ليس هذا الفيلم متاهةً من متاهات المخرج والسينارست الأميركي بول توماس أندرسون المعتادة. إنِّه أبسط أفلامه، سواءً كان على مستوى الحكاية، أو الحبكة أو تسلسل الأحداث. حتَّى التمثيل لا يبدو – للوهلة الأولى – معقَّدًا أو محاولةً لخلق شخصيَّاتٍ «أكبر من الحياة»، كما في الفيلمين اللذين سبقاه: «ستكون دماءً» (There Will Be Blood - 2007) و«المعلّم» (The Master - 2012)، بل حتّى في الفيلم البنتشونيّ العجائبيّ «رذيلة متأصّلة» (Inherent Vice - 2014). إنَّها تشبهنا، لو استبدلنا بيتًا ببيت، وثيابًا بثياب، وبلادًا ببلاد.
يبدو الشريط مُنتزَعًا من حياة أوروبيّة في الخمسينيّات بقدر ما يبدو مُنتزَعًا من حبكة ڤكتوريَّة بريطانيّة. همومُ أميركا الدينيّة والصناعيّة والاقتصاديّة، وجنون الطوائف على اختلافها ليست حاضرة هنا. إلَّا أنَّ هذا كلّه محضُ خدعةٍ رهيفةٍ من أندرسون الذي يقدِّم لنا هنا أكثر أفلامه رهافة، بل لعلَّه أكثر أفلام دانيل دي لويس رهافة أيضًا. ولعلَّ من الطبيعيِّ أنَّ هذه الرهافة الخفيَّة (مثل خيط الفيلم الوهمي) ستبقى بعيدةً عن قيود الأوسكار الذي كان أندرسون يستحقُّه في السيناريو والإخراج، ولويس يستحقه حتمًا في التمثيل ليكمل مسيرة إعجازه قبل التقاعد الذي سيرتدُّ عنه هذا العام. ربَّما استكثرتْ الأكاديمية على لويس أوسكارًا رابعًا، ولكن فلينتزعوا أوسكار فيلم «لينكون» (Lincoln - 2012) لو أحبّوا، إذ كان في غير محلّه؛ أما أندرسون فسيواصل، على ما يبدو، مسيرته بلا أوسكار. حين ظننَّا أنَّه سيناله أخيرًا على فيلمه «ستكون دماءً» (الذي يحمل جميع العناصر الفنيَّة والجماهيريَّة والهوليووديَّة التي تستلزمها الجائزة)، غُدِر أندرسون، وغُدِرنا معه، حين تعثَّر الفيلم بأكبرِ سوء حظٍّ في تاريخ الأوسكار حيث كان في السنة ذاتها مع «لا بلد للعجائز» (No Country for Old Men - 2007) للأخوين كوين.
ما الذي يحويه «خيطٌ وهمي» (Phantom Thread - 2017) إذن؟ إنَّه يضمُّ كلَّ ما سبق وأكثر، ولكن في قُطبةٍ خفيَّةٍ مُحاكةٍ ببراعةٍ داخل جسد الكلمات والصورة والموسيقى. فيلمٌ يصلحُ كدرسٍ سينمائيٍّ في كيفيَّة صناعة فيلمٍ مرعبٍ من فرط رهافته؛ كيف تنسلُّ الكاميرا بسلاسةٍ بين الممثلين والجو المحيط وتتناوب الأدوار مع لعبة الضوء والظلال والألوان التي تضبطُ إيقاع العمل منذ الدقيقة الأولى؛ كيف يختفي المخرج ويترك لعناصره السينمائيَّة أن تعمل بذاتها، وكأنَّه مترجمٌ تدركُ تفوُّقه بقدر ما يختفي، وإن كانت هذه الوصفة خطيرة، خاصَّةً في هوليوود التي تريد الأشياء والعناصر والشخوص واضحةً بلا ألعاب. فلنتذكَّر فيلمًا مذهلًا آخر تخفَّى فيه مخرجُه وأخفى صنعته معه، فأُزيح بقسوةٍ من سباق الأفلام «الواضحة»، أعني فيلم «عصر البراءة» (The Age of Innocence - 1993) الذي يكاد لا يتذكَّر أحدٌ أنَّ هذا الفيلم البديع من إخراج مارتن سكورسيزي (أجل، مرَّةً أخرى نجد دانيل دي لويس في دورٍ منسيٍّ آخر)، ولا غرابة أّنَّ الفيلمَين ظفرا بجائزةٍ وحيدةٍ عن العنصر الأكثر ظهورًا ووضوحًا: الأزياء.
لا صراخ في هذا الفيلم حتى في أقصى لحظات الغضب. كلُّ تفصيلٍ مشغولٍ بدقَّةٍ متناهيةٍ كما لو كان قماشةً بين أصابع ضئيلة تحيكُ معجزةً قبل أن تبثَّ فيها الروح لتحيا حياةً مستقلَّة. فيلمٌ أشبه بحكايةٍ خرافيَّةٍ منبتّة الزمان والمكان، فيها من السحر بقدر ما فيها من «الواقع»، وفيها من العجائبيَّة بقدر ما فيها من التفاصيل الروتينيَّة التي كانت لتبدو مملَّةً لو غفل المخرج والسيناريست عنها لحظةً واحدة. خيوطٌ متشابكةٌ كما الحياة، متاهةٌ أخرى لا تشبه متاهات أندرسون السابقة، لكنَّها متاهة أكثر تعقيدًا لأنَّها ستُخاتل المشاهد ببساطتها الظاهريَّة. حتّى التمثيل البسيط كان أعظم إنجازات الفيلم وأكثرها تعقيدًا. لعلَّه أحد أعقد أدوار لويس وأصعبها، مع أنَّه (ولأنّه) الأقرب إليه طبيعةً ولهجةً.
ربما كانت حكاية الفيلم الجوهريَّة هي الحب، ولكن ليس الحبَّ المعتاد، أو ربما الحب بعد إعادة تعريفه. ما من مشاهدَ حميميَّة، ولا حتَّى لحظات لهب عشق متَّقد، غير أنَّ الفيلم يروي حكاية حبٍّ مدهشةٍ يكمن إدهاشها في غرائبيتها وفي تعقيدها، وفي كونها تشبه أيَّ شيء إلا أن يكون حبًّا كالذي اعتدناه. نكاد ندرك أنَّنا لا نحبُّ لأننا نحب، بل نحب لأنَّنا نودُّ تقليد ما نظنَّه حبًا؛ حبُّ القصائد والليل والأشواق والمشاعر المتَّقدة والسذاجة والتخبّط والخَفَر الممتزج بشهوانيَّة؛ حبُّ أن تتغيَّر كي تعانق الحبيب في ذلك الجزء الذي اقتطعته من حياتك وجسدك كي يُكملَك، أو هذا ما يُفترَض به أن يفعل: أن يحوِّل كائنَيْن إلى كائنٍ أوحد. ولكن هذه هي الحكاية الخرافية حقًا، أما الفيلم فخرافةٌ من نوعٍ آخر، لعلَّها هي الجوهر حقًا.
يظنُّ الناس أنَّ الناس يتغيَّرون فيقعون أسرى سوء فهمٍ دائم، إذ يفترض كلٌّ منا أنَّ «الآخر»، أيًا يكن، سيتغيَّر من أجلنا، خاصَّةً حين تكون العلاقة حبًا من هذا النوع أو ذاك. إلَّا أنَّ الناس لا تتغيَّر، ولعلَّ السبب الأول للانفصال وانكسار القلب وسُهاد امرئ القيس وفراش النابغة هو اقتناعنا العبثيُّ أنَّ الآخر سيتغيَّر من أجلنا، مع إدراكنا التام بأنَّنا لن نتغيَّر حتى لو أردنا ذلك. ما من أحد يدين لأحدٍ بتغيير. هذه خرافةٌ يلتقطها الفيلم ببراعةٍ ويعرضها أمامنا بلا رتوش.
ليس تناقضُ عالمَيْ البطلين طبقيًا أو عُمريًّا أو حتَّى جندريًّا، بل يكمن التَّضاد في أنَّ كلًا منهما (وكلًا منَّا بالنتيجة) يحاولُ تحويل الآخر إلى طفلٍ يُحسُّ ويتحرَّك، يعمل ويستريح، يخرج ويدخل، يأكل ويشرب على هوانا. ولكنَّ التراجيديا هنا (تراجيديا تخلو من الأبطال الخرافيِّين، ولكنَّها تراجيديا أقسى) هي أنَّ الأطفال لا يصلحون للحب، وأنَّ نجاحنا في تحويل الآخر إلى طفل يعني انتهاء العلاقة السويَّة لتتحوَّل إلى شيءٍ آخر، ليس حبًا بكلِّ تأكيد، وإنْ كان تعريفه غامضًا ضبابيًّا متخبِّطًا. هو أيُّ شيءٍ إلا أن يكون حبًا.
تريد بطلة الفيلم ألما (فيكي كريبس) أن تحبَّ رينولدز (دانيل دي لويس) حقًا، ولكنَّها لا تودُّ التخلِّي عن شيءٍ من ذاتها، بل تريدُ تحويل رينولدز إلى دميةٍ على هواها. وحين يتواطأ رينولدز في اللعبة تظنُّ ألما أنَّها نجحت، لذا يكون الانكسار مضاعفًا حين تراه قد «تغيَّر» بينما هو عاد إلى حقيقته في واقع الحال، لأنَّه يدرك – بُحكم العمر والخبرة ربما – أنَّ لعب الدور هو محض لعبةٍ موقَّتةٍ تنتهي مهما طالت، قبل أن يعود كلٌّ من اللاعبَين إلى ما كان عليه، إلى جوهره الثابت الراسخ العصيِّ على التغيير.
يودُّ رينولدز لو أحبَّ ألما حقًا. ينتهي الفيلم من دون أن يتمكَّن (هو أو نحن) من الجزم بأنَّه يحبُّها حقًا، أو أن يحبَّ جانبًا واحدًا منها، أو ربَّما يحب أن «يرسمها» كما يحبُّ كي يحبَّها. هي أكبر من مجرد موديل لفساتينه حتمًا، ولكنَّها أقل من أن تكون حبيبةً أو شريكة. أخته سيريل (ليزلي مانفيل) تصلح لهذا الدور أكثر، بيد أنَّ تعميق العلاقة بينهما كان ليودي بالفيلم إلى مزالق كثيرة.
يبدو رينولدز ابنًا للماضي أكثر، ونكاد نقع نحن أيضًا (كما وقعت ألما) في فخِّ هذا الإدراك الخاطئ. ليست الفضائل والروتين المقدَّس، والهدوء والعزلة، وكذلك الانتقاء الدقيق لما نأكل ونشرب ونلبس ونحب ونكره، رواسبَ عالقةً من الماضي كما تريد منا هوليوود وعصر الشاشة والسرعة. هذه هي الحياة كما يُفترَض أن تكون عليه، وتخلِّينا عن أيّ عنصر من هذه العناصر يعني تخلِّينا عن جوهرنا، حتى لو (بل ربَّما لأنه) يخالف جوهر غيرنا. الأمر ليس أن رينولدز لا يصلح للزواج أو العلاقات، أو الإنجاب أو التماشي مع الحفلات الراقصة وروح العصر الجديد، بل هو لا يصلح للتعريف الضيِّق الذي فرضه علينا تقلُّب الأزمنة، وفرضته علينا تغيُّرات الحياة التي نظنُّها تطوُّرًا نحو الأفضل.
لن ندرك رهافة هذا الفيلم إلا حين نتذكَّر أنَّنا بتنا نختلسُ لحظاتٍ من يومنا كي نعمل ما نحبّ، أكان عملًا أو هوايةً أو حتَّى مجرَّد استرخاء. بتنا نختلسُ ما كان لنا، وما كان يفترَض أن يكون كلَّه لنا، غير أنَّنا تخلَّينا عنه لأنَّنا آمنَّا بأنَّ الناس تتغيَّر بتغيُّر العصر. نكاد لا نرد الفارق بين الواقع والخيال، بين الحلم والصحو، في الدقائق الأخيرة من الفيلم. فيلمٌ عن الأطياف بقدر ما هو عن الأجساد، عن الماضي بقدر ما هو عن المستقبل، وعن ما يحدث جوَّانيًا بقدر ما يتخبَّط بنا في الخارج. سيريل وحدها مَنْ تدرك أنَّ التغيير يعني الموت، ولذا ستبقى على حالها، قبل أن تهرم فنزيحها – بسبب تصوُّراتنا الخاطئة – إلى رفِّ العانس الكبيرة التي تحتاج إليها كلُّ عائلة لتدركَ مصيرَ من لا يتغيَّر، ولا يرتضي الدخول في لعبة التنازلات التي استمرأها الناس إلى أن تصبح «منطق الحياة».
ينتهي الفيلم حين يرتضي رينولدز الإيغال أكثر في لعبة ألما، ولكنَّنا لن نعرف ما سيحدث لاحقًا، وما إذا كانت ألما ستنجح في تطويعه أم لا (صور الحياة القادمة تبدو حلمًا مُتخيَّلًا ورغبةً أكثر من كونها واقعًا تحقَّق). ألما أحبَّت رينولدز كما هو عليه، ولعلَّها ستدرك متأخِّرة أنَّ تطويعه يعني كسره. لعلَّه انتصارٌ ولو مُتوهَّم لها، إذْ ظفرت به، ولكنَّ جوهر رينولدز، ما كان عليه وما ينبغي أن يبقى عليه، سيتحطَّم بتحطُّم روتينه وحياته القديمة. لعلَّه سيكون انتصارًا صغيرًا، ولكن ماذا عن الخسائر؟ لا نعلم بالضبط، إذ ينتهي الفيلم قبل أن نعرف النتيجة، وإنْ كنَّا واثقين أنَّ الخسائر ليست بضاعة للتدوين، فكلُّ ما نودُّ تدوينه هو النجاح والفرح، والانتصارات الصغيرة والابتسامة المتخشِّبة في الصور. كلُّ ما عدا ذلك رواسبٌ من ماضٍ لم يعد يكترث بنا إذ ما عدنا مكترثين به.