كوبريك وغثيان السيمفونية التاسعة: الاشمئزاز في السينما

يحضر التقزز في السينما مستغلاً الذاكرة الدلالية، والعرضية على حدٍ سواء.
June 30, 2024

يحضر التقزز في السينما مستغلاً الذاكرة الدلالية، والعرضية على حدٍ سواء. كان هناك التعمد في محاولة إضفاء النظرة المشمئزة، تجاه من يبصق عصارة التبغ القابل للمضغ في أفلام الغرب الأمريكي. والتركيز على لقطات «كلوز-أب» لإظهار أسنان الرجل القميء الأشبه بأكواز الذرة الصفراء، المدهونة بسخام جير السجائر، المتراكم بفعل الزمن الذي أكل من ثغره وشرب، دون ذكر الفطريات المتسكعة بزوايا شفتَي «شريف البلدة» صاحب السن الذهبية، كما لو كان العفن المصاحب للخضروات الفاسدة. نستطيع تَخَيّل رائحة أنفاسه التي قد تبدو كرائحة جثث ثلاجة الموتى حين يُقطع عنها التكييف فتتحلل!

تداهمنا الذاكرة الأنفية وإن أبهجتنا مَشاهد تعرّق قُطَّاع الطرق، والسكارى المطلوبين، والبغايا أثناء التجمع الراقص الذي يضطرهم إلى رفع أذرعتهم في إحدى الحانات، حين ندرك عدم استحمامهم لشهور أو ربما لسنوات رغم زيف القذارة التي استطاع تقديمها خبراء التجميل ومصممو الأزياء بإتقان!

وهذا الاستحضار ذكّرني بأرسطو، حين وضّح أن البشر يولدون دون معرفة، ثم تتكون المعرفة من مجموع خبراتهم. وهذه الخبرات الحسيّة هي في الحقيقة نظير ابتداعات هايجينية تفرض المقارنة وتجعلنا نستنكر كل منفر مثير للغثيان، حسب مفهومنا المتغيّر المتأثر بفضل حياة التحضر، الحياة التي أعادت تعريف تعليمات النظافة الشخصية، والتي قادتنا كذلك نحو التركيز على اشمئزاز الأطفال من تناول البروكلي غربًا، واستنكار استخدام المناديل الورقية عوضًا عن الشطاف شرقًا. وهذا تطور تحمد عليه البشرية خالقها.

ولكن كل تلك المَشاهد المقرفة كما نعتقد لا تُعتبر شيئًا مقارنةً بسلوك سِفَاح القربى ومَن يعتنق البهيمية، أو ما يفعله النيكروفيلي، أو البيدوفيلي كما كانت شخصية أليكس الأصلية في رواية أنتوني برجس «برتقالة آلية»، والتي لم يستطب حتى ستانلي كوبريك -الأجرأ في هوليوود- فكرة نقلها بكامل حذافيرها حين قرر تحويلها إلى فيلم، كتجسيد مشهد بطل الرواية وهو يراود فتيات قاصرات في سن العاشرة عن أنفسهن. ولهذا برأيي هناك مقياس للاشمئزاز ابتدعه الأكاديمي بول روزين الذي أدرج فيه 32 عنصرًا بغرض قياس الحساسية!

وأعتقد أن التجني الجسدي المتصدر لكل الجداول بعيني، كالاغتصاب وما يقاربه، أتعس بكثير من الأدران الجسدية وبواعثها، وهذا ما حاول أن يوصله لنا المخرج البريطاني ستانلي كوبريك في فيلمه المقتبس من الرواية أعلاه، والذي تناول فيه قصة شاب يُدعى أليكس يعيش في عالم مستقبلي ديستوبي، ويساهم في زيادة ديستوبيته من خلال مشاركته في أعمال عنف جنسية وجرائم سطو، برفقة اثنين من زملائه، ليتم اعتقاله لاحقًا ليتقدم بعدها إلى برنامج تجريبي لتغيير سلوكه من خلال استخدام تقنية تُسمى «لودوفيكو» وهو الاسم المقابل لاسم بيتهوفن الأول «لودفيغ»، حيث إن السيمفونية التاسعة كانت تُعزف في حين يُجبَر أليكس، المقيد على الكرسي وعيناه مشرعتان على اتساعهما قسرًا، على مشاهدة مقاطع عنف من ضرب واغتصاب وسطو مسلح، كما كان يفعل هو سابقًا برفقة زملائه، في عملية تدجين توتولوجية تعتمد على الحشو والتكرار، بغرض إخضاعه غرائزيًا لسيادة أو زعامة المهادنة، وكأن المهادنة سلوك قسري لا يعكس النبالة.

