نجح المخرج سعيد روستايي في نقل الواقع المعاش في بلده للمُشاهِد في فيلم (إخوة ليلى- برادران لیلا) الفائز بجائزة النُّقَّاد في مهرجان كان 2022.
يروي الفيلم قصة عائلة إسماعيل جورابلو، حيث يبحث الأب عن السيادة والشرف ليكون كبير القبيلة بعد وفاة شيخها، وينافسه في ذلك أحد أغنياء العائلة. ولكي ينجح في مسعاه يفعل المستحيل؛ فالاحترام والتقدير هما القيمة التي يبحث عنها طوال حياته، وفي هذه الرحلة نرى كيف أن قراراته أثرت على مصير أبنائه الأربعة وابنته ليلى التي تحاول -جاهدةً- البحث عن مخرج من هذا الفقر المدقع، وقدّم لنا المُخرج الفقر في هذا الفيلم بأبشع صوره، فنرى الابن الأكبر بارفيز يسرق البيض من بيت العائلة، ومنوشهر تُكشف محتويات حقيبته المحتوية على بعض الأطعمة والمشروبات المسروقة. بل ذهب المخرج بنا بعيدًا في عرضه حين عرض لنا تشارك الإخوة في الملابس الداخلية أيضًا!
برزت مظاهر المجتمع الذكوري في الفيلم، خاصةً المشاهد التالية: مشهد انتهاء الحداد، ومشهد الفرح بالمولود الابن بعد خمس بنات، وكذلك في مشهد حفل الزفاف. وفي جميعها كانت القرارات تؤخذ في غياب النساء، فيما تُراقب ليلى الوضع، وتحذر أباها من أن يُضيِّع ما جمعه. الأمر الذي يدفع والدتها دائمًا لمعاملتها بشكل سيئ، ووصفها بنذير الشؤم، على الرغم من أن والدها حرمها من الزواج بعدما أخبر خطيبها أن ابنته تعاني من مرض؛ لرغبته في تزويجها أحد أفراد العائلة الذين رفضوها لفقرها، وسخرت ليلى من ذكورية المجتمع حين طلبت أمها أن تأخذ لها صورة مثل أبيها ليتم استخدامها في إعلان النعي، فردت ليلى: "سيكون عليكِ استخدام زهرة"؛ فالزهرة رمزية للمرأة، فهن سواء لا فرق بينهن حسب النظرة المجتمعية.
ونقل لنا المخرج مشاهد تسلّط فيها الكبير على الصغير والغني على الفقير والقوي على الضعيف. فقوات الأمن مثلًا قمعت احتجاج عمال المصنع المطالبين برواتبهم المتأخرة، وهذا بايرم -ابن الحاج غلام- يفرض على جماعته عدم إنهاء الحداد قبل موافقته، وذلك الغني غنداشالي يحظى بالاحترام والدعم على الزعامة لغناه وماله، فيما تضعف آمال إسماعيل لفقره ومسكنته. ورأينا الإخوة الأربعة جلوسًا على رصيف المول، فيما أتت سيارة نزل منها أربع فتيات من الطبقة المخملية، وكان لوقوفهم وجلوس الإخوة دلالة لسيطرة الواقف الغني على الجالس الفقير.
هذا الوضع البائس والقاتم ألقى ظلاله على ليلى، التي أخذت المبادرة لإصلاح الوضع مع إخوتها، الذين قال عنهم بايرام إنهم مجموعة من الكسالى المتخلفين، فيما تساءل والدهم بدوره: "لمَ ينبغي عليَّ إعالتكم وأنتم في سن الأربعين؟". ولهذا ظلت ليلى تلح على إخوتها ليقوموا بشراء دورة المياه التي يعمل فيها بارفيز، ومن ثم هدمها وتحويلها إلى متجر. هذا الحلم واجه عقبات عدة، وفي كل مرة يقترب الحلم من التحقق تأتي عقبة جديدة وتجعله أبعد من أي وقت مضى. فعلى الرغم من أن كل واحدٍ منهم بدأ الفيلم باحثًا عن الخلاص بنفسه، إلا أنهم عند اجتماعهم لم يتغير الأمر كثيرًا، حتى حين يتضح مصدر العملات الذهبية التي جمعها الأب عن طريق رهن المنزل، واختلف حينها الإخوة في رد النقود لوالدهم أو المواصلة في المشروع. في ذلك المشهد نلمح ليلى تقف وحيدة أمام إخوتها الأربعة الذين توحد رأيهم مع شقيقهم علي رضا بضرورة إعادة المال لأبيهم خشية عليه من الموت، فيما قالت: "دعه يمت". لتصدر بعد ذلك حكمها على الوضع الاقتصادي للعائلة بقولها: "أنتم تحكمون على أنفسكم بالفقر الأبدي هنا والآن". ولأن الفقر عالم سفلي، رأينا كيف أن ليلى نزلت للأسفل بعد تلك الجملة لتنزل معها الكاميرا كأن المخرج يقول: إن هذا هو مكانكم الأبدي. ولاحقًا نصل للذروة، وفيها تتبادل ليلى والأم والأب الاتهامات بأقذع ما يكون؛ لتؤكد ليلى على رغبتها في الخلاص من والديها بقولها: "لمَ لا يمكنكما أن تموتا وحسب؟". ومع استمرار حدة ليلى في الكلام، يطلب الأب من الأبناء إيقافها، ولكنها تقول: "العقاب من نصيب الأطفال، ولكن أحيانًا يحتاج الراشدون إلى عقاب ليتوقفوا عن إفساد حياة الآخرين". وتتبع كلامها بصفعة على وجه والدها، فتثور ثائرة فرهاد، فيما يحاول علي رضا تهدئته في ردة فعل مغايرة لما كان عليه الحال عندما صفع علي رضا أخاه فرهاد لشتمه أباه في السوق.
صفعة ليلى أخذت حيزًا كبيرًا من الكلام بعد عرض الفيلم، بل ويمكن القول بأن هذا المشهد ساهم في تقسيم الناس لفريقين؛ فمنهم مَن رأى أن الفيلم يعلّم الأجيال القادمة عدم احترام الوالدين وأنه إهانة للإيرانيين مقابل حفنة من الدولارات، وقال أحدهم: "كل صُنَّاع الأفلام يذهبون ليشاركوا بأفلام تُظهر جمال بلادهم، إلا عندنا.. يذهب مخرجونا ليشوهوا صورة البلد". وقال آخر على يوتيوب إنه بكى بعد مشهد الصفعة وحجز مباشرة تذكرة سفر لرؤية والده. فيما ظل عدد يردد مقولة الأم: "ليلى، لعنة الله عليكِ".
وفي ختام الفيلم نرى الأب جالسًا يدخن الأفيون، وقد دخنه جالسًا في بداية الفيلم قبل حلق لحيته، ثم عندما تربع على عرش الزعامة تلك الليلة، ثم رأيناه يدخن في هذا المشهد لآخر مرة. وفيه نرى بنات بارفيز يدخلون للاحتفال بعيد الميلاد. ومع موت الأب بصمتٍ ودخول البنات، يسود صوت الأغنية المكانَ فرحًا بميلاد عصر جديد قد تتحقق فيه آمال الجيل الجديد. أما ليلى؛ فقد فرحت لانتهاء هذا العصر، ودمعت لرفض والدها التغيير والاهتمام بها مما اضطرها إلى أن تأخذ هذا الموقف المتطرف تجاهه.
بعد عرض الفيلم خرجت كثير من الأصوات التي تقول: إن الفيلم صوَّر واقعهم وحياتهم في حواراتهم وسلوكياته، وإنه متوافق مع بعض تقاليد العائلات الإيرانية، وإنه إن كان هناك مَن يقول إنَّ ما حدث خطأ ليلى، فيجب أن يكون في تلك العائلات وتلك الظروف؛ ليعرف لماذا اتخذت هذه القرارات.
في المجمل سيبقى هذا الفيلم علامة فارقة لما بعده من أفلام؛ حيث يمكن رؤيته من عدة جوانب مليئة بالإسقاطات والرمزيات.. فهو صفعة في وجه النظام.