ لاستكمال المسار، وذلك عبر فيلمه الأخير فعلًا «ساراباند» (Saraband - 2003) الذي سيرحلُ بعد إنجازه. فهل ثمَّة قاعدةٌ عامَّةٌ في هذا المجال يمكن الركون إليها؟ وهل يكون أولئك المبدعون الكبار جادّين حين يعلنون أن أوانَ التقاعد قد حلّ تحت وقع الإنهاك الذي يَنتج عن تحقيقهم إبداعات جديدةٍ لهم وهم في سنِّ الشيخوخة؟

هذا النوع من الأسئلة يُطرح عادةً خلال السنوات «الأخيرة» من المسار المهني الإبداعي لأولئك الكبار. وهي أسئلة قد طُرِحت خلال الآونة الأخيرة فيما يتعلق بسينمائي الأنيميشن الياباني الكبير هاياو ميازاكي (المولود عام 1941 في طوكيو، ويعلن دائمًا أن أولى ذكريات طفولته تتعلَّق بما كان يسمعه عن قصف هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين نوويتين) فيما كان ينجز الأشغال الأخيرة لفيلمه الجديد «الفتى ومالك الحزين» (The Boy and the Heron - 2023) - المعروف كذلك بعنوانه الياباني «كيف تعيش» - الذي عُرض عند نهايات العام الفائت. وكان ميازاكي قد بدأ يعلن، منذ عام 2013 على الأقل، أنَّه «هذه المرة» سوف يتقاعد بالفعل، تاركًا لابنه ومساعديه إكمال مسيرته. ومع ذلك ها هو «عراب سينما الأنيميشن اليابانية» بحسب وصف محطة بي بي سي البريطانيَّة، يتابع مسيرته وكأنَّ تصريحه لم يكن. وهو بهذا لم يشذّ عن القاعدة التي أشرنا إليها أعلاه، لكنه كذلك لم يبتعد عن مستوى الجودة التي تُميز أعماله.

وقد عرض ميازاكي أخيرَه - حتى الآن على أية حال - «الفتى ومالك الحزين» ليشكّل حدثًا سينمائيًا كبيرًا أنهى العام السينمائي 2023، عامٌ مفعمٌ بالجمال. ها نحن نلاحظُ اليوم أن ذاك المبدع الكبير الذي يقترب الآن بسرعةٍ من منتصف العقد التاسع من عمره، استنكف عن التأكيد، للمرة الألف، بأنَّه سيتقاعد هذه المرة. بل إن سوزوكي، مساعده الرئيس، أعلن مع اقتراب نهاية العام المنصرم، وفيما كان يرسم جردة لنجاحات عروض الفيلم الأخير في العالم، بأنَّ المعلم يشتغل الآن على فيلمٍ جديد له. كان من شأن هذا التصريح أن يقع كالقنبلة، لكنه مر مرور الكرام، ولا سيما بعدما صرح مساعد آخر لميازاكي، وهو نائب المدير العام لاستوديوهات «جيبلي»، بأنَّ ميازاكي يواصل حضوره شبه اليومي في مباني الاستوديو... وربما أتى ذلك التصريح ردًا على ما كان قد صرح به سوزوكي قبل ذلك بأيام من أنه سيحاول إقناع ميازاكي بالتقاعد!

والحقيقة أن من يشاهد «الفتى ومالك الحزين» يمكنه أن يستنتج بسرعةٍ أن هذا عمل من غير الممكن توقُّع توقُّفِ مبدعه عن مواصلة مسيرته الفنية من بعده، إذ حتى وإن أفتى كُثر من النقاد، في اليابان وفي العالم، بأنه فيلم لا يرقى إلى مستوى تلك التحف التي حققها ميازاكي في مسيرته التي لا تُضاهى، مثل «قلعة كاليوسترو» (The Castle of Cagliostro - 1979) و«ناوسيكا أميرة وادي الرياح» (Nausicaä of the Valley of the Wind - 1984) و«قلعة في السماء» (Castle in the Sky - 1986) و«جاري توتورو» (My Neighbor Totoro - 1988) و«كيكي لخدمة التوصيل» (Kiki's Delivery Service - 1989) و«بوركو روسو» (Porco Rosso - 1992) و«الأميرة مونونوكي» (Princess Mononoke - 1997) و«قلعة هاول المتحركة» (Howl's Moving Castle - 2004) وصولاً طبعًا إلى «بونيو» (Ponyo - 2008) و«مهب الريح» (The Wind Rises - 2013)... رغم ذلك فإن «الفتى ومالك الحزين» بدأ وكأنه يستطرد مسيرة ميازاكي، بل بدت خطوطه وألوانه من الحيوية بحيث يمكن ربطها بنوع من نهضة جديدة في مسيرة ذلك الفنان التي نادرًا ما خيّبت توقعات ملايين المعجبين به حول العالم، وخصوصًا في اليابان حيث بات له من المكانة، حتى السياسية، ما يجعله قادرًا على فرض كلمته، وذلك على عكس أسلاف له من كبار السينمائيين اليابانيين (كوروساوا، وميزوغوشي، وأوزو) الذين كان من المعتاد أن يترافق أي حديث عن واحد منهم بالعبارة المأثورة: «لا مكان لنبي في وطنه»..

بالنسبة إلى ميازاكي، كانت مكانته كبيرة إلى درجة أنه حين خاض هو ورفاقٌ ومساعدون له، قبل سنوات وفي أيام حكم رئيس الحكومة السابق آبي، معركةً ضد قوانين مجحفة بحق الفن خِيضت ضد آبي، وقف معظم اليابانيين في صف الفنان ضد السياسي. وفي تلك المناسبة زادت شعبية هذا الفنان الاستثنائي وتابع اليابانيون أعماله وهم يطربون لكل تصريح يصدر منه في الخارج، ولا سيما من جانب سينمائيين عالميين كبار أعلنوا تأثرهم به دون أن تكون سينما الأنيميشن بالضرورة، ميدانًا لنشاطهم الفني. كان يكفيهم مجاراته من ناحية، في تلونيته المدهشة، ولكن من ناحية أخرى، في خياله الخصب والنزعة الإنسانية التي تُميز موضوعاته وتسم شخصياته، وعلى الأقل منذ الجوائز الأولى التي راحت تهطل عليه، منذ فيلمه المؤسس «قلعة كاليوسترو» الذي أطلقه في اليابان كما في العالم منذ ما يزيد عن نصف قرن الآن، لتتلوه عشرات الجوائز المحلية والعالمية التي سوف تطبع مسيرته بالتواكب مع إشادات وتحليلات طاولت سينماه وأتت على ألسنة مبدعين لا يقلون أهمية في سينما العالم عن «منافسين» له من طينة مسؤولي استوديوهات «ديزني» في الولايات المتحدة، أو «أوزامو تيزوكا» في اليابان، وصولاً إلى سينمائيين من شتى أنحاء العالم من الذين جعلوا لسان حالهم يقول للذين قد يرون أن الوقت قد حان ليستريح ذلك «المحارب الفنان»: اتركوه في خضم إبداعه!

وعلى رأس هؤلاء السينمائيين الذين يرون أن فنانًا من طينة ميازاكي سيكون كاذبًا وظالمًا لو أنه تقاعد أخيرًا، ستيفن سبيلبرغ وغييرمو ديل تورو وويس أندرسون وجيمس كاميرون ودين دبلوا، فضلاً عن المخرجَين اليابانيَين مامورو هوسودا وماكوتو شينكاي.

تُرى، أفلا يمكننا ونحن نتأمل، بل نسبر غور أفلام متنوعة لميازاكي ونقارنها بأفلام تحمل تواقيع هؤلاء المبدعين، أن نكتشف كم أن سينماهم، أي السينما الكلاسيكية الكبرى الجديدة في عالم اليوم، تدين له بكثير من تجديداتها وعناصرها؟ بل أفلا يمكننا، في السياق نفسه، أن نرصد في خلفية ما يميز اللغة السينمائية التشكيلية التي تطغى على «الفتى ومالك الحزين»، التقاربَ اللافت المقصود مع تحفة الفرنسي أنطوان دي سانت إكزوبيري «الأمير الصغير»؟ إنها القطعة الأدبية التي لم يفت ميازاكي أن يعلن منذ لفتت أفلامُه الأولى أنظارَ العالم، كم أنه يدين لها، مؤكدًا على وحدة الإبداع في عالم يعلن من آخرِه هذا الفنانُ الياباني الكبير، من قلب المشاعر الإنسانية، أن أشد ما يحزنه هو أن الآخَر بات اليوم هو العدو، متمنيًا لِفنّه أن يكون قويًا واسعَ الانتشار ليساهم في دحض «تلك الفكرة الشريرة الرعناء».. بحسب تعبيره.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى