كيف تكتب «سيتكوم» في عشر دقائق.. وبضع سنوات؟

September 17, 2023

يعد السيتكوم (Sitcom) فنًّا قائمًا بذاته، يحمل إيقاعه الخاص، ويتحرك بمزيج غريب بين إبداع الكُتَّاب وتعاطي الجمهور مع المادة والحس الفكاهي والشخصيات. ولا يعد ذلك الفن بمثابة إجازة أو نزهة فقط، بل يكون رابطًا عاطفيًّا -أعمق مما يبدو عليه- مع محبِّيه، ويكون خير صديق في أمسيات العزلة والوحدة.

ينطلق الأمر من عند الشخصيات؛ يحتاج الكُتَّاب إلى ملاحظة أنماط الشخصيات في الحياة اليومية، والتدقيق في تفاصيلها الصغيرة، ثم تجسيدها بشيء من المبالغة في البداية، ومن هنا يلمس الكُتَّاب اللازمات الكوميدية لكل شخصية على حدة قبل أن يتم تطويرها بالموازاة مع أنسنة الشخصيات والبعد بها إلى أرض الواقع عن الشكل الكاريكاتوري الذي بدأت منه، مثل مايكل سكوت في مسلسل «المكتب» (2013-2005 - The Office)؛ فهو يمثل شخصية المدير صاحب الحس الفكاهي غير المريح والذي لا يتمتع بما يكفي من الذكاء الاجتماعي، مع المبالغة في تجسيد ذلك الجانب، ومن هنا تنطلق الكوميديا ومعها تطوير أبعاد شخصية مايكل أكثر، مثل وحدته وتعاسته وسعيه للحب، حتى أنه في بعض الحلقات تم التعامل معه كشخص صاحب فلسفة ناجحة في القيادة، ومع طرح سمات الشخصيات تبدأ صورة علاقتهم معًا في التشكُّل، ومن بعد ذلك يكون تقديم القصة والحبكة الرئيسة للمسلسل هو المحور.

لا يستهلك كل هذا أكثر من الحلقات الأولى للمسلسل، وعلى الرغم من ذلك يكون الكُتَّاب قد امتلكوا فعلًا كل ما يحتاجونه من قبل البدء في سلسلة طويلة جدًّا من الحلقات التي تتطبع بروح الاطلاع على يوميات شخص ما، ليس لكل يوم بالضرورة معنى ما، ولا تشكل كل حلقة قطعة محورية في تطوير الشخصيات وخدمة الخط القصصي الأساسي، ومن هنا يأتي أول وأهم رابط بين الشخصيات والمشاهد، الألفة والأُنس؛ فلدينا شخصيات مستلهمة من واقع الحياة اليومية، وإيقاع ليس مشغولًا بالوصول لنقطة محددة فيما يخص الحبكة الكبرى، بل هي حلقات متراصة بجانب بعضها، لكلٍّ منها بناء مشابه للتي تليها، وأقرب ما يكون للبناء الدرامي التقليدي في مدة زمنية قصيرة. وتتصرف الشخصيات بناءً على طبائعها التي قُدمت بوضوح منذ البداية، ويصبح توقُّع جملة أو سلوك من شخصية ما معزِّزًا لهذا الشعور بالألفة. فعلى سبيل المثال، ينتظر جمهور مسلسل (Friends) أن يتصرف چوي بشيء من الحماقة، وأن يكون سلوك تشاندلر طوال الوقت ساخرًا، لكن تجد كل حلقة لنفسها حبكة تتبعها. وأهم فخ يستلزم تجنبه هو أن تحمل الحبكة وزنًا أكثر مما قد تحمله مجرد صفحة في يوميات أحدهم.

تتشارك حلقات السيتكوم مع الأفلام القصيرة في مدتها، لكن تتفارق عنها على مستوى البناء؛ فالأفلام القصيرة -باعتبارها نوعًا من الفن قائمًا بذاته- لا تخضع لقواعد البناء الدرامي التقليدية، وصياغة الأفكار من خلال ذلك البناء في تلك المدة يعد أمرًا مستحيلًا، وبذلك تخلق مساحة لصناع الأفلام القصيرة للابتكار على مستوى أسلوب السرد، إذ إنها ليست بالضرورة دائمًا فنًّا قصصيًّا. أما عن السيتكوم؛ فلأن الكُتَّاب قد تخلصوا فعلًا من عناء بناء الشخصيات وتقديم الحبكة الأساسية للمسلسل، صارت الحلقات -بعد ذلك- تُبنى بنمط مشابه لبناء الفيلم الطويل، وتقديم الحبكة باستخدام فرضية ما أو دافع لا يحمل وزنًا هامًّا، ثم الشروع في حل العقدة، وختام تلك الصفحة من اليوميات. وفي ظني أن أكثر مسلسل استفاد من ذلك هو مسلسل «بروكلين ناين-ناين» (Brooklyn Nine Nine) ففكرة توظيف ذلك النمط لكي تحكي حكايات بوليسية يومية تعد أذكى استخدام ممكن لشكل السيتكوم، وقد كان التحدي هو إيجاد المساحة الأكبر لهذا النوع النمطي من الحلقات، والاجتهاد والإخلاص في توظيف كوميديا المسلسل بشكل كامل من خلالها، ثم إيجاد المساحة الكافية للخط القصصي الأساسي ليأخذ مجراه في التطور والنمو، ومن ثم التعامل مع بعض الحلقات بدرجة من التحرر من البناء التقليدي، حلقات ليست بالضرورة الأهم للقصة، لكنها تحمل أهمية خاصة للكُتَّاب؛ من أجل صياغة أفكار ضرورية يفرضها عليهم ذلك النوع من الفن.
***
وفي هذا الإطار سأتحدث عن ثلاث حلقات علقت في ذهني من مسلسل «كيف قابلت أمكما» (How I Met Your Mother) والذي أعتبره أكثر المسلسلات تمردًا على أسلوب السرد بين حلقاته.

الموسم الرابع، الحلقة الثانية (Best Burger In NY):

تلتف الحلقة حول ذكرى محددة، فقد حصل أحد الشخصيات الرئيسة -مارشال- على أجمل برجر في نيويورك منذ سنوات، ولم ينل حظ تكرار التجربة ومشاركتها مع أصدقائه على الإطلاق؛ لأنه لم يستطع يومًا أن يجد ذاك المطعم مجددًا. وفي سياق محادثة تقليدية بين الأصدقاء، تبدأ رحلة مارشال الجديدة بمشاركتهم البحث عن ذلك المطعم، الذي يمثل الماضي الذي افتقده ويبحث عن طريقة مثالية لتوديعه، وتوديع تلك النسخة الحالمة منه التي أكلت هناك للمرة الأولى والأخيرة. ذهب إلى نيويورك شابًّا لم يغامر خارج منزل والديه في الريف، متشبعًا بمنظومة قيمية نبيلة وساذجة، بدأت تسلسلها المعتاد في الانهيار أمام عينيه، أمام مسؤوليات وآمال أهدأ وأشد وقعا للإنسان أن يتمسك بها، وتقاطعت رحلته في البحث عن المطعم مع أكثر اللحظات المحورية في حياته حتى ذلك الوقت، حيث قبل وظيفة آمنة في بنك، ليبدأ منه حياة وظيفية مستقرة.

بناء الحلقة هنا تقليدي بعض الشيء؛ فلدينا حبكة وهدف واضح وملموس يرتبط مجازًا بالماضي، وهو أن يجد الأصدقاء المطعم المطلوب، ولا يتخلى الكُتَّاب عن فكرة أن تكون الحلقات أشبه بيوميات، لكنها -من بين باقي الحلقات- تتواصل على مستوى أعمق مع أفكار يحاولون صياغتها من خلال المسلسل ككل، وتطرح تساؤلات عما إذا كان ذلك البرجر فعلًا بتلك الجودة، أم أنه متشبع بمذاق الحنين إلى الماضي، الذي يزداد مثالية كلما طالت المسافة بيننا وبينه، كما تتعامل بذكاء مع أهم الأفكار التي تتبناها القصة على طول خطها، كالنضج والتجاوز والمضي قدمًا.

الموسم السادس، الحلقة الرابعة عشرة (Last Words):

تسرد الحلقة يوم عزاء والد مارشال، وتنطلق عقدتها في اللحظة التي يدرك فيها مارشال أن كلًّا من أفراد أسرته -والدته وإخوته- سيُلقي كلمة يحكي فيها عن آخر لقاء جمعه بالأب وآخر كلمات ألقاها الأب على كلٍّ منهم، وجد مارشال أن لكلٍّ منهم حكاية ذات قيمة عاطفية أكبر من حكايته، حيث أخبره والده بضرورة استئجار أحد أجزاء سلسلة Crocodile Dundee، ثم يكتشف بعد ذلك وجود رسالة صوتية غير مسموعة من والده، رسالة أخيرة، تردد في سماعها، وحين امتلك الجرأة، وجد رسالة تنتهي بتصريح الأب بحبه إياه، ثم حكى قصة الفيلم على أي حال.

في الحلقة كثيرٌ من التحديات، أولها كان إيجاد عقدة في سياق كهذا تمنح إيقاعًا للحلقة لا يجعلها منفصلة عما سبقها وما سيتلوها من حلقات. والتحدي الثاني هو إيجاد توظيف جيد للكوميديا في حدث حسَّاس كهذا. وقد نجحت الحلقة في تخطي تلك العقبات، ولكن أكثر ما أعجبني في الحلقة -وهو ما لم يكن ضرورة فنية يستوجب تحقيقها- إيجاد مساحة لتناول مواضيع أبعد من التعامل مع الفقد في لحظة كتلك، فقد طُرح نقاش عن الحكايات والقصص كيف تكتسب شاعريتها وكيف تتشكل لها قيمة عاطفية حقيقية، وانتصارهم في النهاية كان للفكرة التي يعتمد عليها هذا النوع من الفن، وهي أن التعامل اليومي الذي يصرح أب فيه لابنه بضرورة مشاهدة فيلم ما، لا يقل عن لحظة دافئة عبَّر فيها صراحة عن حبه، حين تتحول كلتا اللحظتين إلى حكايات وذكريات.

الموسم الثامن، الحلقة الثانية والعشرون (Time Travelers):

تبدأ كحلقة تقليدية جدًّا، يجتمع الأصدقاء في الحانة، ويبدو أن الأمور ستنطلق في الاتجاه المعتاد؛ اختلاق فرضية، مأزقًا كان أو هدفًا صغيرًا لا يحمل معنى بالضرورة، تتحرك من خلاله الحلقة بالبناء نفسه ولكن الكُتَّاب يشرعون في تنفيذ شيء مغاير بعض الشيء، إذ تتلقى شخصيتان زيارة من نسخهم المستقبلية، في سياق حل نقاش كوميدي يعد من السمات اللازمة للمسلسلات المعتادة، وبعيدًا عن ذلك النقاش تتصرف باقي الشخصيات من حولهما بشكل طبيعي. ومع نهاية الحلقة تكتشف شخصيتنا الرئيسة -تيد- أن كل ذلك كان من وحي خياله؛ يجلس وحيدًا في الحانة ينسج من ذكرياته الهزلية مع أصدقائه خيالًا ينغمس في داخله بكل حواسه، ويُصدم في النهاية بكونه وحيدًا.

حلقة مشغولة من عنوانها بالزمن -ربما- حين يتجاوزنا، ويصطدم تيد في هذه الحلقة بحقيقة الوحدة، وحتمية استرسال الزمن؛ ففي لحظة الاستيعاب تلك، حينما تبدأ الكاميرا بالابتعاد عنه ويبدأ الشعور بالفراغ في الانتشار من حوله وبداخله، ينجح الكُتَّاب في الوصول بالشخصية لأهم نقطة في رحلتها وتطوراتها، حيث يعتني المسلسل -طوال الوقت- بحياة البالغين من منظور مراهق بعض الشيء، ولا يجسد مخاوف المراهقين عن المسؤولية فقط، لكنه يكثف تركيزه على صدمة الكبار أنفسهم من فكرة النضج. وفي تلك الحلقة كان ضروريًّا أن يصل بشخصيته الرئيسة إلى أكثر لحظة تضعه حقًّا على أرض الواقع؛ ليتمكن من ترسيخ أفكاره عن حياة البالغين وتحولاتها، قبل أن يحكي فعلًا لأبنائه قصة كيف قابل والدتهم.

 ***

إن كتابة السيتكوم عمليةٌ تبدأ من الكُتَّاب، وتتطور بتفاعل الجمهور، وربما يطرح ذلك نقاشًا عن مدى صدق الصُّنَّاع وإخلاصهم لأفكارهم ومشاعرهم. وفي ظني أن مساحة صياغة الأفكار في هذا النوع من الفن ليست وليدة القصة في حد ذاتها، بقدر ما هي وليدة أسلوب السرد المتبع، مهما كانت تحولاتها، فقد تنخرط في مثلثات حب تارة، وتختلق لنفسها صراعات أخلاقية تارة، وكلها ليست عُقدًا مركَّبة؛ فالسيتكوم فنٌ خاضعٌ -أساسًا- إلى استفزاز مشاعر الحنين والدفء لدى المشاهد، ويصل ذلك أحيانًا بالمشاهدين لتكوين علاقة غير صحية تفرض على المسلسل الأفكار التي يتناولها، كما يفرضها اتباع نمط الحياة اليومية، أفكار أساسية نجدها في كلِّ هذه الأعمال، كما نصطدم بها طوال الوقت في حياتنا اليومية ونعيد تعريف معانيها، كالنضج والتجاوز والمضي قدمًا. ونشاهد شخصيات على مدار سنوات طويلة -تطوراتهم ويومياتهم، حتى تغيرات ملامحهم مع السن- يخوضون رحلتهم الخاصة، فيصطدمون دائمًا بتلك المعاني ويعيدون تعريفها. ولأنها شخصيات حيوية وملموسة، نجد بيننا وبينها ذلك الرابط العاطفي، ونبحث عنها في نهاية اليوم متطلعين إلى ذلك الشعور بالألفة؛ هروبًا إليها من تعب يومنا الطويل. ومعها نستوعب، في النهاية، الشعورَ بالفقد وكيفية مداراته، والشعور بالإحباط والسبيل إلى تخطيه، إلى جانب الشعور بالإحراج وكيفية تجاوزه، وغيرها من مشاعر الخوف والكره والحب، وهكذا تستمر السلسلة بين المشاعر وطرق تجاوزها، إلى أن تكتسب كل شخصية، في كل مفترق طرق، شيئًا من النضج، يكتمل في نهاية المسلسل، شأنه شأن كل مسلسل صُنع على شاكلته، عن الحياة وإيقاعها المكرر، وعن سخريتها وتقبلها.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى