تُثيرُ الانتباهَ والفضولَ تلكَ الأفلامُ التي تبني حَبْكَتَها على عالَمَيْن متنافرين. ويَكْمُنُ الجانبُ المثير للانتباه في فَحْوَى القصةِ ذاتِها، الذي يُبْنَى على هذين العالَمَيْن: أحدُهما فنّيٌّ، حالِمٌ، جذّابٌ ومُثيرٌ، والآخرُ هو عالَمُ الواقعِ، الذي سيتبلورُ من خلال امتحاناتِه الصعبةِ وبيئتِه القاسيةِ. أمّا منبع الفضول، فهو كيفَ سيعملُ صانعو هذهِ الأفلامِ على المزجِ بين هذَيْنِ العالَمَيْنِ غيرِ المُتجانسَيْن. وأبرزُ مثالٍ على ذلك هو فيلمُ «كواليس» (Backstage, 2023) من إخراجِ عفاف بن محمد وخليل بن كيران، والذي تدورُ أحداثُه حولَ فرقةٍ متجَوّلَة مكونة من عشرةِ راقصين. أثناءَ أدائهم لعرضهم ما قبلَ الأخيرِ في المغرب، تتعرضُ إحدى الراقصات، عايدة، والتي تلعبُ دورَها مُخرجةُ الفيلم عفاف بن محمد، إلى حادثٍ بسبب رفيقِها في الفرقة وزوجِها في الفيلم، هادي، والذي يلعبُ دورَه سيدي العربي شرقَاوي، مما يستوجب نقلَها إلى أقربِ طبيبٍ لتلقي العلاج قبلَ موعدِ العرضِ الأخير. وعليهِ، يقومُ أفرادُ الفرقةِ بأخذِها والذهابِ بها إلى أقربِ طبيبٍ في بلدةٍ خارجَ المدينة، وسيكونُ عليهم السير ليلًا، والمرور عبر غابة كبيرة للوصول إلى الطبيبِ في البلدةِ. وعندَ الوصولِ إلى أطرافِ الغابة، يتعطّلُ إطارانِ من إطاراتِ السيارةِ التي تَقِلُّ الفرقةَ، مما يعني أنَّ عليهم تركَ السيارة، واختراقَ الغابةِ سيرًا على الأقدام، في عَتْمَةِ الليلِ تحتَ ضوءِ القمرِ، الذي سيكتملُ أثناءَ مرورِهم بعدَ منتصفِ الليل.
تبدأ تلكَ الرِّحلةُ المُوغِلةُ داخلَ الغابةِ المُظلِمة، المُخيفةِ والباردةِ، وخِلالَها ستتَكشَّفُ للأفرادِ التائهين، وهم يَشُقّونَ طريقهم نحوَ العَتْمَةِ، مَظاهرُ خَوفِهم، غَضَبِهم، وقَلَقِهم، ولكنَّ الأهمَّ هو تَداخُلُهم مع بعضِهم، من خلالِ استِرسالِهم في الأحاديثِ عن أنفُسِهم.
ستكونُ تَجارِبُهم الشخصيةُ ببساطةٍ أشبه بنَقلةٍ إلى كَواليسِ حياتِهم غيرِ المُعلَنةِ وغيرِ المَحكيةِ. وسيثيرُ تَلامُسُهم الحِسِّيُّ فيما بينهم مشاعرَهم المَكبوتة، التي تَنطَلِقُ في سياقِ الفيلمِ على شكلِ تابلوهاتٍ راقصةٍ، فرديّةٍ أو جماعيةٍ، كُلُّها تحدث في مَسرحِ الغابة.
تَنقطِعُ الأوجاعُ والأحاسيسُ القاسيةُ المُضطرِبةُ فورَ وصولِهم إلى الطريقِ المؤدي للقرية، حيثُ سيجري البحثُ عن الطبيبِ الذي سيُعالِجُ عايدة، فتنتظر الفِرقةُ مَصيرًا آخر، حول إمكانيّةِ إقامةِ العرضِ الأخيرِ في جَولَتِهم في المغرب من عَدَمِه.
«كواليس» هو فيلمٌ أشبهُ بعرضٍ مسرحيٍّ يَنقسمُ بين ما هو داخليٌّ (على المسرح)، يبدأُ وينتهي به الفيلمُ وبين ما هو خارجيٌّ (الغابة)، في جَوِّها القاسي والموحِش. مسرحُ الغابةِ سيَقودهم نحوَ اكتشافهم النفسيّ لذواتهم، مبرزًا حقيقتُهم وخَبايا أرواحِهم الحائرةِ، المُعذَّبةِ والوَحيدةِ. تتجلى سينمائيّةُ الفيلمِ في لحظةِ ولُوجهم داخل الغابة، ثم لاحقًا إلى المدينة.
فكرةُ الفيلمِ النوعيّةُ من ناحيةِ الطرحِ تجعلُه جديرًا بالمُشاهدةِ والتفاعلِ مع لقطاتِه المُتعاقبة، لكنَّ أبرزَ ما يُميّزُه هو أدوارُه النسائيّة. الممثلةُ عفاف بن محمد في دور عايدة هي محورُ أحداثِه. تتمتع بشخصية قويّةٌ، لكنها تَعيشُ صراعًا نفسيًّا بعد الحادث الذي كان أشبهَ بالضَّربةِ المُوجِعةِ التي أيقَظتْها من الداخل، لذلك تُعيد التّفكيرَ في علاقتِها مع شريكِها الفنيِّ وزوجِها هادي، والسؤالُ الذي يطَرق بالَها طوالَ الأحداث: كيف سيصبح حالُها إذا لم تستطع الرقص مجددًا؟ وهو تَحدٍّ سيكونُ بمثابةِ النهايةِ لمستقبلِها كفنانة.
هنالك أيضًا الممثلة سندس بلحسن في دور نوال، التي تُعاني – على ما يبدو – من مَرارةٍ الفقدان، لكنها، وكما هو حالُ عايدة تُحاوِلُ التَّشبّثَ بكينونتِها الفنيّةِ كراقصة، الأمرُ الذي يَدعوها لتبديدِ مَخاوفِها بالرَّقصِ منفردةً وسطَ الغابة، كنوعٍ من التَّجرُّدِ والهروبِ من ماضيها الحزين.
كذلكَ، الممثلةُ سليمة عبد الوهاب في دور عنبر، التي تُدمنُ الشَّرابَ في محاولةٍ للنّسيان. تبدو آثارُ الكِبَرِ عليها، وكأنها تُحاولُ البَوْحَ بملامحِ شَكلِها، لتُخبِرَنا كيف أفنتْ حياتَها من أجلِ الفنِّ، وكيف أثّرَ ذلكَ في بقائها – ربّما – وحيدةً.
الشخصيةُ النسائيةُ الأخيرةُ من أفرادِ الفرقة هي حاجِبة فهمي، وتلعبُ دور سندس، الراقصة الشابةِ التي تُريدُ الاستمرارَ في الرقص، على الرغمِ من أنها تَحمِلُ طِفلًا في أَحشائِها، وتَميلُ إلى فكرةِ تفضيلِ الرقصِ على الحياةِ الشخصيّة.
تبدو حياةُ هؤلاءِ النسوة مُترابطةً، تتوازي مصائرِهِنّ عبرَ حياةِ كلٍّ واحدةٍ منهنّ، غير أن الزمنَ يظلُّ هو المُتغيّرَ عبر الأجيال المُتعاقبة. ربّما تبدو شخصيةُ سندس أكثرهن استقلاليّة، لكن، هل ستصبح حياتُها أفضلَ من قريناتِها؟!
من الأدوارِ الرجاليةِ، يبرز بشكلٍ جميلٍ عبد الله باديس في دور خالد، والذي يبدو أكثرَ حِكمةً وكان بمثابة حَلقة الوصل بين الجميع.
يُراعي فيلم «كواليس» قَسوةَ الطبيعةِ وعبثيّةَ الحيواناتِ البريّة، وذلكَ من خلالِ التصويرِ السينمائيِّ الجميل. تتّسمُ لقطاتُه الليليّةُ بالرماديّةِ المائلةِ للقَتامة، كتعبيرٍ عن مشاعرِ الخوفِ والقلق، لكنَّ النقلةَ في التصويرِ تتمثل في لقطاتِ الصباح، حينَ يَبرُزُ النورُ القادمُ من السماءِ كإضاءةٍ حقيقيّةٍ تعد بقادمِ جديد، في لقطاتٍ جميلةٍ وانطباعيّة، مُبَيِّنَةٍ تضاريسَ الطبيعةِ بينَ جبالِ الأطلس.
ما يُثيرُ الإعجابَ – وقد يبدو الأمرُ غريبًا – هو مِكساجُ الصوتِ الخاصُّ بلقطاتِ التابلوهاتِ الراقصةِ داخلَ الغابة. تتجلى الإثارةُ في الصوتِ الناتجِ عن الحَرَكةِ الخفيفةِ لثيابِ الراقصين، جراءَ احتكاكِهم ببعضِهم أو بالأشجارِ من حولِهم، وقد بدا الأمرُ طبيعيًّا، وحقيقيًّا، وجذّابًا جدًّا عندَ الاستماعِ لتلك المؤثّراتِ داخلَ اللوحات الراقصةِ وسطَ الطبيعة.
«كواليس» فيلمٌ جيدٌ بمقوماته التمثيليّةِ والجَماليّة، حيث يَكمُنُ سِرُّه في لقطاتِه الطبيعيّةِ وهندسةِ صوتِه. ورغم هذه المزايا، كان يُمكن أن يَبلُغَ أكثرَ من ذلك بالتمهيدِ الجيد للشخصيّاتِ في فصلِه الأوّل، كما كان بإمكانِه أيضًا تحقيق التوازُن بين ما هو مَسرحيٌّ راقصٌ، وما هو مَوقعيٌّ انطباعيّ. لكنَّه، رغمَ ذلك، يَعتَمدُ أكثرَ على التلقائيّةِ والحميميّةِ في المَنحَى العامّ للحبكةِ.
ما يُمكنُ الخروجُ به بعدَ مشاهدةِ «كواليس» هو الإصرارُ على تَكمِلةِ الطريقِ، حتى مع الشخصيّاتِ التي يَـمضي عليها الزمانُ، وتظهر عليها آثار التعب وتَقتربُ من النّهاية. ولعلَّ أبلغَ لقطةٍ لذلك تتجلى في مَنظرِ الفرقةِ داخلَ الحافلةِ، التي ستنقُلُهم مجددًا نحوَ المَسرح (البيت).
«كواليس» هو فيلم عن عنادِ الفنّانِ وإصرارِه، وهو أيضًا عن الأُلفةِ والحُبِّ بين أفرادِ الفِرقة، الذي سيُجسّدُ وَحدتَهم وتَضامُنَهم في تلكَ الظّروفِ الحياتيّةِ الصعبةِ، والشاقة على النَّفس.