وهذه العملية ذكّرتني بمقابلة لعالِم نفسي لا يحضرني اسمه، تحدّث عن الاشمئزاز، عن كونه إدراكًا بحد ذاته، حيث يدرك المقرف نفسه بصورة اليقظة الذاتية، وبعبارة أخرى لا يمكنك أن تشعر بالاشمئزاز دون أن تعرف أنك مقرف، دون ذكر مصحة إدمان الشوكولاتة في أوروبا، والتي يتم فيها علاج المرضى من خلال الشوكولاتة نفسها، كالاستحمام بالشوكولاتة، واحتواء وجبة الإفطار والغداء والعشاء على الشوكولاتة، وهذا ما حصل مع أليكس الذي عولج ساديًا بساديّته نفسها!

وعندما ينتهي أليكس من علاجه يُطلَق سراحه، فتتكون لديه ردة فعلٍ عكسية تجاه العنف بكافة أطيافه، حيث أصبح يشعر بالاشمئزاز وتراوده رغبة تقيؤ حالما يحاول حتى الدفاع عن نفسه، ليشكل صورة المواطن المثالي من وجهة نظر الحكومة، محرومًا من حق الخيارين، كارهًا للجنس واللحوم البشرية التي كان يتلذذ تمنعها أثناء رغبته الجنسية، كعملية زرع أقرب إلى حشرة Lone Star Tick المعروفة باليغموش، والتي حين تعض الإنسان يتحول بفضلها مباشرة إلى شخص كاره للحوم الحمراء، حيث إن الحشرة تحمل مجموعة كربوهيدرات متواجدة باللحم أيضًا، وهي سهلة الهضم في المعدة، ولكن إذا دخلت مجرى الدم (عن طريق هذه الحشرة) سيختلف الأمر تمامًا، فالجهاز المناعي سيعتبرها مادة غريبة وضارة، ومن هنا سوف يصنع الجسد أجسامًا مضادة ضدها تمامًا، وستظل هذه الكربوهيدرات مع الأجسام المضادة في الجسد دائمًا، فلو حاول المرء بعد هذه التفاعلات أن يأكل أي نوع من أنواع اللحوم الحمراء سيُنتج جسده ردود فعل شديدة جدًا تتراوح ما بين رغبة شديدة في الهرش والالتهاب الحاد وصعوبة بالغة في التنفس تصل إلى الموت في بعض الأحيان.. وهذا ما كان يحصل مع أليكس الذي فقد حرية اختيار شرّه المقرف!

يقدّم الفيلم الاشمئزاز لاحقًا بهيئة مخففة أقرب إلى صورته التي نعيشها اليوم، وفق السياق الحضري الذي توصلت إليه الحكومة بمسألة تحييد العنف، حيث الاستخدامات الصحفية والسياسية الطفيفة لتعبير «مثيرين للاشمئزاز» كما دأب المجتمع الغربي على لَفظه حيال الفاسدين، وكما يطلقها الليبراليون حيال المحافظين. يحضر بوصفه ثقافة إلغاء متبعة كما يحصل لدينا حيال مدوّن كَتَب تدوينة عنصرية أثناء مراهقته.

وهكذا ينتهي فيلم كان له القدرة على تشكيل صورة تحذيرية تُعبّر عن القِيَم حين تغيب، وتحل مكانها الوحشية الحيوانية، المهددة بالضياع، وهو الفيلم الأقل وطأة تقززية، نسبةً إلى أفلام مثل «طيور الفلامنغو الوردية» Pink Flamingos الذي كان يعتمد على عنصر الاستفزاز المنفر، وكذلك الفيلم المحظور من قِبَل 40 دولة، والذي لن أذكر اسمه، بسبب أنه قدّم مَشاهد حقيقية لسياح يحطمون رأس قرد حي محبوس وسط طاولة طعام، ليأكلوا عقله، في مشهد يعبر عن سقف المتع الحياتية بلا رادع داخلي أو مبدأ أخلاقي، وبلا مخالفة للهوى، وسط استسلام تام للرغبات والنزوات.

ولعل الاشمئزاز الذي علينا التصالح معه في إحدى مراحل حياتنا بإمكاننا التخفيف من وطأة شدته حين نقرأ كتاب مستويات عيوب الغذاء مثلًا، الصادر عن هيئة الغذاء والدواء، المخصص لمُصنّعي المواد الغذائية، والذي يسمح للمصنعين أن يتغاضوا عن نِسَب معينة تحتوي عليها الأغذية، كوجود شيء من اليرقات في علبة الزيتون، والسماح بشيء من شعيرات القوارض في زبدة الفول السوداني، والسماح بقليل من التعفن الشبيه بعفن الخضروات في شفاه «شريف البلدة»، في صورة تُعبّر عن الاشمئزازات التي تسكننا جسديًا وسلوكيًا، ولكن لا يستطيع رؤيتها أحد، وقد يستنبطها مَن سيشاهد فيلمًا يتناول حقبتنا في المستقبل البعيد.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى