كيف نتذوق العمل السينمائي؟

مريم عبدالله
و
October 15, 2024

في عالم السينما، تكمن قوة عميقة تتجلى للإنسان عندما يراها، فيربط مزيجًا ساحرًا من الجمال والمعنى، ويتأمل ألوانها وأصواتها، ويدرك أشكالها وأفكارها التي تنقله إلى عالم موازٍ من الفن، والتذوق السينمائي ليس مجرد مهارة، بل هو رحلة تهدف لنرى كيفية تمكُّن السينما من نقل المشاعر والأفكار وإيصالها عبر التاريخ والثقافات، وكل فيلم -أيًا كان شكله، ونوعه، ومدرسته التي ينتمي إليها- يحمل قصة، ومن هنا يأتي دور التذوق السينمائي ليكشف لنا تلك القصص ويترجمها بألوانها وأشكالها وأصواتها إلى تجارب إنسانية عميقة، فكيف لنا أن نتذوق تلك التجربة السينمائية ونتلذذ بها؟ وهل هي عملية يمر بها كل من يشاهد فيلمًا؟

العمل السينمائي المتمثل في الفيلم، قد أثار جدلًا منذ أوائل القرن العشرين. صانعو الأفلام والمنظرون اختلفوا حول ما يميزه عن فنون الأدب والرسم والمسرح والتصوير الفوتوغرافي. لا يقتصر تعريف الفيلم على الصور المتحركة وسرد القصص فحسب، بل يشير أيضًا إلى شريط السيلولويد أو مخزون الأفلام الذي طُبعت هذه الصور عليه. وعلى مدى قرون، أثرت الأفلام تأثيرًا عميقًا في عالمنا والطرائق التي نرى بها أنفسنا والآخرين.(1)

قبل أن نتطرق إلى كيفية تذوق العمل السينمائي علينا أن نفهم معنى تلك العملية الثرية، والتذوق السينمائي هو فرع من دراسات السينما ويركز على فهم وتحليل الأفلام على نحو تفصيلي عميق، ويهدف إلى استكشاف العناصر المكونة للأعمال السينمائية مثل: الإخراج، والتصوير السينمائي، والسيناريو، والأداء التمثيلي، والموسيقى التصويرية، والمؤثرات البصرية (3)، وهذا العلم يسعى إلى فهم كيفية تأثير هذه العناصر في تجربة المشاهدة، والرسائل والمشاعر التي تنقلها الأفلام، والتذوق السينمائي بإمكانه أن يساعد على فهم وإدراك القصص السينمائية والاستمتاع بها.

أين تكمن أهمية التذوق السينمائي؟

يكمن جوهر التذوق السينمائي في تحويل تجربة مشاهدة الأفلام إلى تجربة غنية يتفاعل بها الفرد مع الفن السينمائي، وأرى أن التذوق السينمائي مهم لأربعة أسباب:

أولًا: تقدير الفن.

إن تذوق العمل السينمائي لا يجعلنا نقدّر عالم السينما فقط، بل يجعلنا نقدّر الفروع الفنية التي تظهر من خلال الفيلم، فنقدّر الجهد والإبداع الذي أخرجه صانع الفيلم بأفكاره ومعالجته للأحداث، والكاتب الذي خلق الشخصيات وعالمها، والموسيقى التي تواكب الأحداث بألحانها، والمصور الذي يجمع بين الزمان والمكان في آن واحد، والمحرر الذي يلوّن المَشاهد وكأنها لوحته الفنية.

ثانياً: فتح آفاق جديدة.

إن انفتاح الأفق الفكري عندما نتذوق العمل السينمائي لا يبدأ من فهم العناصر الفنية للفيلم، بل يتوسع على نحو أكبر من ذلك، ففهم العناصر يجعلنا ننفتح للقصص والأفكار التي تتناول القضايا الدينية والتاريخية والاجتماعية من زوايا مختلفة.

ثالثاً: تعزيز الإبداع.

عندما نتذوق عديدًا من الأعمال السينمائية فإنها تلهمنا بشكل أو بآخر لنستكشف أنفسنا أكثر، وتلهمنا بأفكار جديدة وقصص ملهمة قد تصبح نقطة انطلاق للإبداع، وبعد أن نفهم الفيلم ونشعر بأفكاره نبدأ بالرغبة في التعبير عن تلك الأفكار والمشاعر بطريقة فنية خاصة، وإذا كنتَ كاتبًا، أو رسامًا، أو مصورًا، أو تمارس أي نوع من الفن، فتذوق العمل السينمائي يساهم في تطوير رؤية فنية فريدة لديك.

رابعاً: تحفيز العقل.

يشجع التذوق السينمائي على التفكير النقدي والنقاش حيال موضوعات مختلفة تُطرح في الفيلم، وتذوق العمل السينمائي تجربة بشرية تثير المحادثات المهمة حول السياسة والثقافة والأخلاق، وتعزز الخيال وتخلق فرصة لتعلم اللغات الجديدة وفهم ثقافة بلدها.

لكن كيف نتذوق العمل السينمائي؟

إن تحليل العمل السينمائي هو جسر العبور لتذوق العمل السينمائي، والتحليل هو العلامة الفارقة بين المُشاهد والمتذوق السينمائي وذلك لسببين، الأول هو أن تحليل العمل السينمائي يعتمد بشكل كبير على التفاعل الشخصي والرؤية الفردية، والسبب الثاني أن التحليل عملية اختيارية، فالمشاهد يختار أن يصب جُل اهتمامه على عنصر واحد ويتغاضى عن العناصر الأخرى للفيلم، ولكن المتذوق للعمل السينمائي لديه اهتمام شامل لفهم وجمع هذه العناصر بعضها مع بعض، حتى يدرك معنى وقيمة الفيلم، وقد ذكر الكاتب جيمز موناكو James Monaco في كتابه «كيف تقرأ فيلمًا» How to Read a Film عناصر مهمة تساعدنا على تذوق العمل السينمائي:

المشاهدة:

عندما نشاهد الفيلم تحدُث عديدٌ من التأثيرات على مستوى الجسم والعقل، ففي المشاهدة نجمع جميع العناصر الفنية التي يتكون منها الفيلم، وتظهر مشاعرنا وعواطفنا ونتفاعل معها حسب نوع الفيلم الذي نشاهده، ونعود بذاكرتنا إلى الأحداث المهمة والرموز والرسائل التي يحاول صانع الفيلم إيصالها.

التصوير السينمائي:

من خلال التصوير السينمائي نلاحظ كيف يمكن لزوايا الكاميرا والإضاءة أن تتحكم في نمط سرد الفيلم ونقل المشاعر من خلاله، فالإضاءة المظلمة تخلق جوًا حزينًا ومخيفًا، والإضاءة الزاهية تضيف شعور الفرح، وزاوية الكاميرا البعيدة تفصلنا عن مشاعر الشخصية، وزاوية الكاميرا القريبة تجعلنا أقرب لمشاعر الشخصية.

السيناريو والقصة:

من هنا نرى العنصر الذي يتأسس وينبثق منه العمل السينمائي ويتأثر بجودته، ألا وهو السيناريو الذي نرى به سير القصة، فنفهم الهيكل السردي للقصة وتركيب الحبكة، وكيف تتقاطع القصص الفرعية مع القصة الرئيسة، ونشعر بما تسير به الشخصيات من توتر وفرح وحزن، ونترقب تصاعد الأحداث وكيف يمكن لها أن تنسج النهاية.

الأداء التمثيلي:

إن الأداء التمثيلي يلعب دورًا مهمًا في فهم القصة وشخصياتها، وجودة الأداء التمثيلي بإمكانه أن يحوّل الشخصيات الورقية إلى شخصيات حقيقية ذات أبعاد متعددة، والأداء يثير للمتذوق السينمائي الضحك والبكاء والتوتر والدهشة، ويجعلنا نقدّر مهاراتهم في تعبيرهم عن رسائل الفيلم.

المونتاج:

المونتاج يجعلنا نفهم كيف جُمعت المَشاهد وكيف تم ترتيبها بتوقيت محدد، ونرى من خلاله كيفية التحكم بالإطارات وزوايا الكاميرا، والأهم من ذلك هو في كيفية ضبط الوقت والإيقاع من خلال التركيب البصري والصوتي للمَشاهد التي تعكس المشاعر المختلفة، فالإيقاع السريع الحاد يخلق التوتر، والإيقاع البطيء الهادئ يخلق الاسترخاء والتأمل.

الرموز والرسائل:

إن تحليل الرموز والرسائل أمر مهم في عملية التذوق السينمائي، فالتحليل يساعد على فهم عمق الرسائل في العمل السينمائي، ونبدأ برؤية الرموز عندما ندرك سياق الحبكة الرئيسة، وعندما نرى تكرار العناصر في العمل، ونفحص بداخله التفاصيل سواءً كانت على شكل ألوان أو كلمات أو أشياء، والتي تجعلنا ننصت إلى أفكار أو مشاعر معينة، وكيف يمكن أن تتفاعل الشخصيات معها.

التقييم النقدي:

تصل نهاية عملية تذوق العمل السينمائي إلى أن نقيّم العمل بناء على المعايير المذكورة أعلاه أو على معايير تتضمن تفصيلًا أكثر، ومن ثم نحاول تفسير معنى الفيلم وكيف له أثر في الجمهور، وغالبًا يشجع التقييم النقدي على خلق مناقشات مع الآخرين، سواء كانوا مشاهدين أو نقاد سينمائيين، وتضيف هذه المناقشات في إثراء وجهات النظر، وإضافة نظرة وفكرة مختلفة تزيد من فهم معنى الفيلم.(2)

في سؤال التنمية والتذوق السينمائي.

اخرج من منطقة الراحة.

قد نفضّل نوعًا معينًا من الأعمال السينمائية ونشعر بالمتعة أكثر تجاهها، وذلك لاعتيادنا على أسلوب القصص التي يعالجها صناع هذا النوع من الأفلام، ولكن تكمن نقطة التحول الأولى لكي نتذوق الأعمال السينمائية في فتح أعمال سينمائية جديدة لعقلك من مختلَف الأنواع والفترات الزمنية والثقافات المختلفة، وهذا الأمر يساعدنا على فهم الأساليب المتنوعة في كيفية صنع العمل السينمائي.

اطّلع على تاريخ السينما.

إن الاطلاع على تاريخ السينما له عائد وفير في عملية التذوق السينمائي، فهو يجعلنا نفهم تطور الفن السينمائي ونعرف من خلاله الاتجاهات الفنية التي أثرت فيه، وندرك ونقدر أهم الأفلام التي أثرت في تاريخ السينما، ونفهم كذلك من خلال السينما كيفية تأثيرها في المجتمع والثقافة، وكيف شكّلت الأفلام آراء وتوجهات البشر على مر الزمن.

اقرأ المقالات والكتب السينمائية.

لكي نفهم وندرك العناصر الفنية لعملية التذوق السينمائي علينا أن نتعلم بشكل علمي أعمق عن عالم السينما، ويكون ذلك من خلال المقالات المتنوعة والكتب التي تقدم معلومات وتحليلات مفصلة عن الأفلام وتاريخها بمختلف جوانب الصناعة، وهذه المصادر العلمية تساعد في فهم الجوانب الفنية والتقنية وأساليب صناعة الأفلام، وتشجع التفكير النقدي وكيفية قراءة وتحليل الأعمال السينمائية.

استمع إلى النقاد.

إن الناقد هو بوصلة توجّه المتذوق السينمائي نحو كل ما هو قديم وجديد في عالم السينما، ويقدم الناقد دائمًا تحليلًا وتقييمًا عميقًا يوسع فهمنا للأعمال السينمائية من خلال ما يعمل وما لا يعمل في صناعة الأفلام بأنواعها، والاستماع إلى الناقد يحفز التفكير النقدي ويثري النقاشات السينمائية كثيرًا، ونستكشف من خلالهم أعمالًا سينمائية تناسب اهتماماتنا.

ناقش العمل السينمائي.

إن مناقشة العمل السينمائي هي عملية اتصال تفاعلية بين الفيلم والمشاهدين، ومناقشة العمل السينمائي تمثل فرصة لتحليل جوانب الفيلم وتطوير وجهات نظر متعددة، والمناقشة توجه الاهتمام نحو التفاصيل والرموز والجوانب الفنية والتقنية التي قد يغفل عنها المتذوق السينمائي مما يجعله يقدّر العمل السينمائي أكثر.

في الختام، إن تذوق العمل السينمائي يتعدى مجرد تجربة ترفيهية لمشاهدة الأفلام، فهو ليس مجرد مشاهدة أعمال سينمائية على الشاشة فحسب، بل هو استكشاف للبشرية والحياة من منظور آخر يؤدي إلى فهم أعمق للثقافات والتجارب المختلفة ويفتح لنا أبوابًا لعوالم جديدة تعزز التفاهم بين الثقافات وتعطي الأفراد التواصل عبر الزمان والمكان من خلال لغة فنية مشتركة. إنه فرصة لنستثمر تلك القوة السحرية للسينما في تشكيل أنفسنا.

الهوامش:

1.Yelizaveta Moss, and Candic Wilson.(2018) FILM APPRECIATION.
2.Monaco James.(2009) How to Read a Film: Movies, Media, and Beyond.
3.Louis Giannetti.(2014) Understanding Movies.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى