تقديم، أو في الصورة بعمومها والإطار:
في عالمٍ متشظٍّ، القوميَّات فيه لم تعد أكثرَ من مجموعاتٍ من الأناس الذين يتشابهون في أماكن متفرَّقة، والمؤسَّسات لا تعملُ إلَّا في حدود الضيِّق وما هو في متناولِ اليد، لفرط الضعف من ناحيةٍ ولشدَّة اتساع العالم من ناحية أخرى. عالمٌ أناركي بالمعنيين، بمعنى الفوضويَّة على نطاقها الأوسع ومعنى السلطة وهي في حالة من الخَوَر الدائم. والمعنيَان هذان يأخذان الصورة الأسوأ للأناركيَّة. الفضاء كله، أو جلُّه للدقة، صار مجرَّد شارعٍ رئيسٍ تعبره المركبات في المجرَّة الواسعة. الناس، كعهدهم، يبحثون عن القوت والمكان المناسب للإقامة - ما يسمّى بالموطن - إلَّا أن الحالَ أكثرُ رداءةٍ في هذا العالم ممَّا كانت عليه. القوت صار أكثر شُحًّا من ذي قبل، حتى ليبدو وأنَّ حالة البدو القدامى في كثرة الترحال بحثًا عن الماء والكلأ قد عادت مجدَّدًا بزيٍّ جديد. والمَوَاطن لم تعد مستقِرَّة، وكأنَّها بسبب اتساع العالم والخيارات صارت أقلَّ وأضيق. يؤطِّر هذا العالمَ الخرابَ جمالٌ متقنٌ من الجازِ والبلوز الخفيض، مع قفزاتٍ عاليةٍ من الروك والهيفي-ميتال. هذا العالم، بقدر ما يُشاهَد بقدر ما يُسمَع. وكأنَّنا بإزاء ابن عربي إذ يقول: «السماعُ منشأ الوجود».
بين الآراء التي حاولَتْ أن تعرفَ منشأ الشعر العربي، كان ثمَّة رأيٌ يقول إنَّ حالة العربي، أو البدوي، في ترحاله الطويل وراء الماء والكلأ، كان لا بدَّ له من سلوى على المشقَّة، وبما أنَّ القول بين الرفاق كان يمتدُّ فإنَّ منتهى القول، خصوصًا في الليل، سيفضي إلى الشعر. كانوا يقولونه على سبيل التلهِّي والفضفضة؛ حتى تصيَّر إلى ما صار. وغير ذي أهمية - بالنسبة لي الآن - إن صحَّ هذا الرأي أم لا. إلا أنَّه يهمُّني في الصورة الأوسع لعالم «كاوبوي بيبوپ» (Cowboy Bebop - 1988). إنَّنا في رحلتنا مع المركبة بيبوب، ومَن على متنها بين شتَّى الحكايات والفصول، نسمع. دائمًا ما توحي الموسيقى بما هو كائنٌ وما سيكون. منذ الإنترو الذي بسببه اشتُهرت موسيقى المسلسل بالكامل، وحتى ذروة الأحداث إذ يتقاتلُ سبايك وفيشس. طيب…من هؤلاء؟
الشخصيّات، أو عاديون وإن كنا خارقين:
سبايك سبيغل (وأدَّى صوته في الدبلجة الإنكليزيَّة ستيف بلوم)، الشخصية الأرأس على ما يبدو من المسلسل، رجلٌ لامبالٍ كليًّا، حالةٌ من بيت سعدي يوسف «لكمُ البلادُ ولي البلادةُ» ماشيةً على قدمين. مقاتلٌ من الدرجة الأولى، مستعدٌّ دائمًا لأيَّة مواجهة، وليس لأسبابٍ تتعلَّق بالفضيلة وحماية العالم - تلك أوهامٌ كبيرةٌ لأناسٍ كروشهم أكبر - إنَّما يقاتلُ لتوفير قوتَ يومه. كيف؟ في العالم الذي وصفناه سلفًا، حيثُ السلطة رخوةٌ ضعيفة، يكثر المجرمون والمطلوبون للعدالة. في هكذا عالمٍ يكون الحل في العودةِ إلى النظام الأميركيِّ القديم الذي يبرزُ فيه صيَّادو الجوائز. سبايك واحدٌ من هؤلاء. كلما أُعلِن عن مطلوبٍ قام وطارده، قابضًا عليه ليوفّر قروشًا تكفيه من أجلِ لقمةِ آخر النهار. يساعده في ذلك جِتْ بلاك (بو بيلينغسليا)، والذي هو، على النقيض من رفيقه، بالغُ الاهتمام بما يدور من حوله، ودائمًا ما تَظهرُ في وقفته شِدَّةٌ عسكريَّةٌ بقامةٍ مستقيمة. هو قبطانُ المركبة والمشاوير الفضائية، شِيفٌ ماهر، ذو ذراعٍ آلية، يلتقي وسبايك في نقطةٍ واحدة، وهي أنَّهما يكرهان الكلاب والأطفال والنساء. وتلك مشكلة، إذ يحل عليهم الثلاثة في مركبتهما ويرافقونَهما في الصيد.
فاي فالانتاين (ويندي لي)، امرأةٌ توحي بقدرٍ عالٍ من الإيروتيك، مكَّارةٌ وتلك فضيلتها التي أبقت عليها في الدنيا، أنانيَّةٌ من الدرجة الأولى، تصيد لا من أجل متعة الصيد ولا لتوفير قوتِ اليوم، بل للعبِ القمار، وكلما خسِرت كلما شُبِقَت للمقامرة أكثر، وما من مودة بينها وبين سبايك وجِت - إلا بقدر ما يتنامى بطيئًا مع العِشرة - ماهرةٌ في استخدام الأسلحة وملقوفة بامتياز.
إد (ميليسا فان)، أو الطفلة التي اسمها إدوُرد! طفلةٌ ولكنَّها داهيةٌ في التهكير وكلِّ ما يتعلَّقُ بالبرمجيَّات، ولو أردنا اختصارها فلن نخطئ لو اكتفينا بالقول "طفلة" فحسب، بكلِّ ما في ذلك من لعبٍ وذكاء. وأيضًا إين (كويتشي ياماديرا)، كلبٌ من فصيلة البيمبروك الويلزيَّة—أو هكذا تسمَّى حسب معرفتي. لطيف، لعوب؛ وماذا يريد كلبٌ من هذه النوعيَّة إلا التدليل والأكل؟ إلا أنَّه لا سبايك ولا جِت ذوَا مزاج لهذا، وفالانتاين أكثرَ أنانيَّةً من التعاطف مع كلب، إد هي الوحيدة الفاعلة لذلك، بسبب الصلة ما بين البراءتين الطفولية والكلبيَّة—بعيدًا عن ديوجين—التي ترافقه فعلًا. بيبوب مركبةٌ بالوصف السطحي لها وموطنٌ متنقِّلٌ لشخصيَّاتنا في المسلسل. فيشُس صورةٌ نمطيَّةٌ من الشرِّ الصافي، ليس موجودًا إلا لتحقيقِ التوازن في إطار المسلسل ولتذكيرنا بما تفعله السلطة في صاحبها وبمن يصلحون لها: الصافون شرًّا.
إن لاحظنا، فلكلِّ شخصيَّةٍ من الشخصيَّات الرئيسة أعلاه قوَّةٌ ما تجعله خارقًا بشكلٍ ما. ضربٌ من تطوير مهارةٍ ما من أجل التكيُّف للنجاة في عالم ما بعد العالم. مقاتلٌ فذ، قائدُ مركبةٍ فضائيَّة، مكَّارة إيروتيكيَّة، هَكر، كلبٌ من فصيلةٍ نادرة. شخصيَّاتٌ بتلك الصفات تنفعُ أن تكون في عملٍ مسلٍّ وناجح، خصوصًا وأنَّ العمل مسلسل إنمي. إلا أننا مع توالي حلقات المسلسل، ننتبه إلى أنَّ كلَّ هذا لا يعني شيئًا أكثر من أن يكون خطوطًا عريضةً من أجل التسلية وإكمال الرحلة مع شخصيَّاتنا. دائمًا ما نلاحظ في نهاية كلِّ حلقةٍ من الحلقات شخصيَّاتنا أثناء قيامها بروتينٍ يومي: سبايك يمارس تمارينه الرياضيَّة، جِت يسقي ويشذِّب زرعه، فالاتناين تشاهد مقاطعَ من حياتها السابقة، إد تلعبُ. وهم من هذا المنطلق أناسٌ عاديُّون تمامًا. ما يجمعهم ليس القوى والمهارات بقدر ما هو المشترك الدائم بيننا حتى نحن المشاهدين: الماضي. لكلِّ واحدٍ منا ماضيه الذي يُثقله، وكذلك شخصيَّات بيبوب، كلٌّ منهم يحمل ماضيًا وراء ظهره، شكَّلهُ وجعل منه ما هو عليه الآن.
1- سبايك، العضو السابق والمنشق من عصابةٍ إجراميَّةٍ كلَّفته خسارة حبِّ حياته.
2- جِت، الشرطيُّ المحقِّق السابق الذي ترك المهنة بسبب الفساد المستشري فيها، والفاقد بسبب ذلك ذراعَه البشريَّة.
3- فالانتاين، المرأةُ التي استيقظت من عمليَّة حفظٍ طبيَّةٍ بعد دهرٍ طويل إثر حادث مركبةٍ فضائيَّةٍ أودى بأهلها كلُّهم، واستيقظت بلا ذاكرةٍ وعلى بياضٍ تام.
4- إد، اليتيمة بلا أبٍ وماضيها ليس ماضيًا بذاك المعنى، بسبب حداثة سنِّها، لكنها الوحيدةُ التي نعرفها من كوكب الأرض بشكلٍ مباشر؛ إنَّها البقيَّة من ذاكرة الأرض.
فلسفة المسلسل، أو أن تتجذمرَ غصبًا عنك:
تمرُّ علينا في المسلسل عبارةٌ مفصليَّة لعلَّنا نستطيع ترجمتها كالآتي: «سوف أتحمَّل ذلك العبء»، أو - بإيجازٍ بلاغي - «لتحملنَّ وِزرَك». مع مرور الحلقات - والتي بالمناسبة لا تسمَّى في العمل بالحلقات، بل بـ "الجلسات" أو بـ "الحصص" (session) - ومع دخولنا مغامرة وخروجنا من أخرى، نشاهدُ فلاش باكات دائمةً لواحدةٍ من الشخصيَّات. هناك ما يدفع هؤلاء القوم إلى الهروب، أو إلى حالةٍ من التطنيش المكابر. لا يحكون لبعضهم عن هذا كثيرًا؛ لديهم ما يكفي في حاضرهم والذي - يا للغرابة! - لم يعد يؤثِّرُ فيهم كثيرًا. مع كلِّ مغامرة صيدٍ لمطلوب، لا بدَّ أن يُقدَّم درسٌ ما، إلَّا أنَّهم لا يبالون بهذا. في نهاية اليوم، سيعودون إلى المركبة بيبوب ويأكلون أو يتشاغلون بروتينهم العادي. الحياة - على كثرة من تصفق على القفا - لم تعد تؤثِّر. بالغون - أو هذا ما يعنيه البلوغ - أن تحمل ماضيًا بندوبه، وخدوش الحاضر ليست بشيء. ومن هنا، فإنَّ الواحد منهم لا يُستَفزُّ عميقًا وبدافعٍ إلا إذا كان الباعث من ماضيه. نشاهد ذلك في سبايك وهو يكاد أن يودي بنفسه في معركةٍ ضدَّ عصابته القديمة، أو جِت الذي يعود باحثًا وراء حبيبته القديمة، لا أملًا في الرجوع أو الملامة، بل ليَفهم شيئًا واحدًا: لماذا تركته دون كلمة وداعٍ وبلا مقدِّمات؟ إنَّه العتاب، ديدن العشاق حتى بعد انتهاء العلاقة!
أما فالانتاين، فهي موجودة في المعادلة لإثبات المفارقة. إنَّها بلا ماض، على نقيض رفيقَيها، وبدلًا من أن تعيش هذه الراحة - راحة عدم وجود ماضٍ يثقل الكاهلين—فإنَّها تبحث دؤوبًا عنه. همُّها الأول هو استعادة ماضيها. كلَّما حاولت فشِلت. لا تنفكُّ عن مشاهدة مقاطعَ قديمةٍ لعلَّها تصلُ إلى شيءٍ ما. وإذا ما كنا بإزاء كائناتٍ مثقلةٍ لا تستطيعُ التخفُّف من نفسها بينما نتابعُ سبايك وجِت، فإنَّنا مع فالانتاين نُلفي أنفسنا أمام كائنٍ لا يحتملُ خِفَّة نفسه. ربَّما لا يكون الإنسان، في النهاية، غير حيوانٍ ماضوي؛ في إحدى المواقف التي تجمع فالانتاين وسبايك، يقول الثاني للأولى إنَّها لو تُبصِر جيدًا في عينيه، فإنَّ واحدةً منهما مزيَّفة، ذلك لأنَّها دائمًا ما تنظرُ للماضي. لعلَّ هذا ما أراد المسلسل قوله، أي أنَّنا جميعًا ذوو عينٍ مزيَّفة. المشكلة كلها لو أنَّ كلتا العينين انقلبتا صوب الماضي، بالذات ونحنُ في حاضرٍ لا يرحم.
وماذا عنه؟ الحاضرَ أعني. ظلٌّ لعالمه، وكما أنَّ العالم خرابٌ فزمانه خرابٌ كذلك. قد يكون هذا ممَّا يؤيِّدُ مفهومَ الزمان بوصفه جزءًا من المكان، بُعدًا مكانيًّا، نشعر به يتحرَّك بينما نحن المتحركون من خلاله في العمق. والحركة هي كلُّ شيء. غالبًا ما كان الاعتقاد يتَّجه نحو القول إنَّنا شجر، لنا جذور ونتحرَّك في علو. هذا ما ساد، بسبب تشابُه قامَة البشريِّ وجذع الشجرة مثلًا؟ ربَّما. بسبب أنَّ المرأة من الجنس البشري تثمرُ كالشجر؟ ربَّما أيضًا، وربَّما لأنَّ الأبَ من الرجال يكون أشبه بالشجرة إذ يستَظلُّ بها الأطفال. المهم أنَّ هذه المقاربة ظلَّت السائدة والمحببة للنفس. وعليه، فلطالما بحث الإنسان لنفسه عن جذور، وحاول جاهدًا الصعود إلى السماء - عن طريق الدين كمثال - ولذا فإنَّ أقسى العقاب كان، وما يزال، هو أن يُقتَلع المرء من أرضه غصبًا. حتى جاء دولوز وابتدع مفهومًا جديدًا - وهو الذي يرى في الفلسفة ابتداعًا للمفاهيم ليس إلا - خارجًا أيضًا من حقل النبات، أعني: الجذمور. إن الجذور تُعرَف بوصفِها حركةً نحو العمق بحثًا عن الماء، رسوخًا أقوى، تملُّكًا شبه أبدي لنقطةٍ محدَّدةٍ في المكان. الجذمور عكس هذا، إنَّه في حركةٍ أفقيَّة، في السطوح لا الأعماق، بهذا ينمو نباته ويتشعَّب، وتُعرف به النباتات النجيليَّة. هذه المحاولة في التعريف قد تكونُ مخلَّة. بيد أن الأهمَّ في الموضوع أن دولوز يريد أن تتشكل حركاتنا - بمعناها الأوسع - على الأسطحِ بهيئة أفقية، حالةٌ من البداوة بمعنى الترحُّل الدائم بلا ثبات. وهذا ما ينطبق على أبطالنا في الإنمي. جميعهم جذامير، لا أحد منهم يحاولُ تثبيت جذورٍ في العمق، فالهاوية لا قاع لها أساسًا، وما من إرادة للعلو نحو السماء، لأن السماء انقشعت فعليًّا: نحن في الفضاء!
قد يبدو في هذا ضربٌ من التناقض. أليسوا دائمي النظر إلى الماضي؟ بل والذي منهم لا يملك ماضيًا يحاول استعادته بلا ملل؟ صحيح، إلَّا أنَّ هذا يتوقَّف على تعريفنا للماضي. هل الماضي أرضٌ نحاول غرسَ جذورنا فيها؟ ليس كذلك، إنَّ الماضي صورةٌ لأرضٍ كانت وبادت. وما من عاقلٍ يحاولُ غرس جذوره في صورة. لكلٍّ منَّا صورةٌ يفضِّلها عن الأخريات، وما من تصويرٍ إلا عن خُبر وتجربة، أي من الماضي. ما نحن إلا جُماع صورٍ تتوالى سريعًا، في نهاية المطاف. أليس هذا هو تعريفُ الفيلم بالأساس؟ قد نكونُ مجرَّد أفلام لا أكثر. وقد يكون هذا مجرد إطنابٍ بلا معنى، إلا أنَّ ما يقوله الإنمي بشكلٍ غير مباشر - فنيًّا أقصد - هو أنَّ كلَّ شيءٍ صورٌ تتوالى عن صور، لُعَبٌ من نُسَخٍ سابقة،.. تناص!
استطيقا البيبوب - أو التناص كفَنٍّ جذلان:
إن مبعث افتتاني الأشد، في المقام الأول، بهذا العمل ينطلقُ من فرط تطابقه مع حيواتِنا الراهنة. أجل نحنُ لا نقودُ مركباتٍ فضائيَّةً ولا نتنقَّل بين الكواكب. إلا أنَّنا مرتزقةٌ مثل صيَّادي الجوائز، وفي اكتفاءٍ من البحث - اللهم وراءَ لقمةِ العيشِ المرَّة - ونحاولُ عبثًا أن نطرح عن كواهلنا مواضينا. إنَّنا نعيش في الأمس أكثر من اليوم، أمَّا الغد فمخافةٌ نرجو فيها السلامة. وفي المقام الثاني، إن هذا العمل يقول شيئًا أراه الوحيد الصحيح والثابت بين كثرة التقلُّبات، شيءٌ قال به سفرُ الجامعة الحكيم قديمًا: «لا جديد تحت الشمس». أعتقد أنَّ الفن - والمعاصرَ بالذات - في نطفته الأولى، هو إيمانٌ عميقٌ بأنَّه ما من جديد؛ نحن نتلاعب على ما يروق لنا من القديم وحسب. ثمة رسَّام قبل ألف عام، مثلًا، يحاوره شاعرٌ في قصيدةٍ بعد يومين؛ أو موسيقيٌّ يؤلِّف لحنًا لكلامٍ مات شاعره. حتى على المستوى الأدنى، عندما يقرأ قارئٌ ما روايةً قديمةً فيجد فيها يومه الحاضر ماثلًا بأحشائه الداخليَّة وإن تغيَّر الجسد الخارجي، وربَّما ليست روايةً حتى، بل مسلسلًا ومشاهد. الفن بهذا المعنى عمليَّة تدويرٍ ضخمةٍ لانهائيَّة. والزمن الذي تدورُ فيه كافَّة الفنون ليس ذا خطٍّ طوليٍّ بتفرُّعاتٍ وليس بنمطٍ شجَري، إنَّما هو جذامير تتعالق جوارَ بعضها بعضًا على سطحٍ واسع، هو وقتُ الفن. وقتٌ مجازًا، إذ لا هو ماضٍ ولا حاضرٍ ولا مستقبل إلا كتقسيماتٍ للاستيعاب البشري.
هذه العمليَّة من التدوير يحبِّذُ البعض - عبر النقد والقراءات - تسميتها بالحوارات، في نوعٍ من الأنسنة للتاريخ، وكأنَّ كلَّ البشرية ذات لسانٍ واحد. قد نرى في هذا ضعفًا وعاطفةً أكثر مما يستوجب التفكير… لا بأس. لكنَّها، على نطاقٍ أضيق - وأعني هنا الكتابة - تسمَّى بالتناص. وعلى كلٍّ، فإن سُمِّيت بالحوارات أو الإحالات أو أيًّا كان، فإنَّني سأجيزُ لنفسي بضغطها تحت مصطلحٍ يخص الكتاب: التناص. في المسلسل تلويحاتٌ كثيرة - تناصَّات - بأشكالٍ مختلفة. فهناك حلقاتٌ بأكملها هي عبارةٌ عن تحيَّةٍ وتقليدٍ مرِحٍ لأنواع بعينها من الأفلام. أفلام الساموراي تارةً وأفلام أكشن السبعينيات الأميركيَّة تارَّةً أخرى. هذا عدا التلاعب الخاطف، هنا وهناك، مع السباغيتي ويسترن مثلًا، أو أفلام الفضاء (سبيس أوديسي وستار وورز). في هذه المنطقة من التلاعب الفني—التناص—تكمن الخطورة كلها، فثمة فارقٌ كبيرٌ بين أن تقلَّد وتستنسَخ فتخرج بشكلٍ شائهٍ وسخيف، وبين أن تتناص، تتقاطع، تتحاور، تتلاعب مع نقطةٍ أخرى في تاريخ الفن - البصريَّة في حالتنا - فتخرج، من جُماع هذا كله، بنسخةٍ فنيَّةٍ جديدة. كلُّ هذا تحت إطار قصَّةٍ هي بذاتها تقتربُ أكثر من مفهوم الأسطحِ والجذامير.
كما قلنا، فعلائقُ شخصيَّاتنا كلُّها تتَّصل بالماضي، غير أنَّ هذا من جهة. ومن الأخرى فزمن المسلسل والأحداث يتمُّ في المستقبل (2068-71). وبين هذين لدينا لبُّ العمل، والذي بشكله الفنيِّ يدور (يعيد تدوير) بين فنونٍ أخرى، وبشكله الفلسفي—حال العالم، وضع الشخصيات، المصائر—لا يبرح نقطة العبثية. إنَّه، إذن، يتلولب! يذكِّرنا بمقولة دولوز: «ما يهم في درب، ما يهم في خط، هو دائمًا المنتصف، لا البداية ولا النهاية. المرء دومًا في منتصف طريق، في منتصف شيء ما». منتصفٌ أول: سبايك، المنشق عن العصابة والخاسر لحبيبته، لا هو الذي انشقَّ عنها تمامًا بعودته للانتقام، ولا هو الذي استعاد حبيبته. منتصف ثان: جِت، لا استعاد يدَه البشرية ولا قِيَمه الأخلاقية تساعده في وضعه الحالي، وما استرجع حبيبته القديمة، بل اكتفى بالعتاب. منتصف ثالث: فالانتاين، عندما استعادت أخيرًا ذاكرتها ألفت كلَّ شيءٍ من الماضي "مضى" تمامًا واكتفت بأن تخطَّ مستطيلًا على التراب تنام فيه كمعادلٍ رمزي لغرفة نوم الطفولة. رغم أنَّ الزمن يمضي، ونحن نمضي معه ونحاول، إلا أنَّنا لا نبرح ولا نبلغ: لوالب ليس أكثر.
مختارات - أو فصفصةٌ في جلسات:
من الصائب ترجمة مفردة Sessions بـ حِصص، محاضرات، مُنعقدات قضائيَّة، دوراتٍ محدودةٍ لنشاطٍ بعينه، جلسات. والأخيرة، بالنسبة لي، هي الأقربُ ترجمةً في موضوعنا هذا. لا من الناحية اللغوية - وإن صحَّت - بل من الناحية الفنيَّة كذلك. إن الجلسات في مفهومنا - الخليجي تحديدًا - ترتبط بمعنى جلسات الطرب. وفيها تتكرَّر الأغاني ذاتها أو أغلبها. إلا أنَّ فنَّ الجلسة يعتمد اعتمادًا كبيرًا على العفوية والارتجال. من هنا يأتي هوس السمِّيعة في تتبُّع جلسات فنانهم المفضَّل، فحتى لو كانت الأغاني هي نفسها، فالأداءات تختلف. كذلك كاوبوي بيبوب، في كلِّ جلسةٍ من جلساته نلاقي نفس الحكاية: مطاردةُ هاربٍ من العدالة، لكن لكلِّ جلسةٍ أداءاتٌ أو أحداث جديدة. أمَّا مفردة الفصفصة، فمن معانيها تمحيص الأمر، والذهاب إلى فُصِّه الأعمق وتقليب وجوهه. إلا أنَّ ثمة معنى أكثر بساطةً مُستمدٌّ من العاميَّة لا الفصحى: إذن الفصفصة تعني أن تتناول الفصفص في جلسةٍ طربيَّةٍ مثلًا للتسلية... فلنفصفِص إذن!
- بلوزُ كويكب:
قرعُ نواقيس كنيسة. مشهد نُوَار (noir) بامتياز. جوٌّ من الحزنِ العميم تضفيه الموسيقى في الخلفيَّة. رومانسيَّة مختلطة بعنفِ العصابات؛ يتركَّز ذلك كثيرًا في ظهور سبايك بينما يطلق الرصاص من رشَّاشٍ مخبَّأ بداخل باقة ورود، ماءٌ من مطرٍ في الشارع ووردة ملقاة: دموع الخسارة وفقدان الحب! ثم:
«I think it’s time we blow this scene. Get everybody and the stuff together. Okay, three, two, one, let’s jam!»
داخلين في موسيقى بداية/تتر يصعب على من سمعَها وشاهدَها أن ينساها. خيار التجاوُز (skip) في طرفِ الشاشة غير ذي أهمية. وعدا جماليَّات المَنتَجة والموسيقى، في التتر فإنَّه يعطي صورةً مركَّزةً لشخصيَّات العمل الرئيسة: لقطاتٌ للياقة سبايك البدنيَّة، لقطات لجِت باديًا فيها كمدخِّنٍ يفكّر، لقطاتٌ لمكانيكا المركبات، لقطاتٌ لظلال جسد فالانتاين اللعوب، لقطاتٌ ليَدَي إد حيث أصابع الهكر هي سلاحها الأول.. إلخ. والأهم من كل هذا هو الموسيقى بذاتها: جاز يختصرُ كلَّ طاقة الكوميديا والعبثيَّة خلال سير العمل. في بدايةٍ لا تتجاوز الثلاث دقائقِ نجدُ أنفسنا منتقلين من لقطات نوار كالحةٍ كئيبةٍ إلى جاز صاخبٍ بألوان مبهجة، ما بين الماضي المخيِّم والحاضر العبثي. حتى ندخل إلى صُلبِ الجلسة الأولى.
دائرة، هذا ما سأصفُ به هذه الحلقة تحديدًا. والدائرة أكملُ الأشكال وأكثرها تعبيرًا عن الأبديَّة كما كان فيثاغورس يعلِّم تلاميذه. يظهر لنا المكان، فضاء بحلقاتِ عبورٍ أو بواباتٍ فضائيَّةٍ تعبرها مركبات. ومن ضمن المركبات مركبتُنا البطل: بيبوب. بداخلها سبايك منعزلًا يقوم بتمريناته الرياضية، وجِت في المطبخ يعدُّ وجبةً. عندما ينادي الثاني على الأول بأنَّ الطعام جاهز، يبادر الأوَّل بسؤاله عن الأكل: «ما هو؟». «لحم عجلٍ بالفلفل الحلو»، يجيبه الثاني. ولكنَّنا نكتشف مع بطلنا—والطبق بين يديه—أنَّه ما من لحمٍ في الوجبة، بل فلفلٌ حلوٌ وبصلٌ فقط. ومن العبط تسمية أكلة لا تحتوي على لحم بـ "لحم العجلِ بالفلفل الحلو"، هكذا يتبرَّم سبايك على صاحبه. وهو منطق سليمٌ طبعًا. إلَّا أن ثمَّة منطقٌ مغايرٌ ينادي به جِت: «بل يمكننا ذلك، إذا كنا مفلسين». المفلسون دائمًا ما يسمون الأشياء بأسمائها الأفخم، يتملَّكون الأسماء ما دامت مجانية. هذا الحوار على بساطته، وطريقة تقديمه في العمل بالكوميديا اليابانيَّة في الإنميات عادةً، بالغ الأهمية. موضوعةُ الأكل والجوع عصبٌ رئيسٌ هنا، وفي كثير من الجلسات نراها تظهر لنا، توكيدًا من صانعي العمل على أنَّ أبطالنا لا يغامرون طلبًا للبطولة بل للعيش، للقمةِ آخر النهار. واقعيَّةٌ شديدةٌ في عالمٍ من الخيال العلمي!
المطلوب - أو الجائزة بحسبِ لغة العمل - في هذه المرَّة هو مروِّجٌ (بيَّاع) هاربٌ بكميَّةٍ مهولةٍ من المنشِّطات سرقها من عصابته السابقة. المنشطات التي معه ليست من الأنواع التي نعرفها، بل نوعٌ عجيبٌ يُتَناول - يُتَعَاطى - عن طريق العين ويسمونه بـ "العين الحمراء". يسبِّب هذا المنشط حالةً من قوَّة التركيز تجعل كلَّ شيءٍ مُلاحظًا، حتى أنَّ طلقة الرصاصة السريعة تصبحُ في عين المتعاطي بطيئةً جدًا وبالإمكان تفاديها مثل ذبابة. نعرف كلَّ هذا من خلال مشهد أكشن بديعٍ يتلاعب مع مشاهد الأكشن الشهيرة في الأفلام الأميركية في البارات. لقد تركنا سبايك وهو راحلٌ يبحثُ عن المطلوب ليقبض عليه، بيد أنَّنا نجده جالسًا في خيمة عرَّافٍ من الهنود الحمر يقرأ له المستقبل. يسألُ سبايك، بينما يرى السكينة والسلام وأمارات الحكمة على العرَّاف الذي ينساب الرمل من بين أصابعه: «جميل، لكن هل لديك ما تأكله؟»، فنسمعُ صوت قرقرة بطن العرَّاف. نفس العصب الرئيس الذي أشرنا إليه أعلاه يعاود الظهور سريعًا. المهم أنَّ العرَّاف يعطي النبوءة إلى سبايك: «أنت طيرٌ سابح، وهناك ذئبٌ أحمر برفقته امرأةٌ جميلة، ستقع في حبائلها ثمَّ تموت»، أو بما معناه. «مرة أخرى؟»، هذا ما يرد به سبايك. لقد مات من قبل وبنفس الطريقة. إنَّه رجلٌ لم يعد هناك جديدٌ يفاجئه!
سنمضي مع المغامرة حتَّى نهايتها، وما يهم حقًّا ليس فصفصة (بالفصحى) كلِّ مشهدٍ على حدةٍ والتفلسف حوله - إذ كما قلنا، نحن نفصفص (بالعامية) في جلسة، ثمَّ إن علينا التخفيف من كثرة "الحرق" - إنما المهم هو حالة الهاربَيْنِ: المروِّج وزوجته الحبلى. عندما تتكلَّم الزوجة مع سبايك نجدها تحكي عن المريخ، عن العالم المأمول، عن أمنيتها بالحياة هناك. لقد صار المريخ في عالم البيبوب، زهاء 2068 للميلاد، كوكبًا صالحًا للحياة، صار بين الكواكب الأخرى ذا الظروف المعيشيَّة الأفضل، كما يقول أغنياء اليوم في بدايات الألفية الثالثة. إنَّها حالة الفقراء الهاربين من ضنك الأحياء أو الكواكب الفقيرة، حتى ولو كان ذلك عن طريق الترويج والمخدِّرات. والعاقبة معروفة لفرطِ ما تكرَّرت: فشلٌ ذريع، إما حياة في السجون أو موت شنيع. والخيار الثاني هو ما يحدث في النهاية، بمشهدٍ كأجمل ما يكون فنيًّا: الآمال منثورةٌ في الفضاء!
تنتهي الجلسة هكذا: سبايك يتمرَّن، جِت يطبخ، ثمَّ يجلسان معًا لتناول الطعام الذي هو نفسه طبق المشهد الأول من الجلسة: لحم عجل بالفلفل الحلو.. بلا لحم: دائرة!
- لخبطة البوابة:
هذه واحدة من أكثر الجلسات ارتباطًا بأيَّامنا المعاصرة؛ الأيام التي ابتعدنا فيها أشدَّ البعد عن الطبيعة وأخذتنا التكنولوجيا إلى آخرنا. ومنذ بدايات هذا التطوُّر التكنولوجي والعلمي، بدَرَ صوتٌ ينادي بالعودةِ إلى الطبيعة: جان جاك روسُّو. هذا الصوت أخذ بالتطوُّر، كما نعلم، حتى وصلنا في أيامنا هذه إلى نبرةٍ من التطرُّف في المناداة بالعودة إلى الطبيعة. نرى في عالمنا النباتيِّين والبيئيِّين وهم يقومون بالتظاهرات في مختلف بقاع العالم، ورأينا كذلك المتطرفين منهم بينما يقومون بمهاجمة اللوحات الفنيَّة المشهورة في المتاحف، باستعراضٍ يثير الاستهجان أكثر من التعاطف معهم. لا جديد لدى البشرية: ما يبدأ كتنبيهٍ ينتهي كتطرُّف!
يقولون إنَّ نسبة الاختلاف في الحمض النووي بين البشر والقرود هي 2% فقط. وهذه الجماعة قد اختطفت رئيس تقنيَّة الفيروسات لصنع فيروسِهم الذي يستفيدون منه في مشروعهم المسمَّى بـ"مونكي بيزنس"، حيث يلعبونَ على نسبة الاختلاف الطفيفة بين البشر والقرود لإعادة البشر قرودًا، أي لإعادتهم إلى الطبيعة رغمًا عنهم. هذا ما نفهمه عن جماعة "محاربي الفضاء"، من خلال حوار جِت مع أحد أفراد الشرطة. إذن فمحاربو الفضاء جماعةٌ إرهابيَّةٌ للحفاظ على البيئة تتكوَّن من أمٍّ وبضعة أبناء لها. أهم ما يطالبون به هو الحفاظ على نوعٍ من المخلوقات البحريَّة الموشكة على الانقراض بسبب صيد البشر، تحديدًا الأغنياء منهم، إذ يفضلونه على موائدهم الفاخرة. «طعمه مقرف» كما يقول جِت ردًا على سؤال سبايك عن طعم "جرذ البحر". وهذا يذكرني بمقطع فيديو انتشر كالنار في الهشيم على السوشال ميديا لقرشِ بحرٍ يحاول السباحة تحت الماء ولا يستطيع ذلك لأنَّه بلا زعانف، حيث إنَّ زعانفه تشكِّل وجبةً لذيذةً للأغنياء. وبدلًا من قتل القرش كاملًا وأخذ زعانفه، فإن الصيادين يكتفون بصيده وقطع زعانفه ومن ثمَّ إعادته إلى البحر. يبدو أن "محاربي الفضاء" معهم حق ولو كانوا أغبياء!
هدف أبطالنا هو القبض على زعيمة الجماعة لكسب الجائزة الكبيرة على رأسها من الحكومة. لكن في تعقيداتٍ دراميَّةٍ ومفاوضاتٍ سياسيَّةٍ لا يتم الأمر على ما يشتهون، بالرغم من أنَّهم قد قبضوا عليها بالفعل. نصلُ إلى مرحلةٍ تتسلَّط فيها الجماعة الإرهابيَّة وتهدد بإعادة كامل البشرية في "غامينيد" - كويكبهم ذا البحر وجرذان البحر - والذين يبلغ عددهم ثمانية ملايين، إلى قرود، عن طريق ضربهم بصاروخٍ يحتوي على الفيروس الذي يتلاعبُ في نسبة الحمض النووي الطفيفة. هنا تعود الفرصة إلى أبطالنا لمعاودة القبض على زعيمة الجماعة. وبضربٍ من اللعبة الأخلاقيَّة والعدالة المحتومة، تحدثُ لخبطةٌ من الجماعة الإرهابيَّة وتُغلَق عليهم البوابة في الفضاء الفائق بعدما قذفوا بالصواريخ. تنجو البشريَّة وكذلك أبطالنا من مصير القرود وتتورَّط الجماعة بذلك. والعدالة تكون عن طريق الحيلة بيد سبايك الذي يضع قنينة الفيروس الصغيرة في جيب الزعيمة دون أن تنتبه.
برغمِ شماتة العمل من الجماعة الإرهابيَّة ووضعها في موضع خزيٍ في نهاية المطاف، فإنَّ تفصيلةً صغيرةً تُظهر لنا أنَّ ثمَّة تعاطفٌ أو تفهُّمٌ للحالة الإرهابيَّة. لو لاحظنا، في إحدى المواقف التي يخطئ فيها واحدٌ من أولاد الزعيمة في مهمته خطأً تافهًا، لا يعدو أن يكون مراقبة البيت، لانتبهنا أنَّ للأمِّ سلطةٌ مرعبةٌ على الابن لدرجةٍ تجعله يدخل في حالةٍ من الهلع. وفي النهاية يظهر لنا أنَّ الأم تقرِّرُ معاقبته بأشدِّ ما يمكن، حيث تقوم بتحويله إلى قرد. هنا نلاحظ نوعًا من التفهُّم، وكأن الأم ليست شيئًا آخر غير الطبيعة والأولاد كلُّهم نحن. الطبيعة بأكملها، لفرط ما جئنا عليها وأهنَّاها، صارت إرهابيَّةً تريد إعادتنا إلى سيرتنا الأولى حينما كنا عاجزين عن التجاوز عليها.
- تعاطفًا مع الشيطان:
لو أردنا التساؤل عن المعاناة الكبرى للشيطان بمعناه الميثولوجي-الديني، فماذا تكون؟ ربَّما أوَّل شيءٍ سيخطر في البال هو النَبذ، أو - إن أخذنا التأويلات الشطحيَّة في التصوُّف - سوء الفهم. فالمتصوِّفة - الحلَّاج على وجه الخصوص - رأوا في موقف الشيطان داخل الرواية الإسلامية حالةً من التوحيد المتفرد بعصيانه للأمر الإلهي بالسجود لآدم1. وما كان من الغضب والطرد ترتّب على نوع من سوء الفهم الإلهي لذلك. إذن، فالشيطان ضحية، أو يُنظر إليه بوصفه كذلك، ومن هنا عنوان الجلسة في المسلسل، والذي هو اقتباس من واحدة من أروع أغاني فرقة "رولينغ ستون". في كل هذا، بالعموم، تظل الاحتمالات مجرد احتمالات لا تتجاوز ذلك. أما المعاناة الحقيقية فهي طول العمر، الخلود، اللاموت. لو كان الشيطان مؤرخًا فسوف يبذ كل المؤرخين البشر، فقد رأى وسمع كل شيء منذ البداية وسوف يبقى كذلك حتى النهاية؛ إنما من سيضمن لنا صِدقه لو أرّخ لنا؟ هذا في حال ضمنا صدق مؤرخينا البشر في المقام الأول أصلًا…ما علينا!
في هذه الجلسة، الشيطان ليس وحشًا ولا رئيس عصابة من المجرمين ولا سفاحًا محترفًا، إنما هو مجرد طفل يعزف البلوز. وعلى سيرة البلوز فهذه الجلسة—في وجهها الفني—هي غزلية طويلة في امتداح واستعراض جماليات موسيقى البلوز؛ هذه الموسيقى التي نبعت من حزن الأمريكيين السود، تعبيرًا عن معاناتهم الطويلة والتي توسعت حتى أضحت تعبّر عن كل حزن من أميركا إلى اليابان بفرقة "ستبليتس" seatbelts التي هيمنت على كثير من أجواء البيبوب، وإلى النقطة التي يضعون فيها آلة الهارمونيكا في فم الطفل الشيطان.
في الأصل يكون هدف أبطالنا هذه المرة صيد رجل بالغ من عصابة قديمة تفككت. لكنهم يفاجَؤون، في خضم مطاردته، بمقتله على يد رفيقه القديم. وهذا الرفيق القديم رجل مشلول لا يتحرك إلا على كرسي مُدَولَب برفقة طفل صغير يمشي به. يبدو من الصورة في النظرة الأولى المنطقية أن هذا المجرم العتيد والمشلول يسيطر على الطفل البريء ويأخذه من حفلة موسيقية إلى أخرى ليسترزق من وراء موهبته مع البلوز. لكنه الشيطان، لا يمشي إلا وراء بالغين مشلولين—وإن رمزيًّا—ويتحكم بهم. يأخذهم غطاءً لأعماله في حياة طويلة تتخللها البلوز. نعم، فمن النظرة الأولى "المنطقية" إلى الصورة إياها يتضح خطلها سريعًا: ما الطفل البريء إلا الشيطان بنفسه وهو من يسيطر على الزعيم المشلول! هنا تنقلب كافة موازين المطاردة بالنسبة لأبطالنا، من مطاردة مجرم إلى مطاردة روح الإجرام بذاته.
عندما يقدّم لنا العمل قصته في كيفية نشوء هذا الشيطان الخاص به، نجد أنه لم يكن إلا طفلًا طبيعيًّا كأي طفل آخر. ونراه في حديقة جميلة بين والديهِ يعزف لهما بآلته مقطوعة جميلة من البلوز، والوالدان فرِحان بموهبة طفلهم. في تلك اللحظة الحميمية يصادف أن تاريخًا جديدًا يولد. إنها لحظة اصطدام القمر بالأرض، وانتهاء هذا الكوكب الأزرق من معناه القديم كمكان للبشرية إلى مكان خراب. الحياة تبدأ بالولادة من هنا، بكارثة. كما يعلمنا التاريخ الطبيعي أن البشرية وُلدت بعد كارثة العصر الجليدي وانقراض كافة المخلوقات الأقدم. وتقول النظرية، خلال الجلسة، بأن هذا الطفل تحديدًا سلم من الموت في الكارثة بسبب اختلال حدث في ساعته الداخلية، مما جعله ماديًّا يفرز الكثير من غدته الصنوبرية المضادة للشيخوخة. هكذا يتوقف عمر الطفل عن الجريان ويبقى كما هو أبد الدهر. «هل فهمت؟» هذا هو نفس سؤال جِت لسبايك بعدما شرح له النظرية، وهو هو سؤالي لكم. لا أظن النظرية كانت مُتقَنة، بصراحة، بقدر ما كانت مجرد تعلّة لإيجاد تشابه رمزي لبداية التاريخ البشري الطبيعي والتاريخ البشري في البيبوب ونشوء الشيطانيْنِ في كلا العالمين، وهو أمر لا بأس به عندي ما دام التعبير الفني جميلًا.
ما من سبيل أخرى لقتل هذا الشيطان إلا بواسطة خاتم بحجر كريم صناعي من بقايا حادثة الانفجار الكبير، أو "المفاجئ" كما يصطلح عليه العمل، وكأن الدواء دائمًا ما يكون من بطن الداء نفسه. يُصهر هذا الحجر ويُعبّأ في رصاصة لقتل الطفل العازف على الهارمونيكا؛ أو الشيطان. وتحدث المواجهة بين سبايك والشيطان. استسهال الشيطان في تلقّي الرصاصة يضعنا أمام نقطة ضعف الشيطان التي دومًا ما كانت ترددها الروايات الدينية: الكِبر. في لحظةٍ، عند تلقي الرصاصة بمادتها المصهورة، فإن الغدة الصنوبرية ستعود إلى العمل، وكل السنوات التي لم تفعل فعلها في عمر الطفل ستنهال دفعة واحدة وكأنها كانت محبوسة بداخله، فنرى الطفل يكبر وينمو ويبيضَّ شعره وينكفئ على نفسه في حال من الشيخوخة الأخيرة ويُحتَضَرُ قائلًا: «فهمت، بوسعي الآن أن أموت. أشعر بثقل شديد لكنني أشعر بارتياح عارم الآن.. أتعرف؟ هل تفهم؟» ثم يموت! إنها راحة أن تُفضِي، أن تذهب، أن تكون ثمة نقطة للنهاية. بعد ذلك نجد سبايك يأخذ آلة الهارمونيكا ويقذف بها للأعلى ثم يطلق عليها رصاصة رمزية من إصبعه: البلوز من عمل الشيطان، ويا له من عمل!
- عيدُ حبي المُضحك:
“My funny Valentine
Sweet comic Valentine
You make me smile with my heart”:
مثل "الجميلة النائمة"، إنما بتحوير فيه من السخرية والفكاهة الكثيرة، يتم رسم شخصية "فاي فالانتاين". كامل هذه الجلسة تدور عنها. أشرنا قبلُ إلى أن فالانتاين تحديدًا كانت النقيض من شخصياتنا في عدم امتلاكها لذاكرة. والآن نحن أمامها بينما هي تسرد للكلب اللطيف "إين" كامل ما تملكه من ذكريات في ذاكرتها القصيرة التي لا تتجاوز ثلاثة أعوام. في البدء تعرضت فالانتاين إلى حادث فضائيٍّ مروّع تدخل على إثره في عملية حفظ طبية لمدة تقارب الخمسين سنةً. تُوقَظ آنذاك بعملية فك لعملية الحفظ، سليمةً معافاة بالتمام جسديًّا، غير أن المشكلة الأكبر تكمن في أنها تستيقظ بلا ذاكرة. الغريب أن السنوات الخمسين التي نامتها في الحفظ الطبي لم تؤثر بشعرة على شبابها، تظل كما كانت عليه وقت الحادث: في العشرين من العمر. إن أمرًا كهذا يدعو للفرحة من جهة—فرحة النجاة من الحادثة، والاستيقاظ بجسد سليم، وفي مستقبل لم تمسسك فيه الشيخوخة. إلا أنه من جهة أخرى يدعو للحزن، حيث أنك بلا ذاكرة، والأنيَلُ أن تستيقظ مديونًا بما يتجاوز الثلاثمئة مليون من الأموال. بالطبع، نحن في عالم خراب لم يأخذ من عالمه السابق إلا أسوأ ما فيه: الرأسمالية الطبية.
إذن، تستيقظ فالانتاين على فجيعة أنها مديونة للمستشفى على عملية الحفظ والتشافي وتبعاتها بمبلغ لا تملكه. الجميلة النائمة لم توقظها قبلة الأمير لتعيش في عش الحب، بل عملية فك حفظ طبية لكي تسدد ما عليها من ديون. تمامًا مثل العالم اليوم الذي يطالبك بالنهوض من سريرك لتسديد الفواتير! المهم أن القصص الخرافية الجميلة علمتنا أن الجميلات لا بد لهن من أمراء أو عشاق ليقوموا بذلك الدور. وهذا ما يحدث لفالانتاين الجميلة. يأتي إليها محامٍ محترم يحاول إنقاذها من هذه الدوامة. تشعر باهتمامه بها وتميل له. المحامي رجل جينتل ويريد أن يساعدها في سداد ما عليها على دفعات. يطمئنها بأن ذلك ممكن الحدوث. يكونان معًا كطائري كناري. يبدو المستقبل ورديًّا مع هذا المحامي. الجميلة المستيقظة ستكون زوجة محام يحميها من عالم بلا قوانين غير الدجل والحيلة. وقد عُلّمنا قديمًا أن "من يملك حيلةً، فليحتال!"
“You’re looks are laughable
Unphotographable
Yet you’re my favorite work of art”:
بشكلها المضحك والساخر كحبيبة خائفة من عالم للتو استيقظت فيه، تهرب فالانتاين من محصلي الديون وتفقد في المطاردة حبيبها المحامي الجينتل. تُلفي نفسها وحيدة في العالم الخراب وما من حل بين يديها إلا أن تتحول إلى "فاي" التي نعرفها، المحتالة الإيروتيك المقامرة اللعوب المختلقة لكافة الأنواع من الأكاذيب متى تطلّب الأمر وصيادة الجوائز المحترفة. صورة غير قابلة للتصوير بمعنىً ما كما تقول الأغنية. متحولة تمامًا، في حالة ربما هي ما أعطت الإنسان قابلية النجاة والبقاء حتى اليوم على الأرض عبورًا بكافة احتمالات الفناء: التكيُّف. ولعل الكائن البشري لو كان بنفس خفة "فاي" لاستطاع التحول بطريقة أكثر سلاسة، متماهيًا مع الظروف المحيطة، بشرط ألّا تدركه لحظة السؤال الوجودي المزعج والسخيف: من أنا؟ وما يتبعه من أسئلة في حالة التخفف من الذكريات: من كنتُ؟ وكيف صرت ما صرت عليه؟.. إلخ.
وبعد كل هذا، أين هي حكايتنا المعتادة مع البيبوب في اصطياد المطلوبين. يبدو أن جلستنا هذه المرة مملة ودرامية بزيادة. نعم، ولا! هذه الجلسة خالية من المطاردات التي اعتدناها، لكنها ليست بلا مطلوبين. المطلوب هذه المرة يقبض عليه جِت، ويأتي به مغلولًا إلى البيبوب بهدف تسليمه وقبض جائزته. وليس من الغريب بعد حكاية "فاي" وذكرياتها أن يكون هذا المطلوب هو نفسه المحامي الجينتل وقد صار نصّابًا مطلوبًا للحكومة.
الدنيا—ولو انفكّت عن آخرها في فضاء سحيق—صغيرة. ها نحن الآن وفاي تلتقي بفارسها القديم بعد أن ظنت أنه قد مات في مطاردة المحصلين. تطلب فاي من رفيقيها أن يتركاها لوحدها مع المطلوب. وتفصفص معه في ما حدث وكان. نعرف مما يكون بينهما أنه ليس أكثر من كذاب حريف ونصّاب يبحث عن لقمة عيشه في عالم مُضحك تصير فيه جميلته النائمة صيادته الآن. كمية المفارقات المضحكة في هذه الجلسة أكثر من تعدادها هنا، كأن تقرر فاي أن تطلق سراح المطلوب حبًّا فيه لِما فعل معها في القديم، وأن تدخل على إثر هذا القرار في مطاردة مع رفيقيها سبايك وجت؛ أن المكارة اللعوب تنقلب فجأة إلى حالة من النخوة والشهامة بطريقة كوميدية، فقط بسبب طغيان مشاعرها الأنثوية، كما يسخر جِت من ذلك؛ وأن تكتشف فاي بعد كل ذلك أن المحامي الجينتل والنصاب المطلوب ليس أكثر من محتال محترف لدرجة أنها، بينما تحاول إنقاذه، يحاول الاحتيال عليها والاستمرار في الكذب عليها. كذابون محتالون وقعوا في حبائل بعض؛ هذا ما يمكننا وصف الأمر به.
“Is your figure less than Greek?
Is your mouth a little weak
When you open it to speak?
Are you smart?
But don’t change a hair for me
Not if you care for me
Stay little Valentin, stay”
بلى، لفالانتاين قوام الإناث الأغارقة، وليس فمها ضعيفًا إلا ضعف اللطافة لكنه قوي في التفوه بالأكاذيب وليِّ الأمور لمصلحتها، ذكيّة جدًا، حاذقة، لكن عليها عدم تغيير أي شيء ولا حتى شعرة واحدة. هذا ما يطلبه الحب. أن نكون كما نحن بعيوبنا، ما نمتاز به. وفي خضم كل الأكاذيب، كان حب المحامي الجينتل حبًّا حقيقيًّا، حبًّا للجميلة النائمة يريدنا العالم أن نلاحقه ونلحق بأنفسنا، لا أن نحب الجميلات بعد أن استيقظن. أو لعله خيار النصابين المفضّل. كان بوده لو تبقى فالانتاين، لكنها هي من تسلمه إلى السجن، وأن تبقى هنا بمعنى البقاء في ذاكرته، في الجوانيِّ من العوالم، لا في خوارجها حيث الهروب هو الخطوة الوحيدة بالنسبة لأمثاله.
أزعم أن شخصية فالانتاين قد رُسمت بالكامل—أو رُسم جزء كبير منها—بناءً على هذه الأغنية. لا أملك في النهاية إلا أن أوصيكم بسماعها، وتحديدًا بأدائها المفضّل بالنسبة لي من تشِت باكِر Chet Baker. ولتبقَ الأيام كلها فالانتاين؛ بأي معنىً؟ احتيالًا أم ورديةً؟ الله أعلم:
“Each day is Valentine day!”
- بييرو المجنون
«مرحبًا، أيها المحترمون. جئت لأنهي حيواتكم!» تخيّل أن جملة مفتاحية كهذه تقال من أحد ما مع ابتسامة عريضة! هكذا تبدأ هذه الجلسة مع شخصية عجبت لها طاقة الأطفال وخفة البالون وهيئته ونقاوة الشر حين لا يقصد أي أمر بعينه، بل أن يكون هو نفسه مبرأً من المقاصد: شرًّا فقط. والشر صنعة بشرية، كما علّمنا نيتشه أن كافة الأخلاق كذلك. لكنه أكثر صنعة بيد العلوم الحديثة والتطور: إنه يخرج من المختبرات!
ما نعرفه من سياق الأحداث أن شخصيتنا هذه المرة—ولعلها الأولى والوحيدة على طول العمل، التي تكون فيه الشخصية غيرَ مطلوبة ولا مُطارَدة، بل العكس تمامًا—مطالِبةً ومطارِدةً هي بذاتها. المهم أن هذه الشخصية تحديدًا هي صنعة مختبر تابع لمنظمة من المنظمات الكبيرة في التجريب على الجسد البشري لتطويره. نعرف أن هذه الفكرة في تطوير جسد بشري لا يُقهر كانت لفترات طويلة تُهوِس الحكومات والمنظمات لصنع الجندي الذي لا يموت أبدًا. وعندما يأسوا من الفكرة اشتغلوا بجد على الأسلحة. التطور الذي يتم على جسد شخصيتنا يصل لأعلى مراحله في القدرات القتالية حتى ليصبح أقرب ما يكون لآلة قتل شاملة تمشي على قدمين وتطير مثل بالون، غير أن المقابل لهذا يكون ضمورًا حادًّا في العقل لدرجة يصبح فيها مجرد عقل طفل.
الشر عرَضيٌّ، بمعنى أنه لا يتقصّد في المجيء والرواح، أو على الأقل هكذا يكون ضربه الأكثر نقاوة. وفي مفهوم النقاوة لا نجد أكثر قسوة في نقاوته ولهوه من الأطفال. كان المزيج هكذا: بييرو المجنون، نتاج المختبر، يصير طفلًا يجسد جوهر الشر. لا يصرخ أو يعوي، بل يرحّب ويتقافز، ويبتسم يدًا بيدٍ مع فساده في الأرض، وتحديدًا على صعيد القتل: ذروة الشر. نلحظ هذه الأمور في الجلسة حيث إن الأحداث تكون أبسط ما يمكن، فلم يكن لسبايك من نية في اصطياد مطلوب هذه المرة، بل كان الرجل يقضي وقت فراغه في لعب البلياردو. يصادف في خروجه من الكازينو أن يشهد مجزرة من مجازر بييرو. لعبة نرد يسقط في وسطها سبايك. بييرو لا يحب أن يشهد أحد على لهوه بالدماء، وعليه يصير سبايك هو الهدف المطلوب الآن. الصياد يهرب، وحين ينجح في الإفلات، يتلقّى رسالة تدعوه للمواجهة. الغريب هو مكان المواجهة: ملاهي أطفال، نعم مواجهة قتالية في ملاهي أطفال!
ثمة رابط بين الجلسة وفيلم من أفلام غودار—كلاهما بنفس الاسم—ويؤسفني أنه من الأفلام التي لم أشاهدها بعد لأعرف المرجعية أو الإشارة المبطنة. لكننا نجد في هذه الجلسة أتحف رسوم وتحريك ممكن للقتالات ومشاهد الأكشن، وما يثير الإعجاب أن سبايك القوي لا ينتصر—كعادة أبطال الأعمال—بل يُنتصَرُ له. ربما من القدر أو ما لست أعرف، المهم أنه بواسطة لعبة ضخمة في الملاهي وبسبب طفولة الشر حين يهلع.
ما يصلنا في النهاية أن الشر طفل لا أكثر، وذلك مما يزيد الأمور سوءًا!
خاتمة، أو ما الذي سيتغير فيك بعد مشاهدة كاوبوي بيبوب؟
أحب أن أشير بدايةً إلى أنني خلال فصفصاتي في بعض الجلسات أو الحلقات من العمل، فضلت بقدر المستطاع الابتعاد عن سرد الأحداث كما هي زمنيًّا في العمل، والسبب في ذلك يعود إلى رغبتي في توضيح قراءتي له لا إعادة السرد. وأظن أنه من الأجدى أن تلحق القراءةُ المشاهدةَ لا العكس. الفائدة أقل إن كان الهدف من القراءة التحميس والتوصية، وأكثر إن كان الأمر ينحو جهة رؤية وجهة نظر ثانية كنوع من المناقشات.
بعد مشاهدتك لكاوبوي بيبوب، سوف تثمّن أكثر الأعمال الفنية التي تشتغل كعملية تدوير مع أعمال أسبق منها، وسوف ترى كيف أنها—بسبب هذه العملية تحديدًا—تتحول إلى ضرب من الكلاسيكيات قد يأتي زمن ما وتُدوّر فيه هي نفسها. ستعرف أن المرح في العمل الفني أهم من المعنى، والمتعة البصرية تسحب معها المضامين لا العكس. ستقدّر أكثر أنواعًا جديدةً من الموسيقى. ولعلك ستشعر بنوع من الطبطبة بأن هناك في العالم دائمًا—حتى لو الفضاء خلقًا يعانون من ذات الأشياء البسيطة التي تعانيها—لقمة العيش، وندوب الذكريات، وفراغ ما بعد البلوغ، والحنين لوقت مضى حتى ولو كان مُرًّا. ومن الممكن أيضًا أن تنظر إلى العولمة من زوايا جديدة، فمع أنها أحسنت صنعًا—حيث أن هذا العمل كاملًا متعولمٌ حتى في الرموز والتقريب جنبًا لجنبٍ بين الساموراي والكاوبوي—إلا أنه في الآن نفسه يعطيك الصورة المرعبة لتخوم العولمة بعد سقوط الفأس في الرأس وانجراف كل شيء من جذوره إلى جذامير بالمعنى السلبي لا الدولزويّ.
وربما، ببساطة شديدة، لن يتغير فيك أي شيء. وهذا بذاته أمر جيّد، لأن ثمة احتمالية أن تكون قد صرت سبايك على صورتك الشخصية، وما من جديد بالنسبة لك تحت الشمس. المهم أنك استمتعت بالمشاهدة، وهذه احتمالية عالية جدًا، وهو لبُّ الأمر كله ورأس المال في الفن.
**
إلى اللقاء يا كاوبوي ميم..
- المصدر : طس الأزل والالتباس-كتاب الطواسين- الحلاج- منشورات الجمل- ط الثالثة 2007