SET UP / التمهيد
لا يعتمد الفيلم الإيراني «إخوة ليلى» (leila's brothers, 2022) للمخرج الشاب سعيد روستائي على سينما الأشياء الصغيرة التي تكبر، كما هو حال معظم أفلام السينما الإيرانية، أو لنقل الأشهر منها، فبعد لقطة مقربة "Close Up" صغيرة لوالد ليلى وإخوتها وهو يدخن سيجارته، يزج بنا المخرج في قلب المجاميع والأحداث الكبيرة، فبين هدير الآلات، شخص من الأمن ينادي على عمال المصنع ويطلب منهم الخروج إلى سكن العمال وتبديل لباسهم الموحد، وركوب الحافلات إيذانًا بلحظة إغلاق المصنع بسبب الإفلاس، في هذه اللحظة يظهر بطل الفيلم علي رضا الذي ينصرف مع بقية العمال، وتتوقف الآلات تدريجيًّا عن العمل.
في هذه الأثناء نسمع صوت جهاز العلاج الفيزيائي، ومن خلاله تظهر ليلى، الشخصية المحورية في الفيلم، التي يُخفي التعب بسبب آلام ظهرها شيئًا من جمالها وبريق عينيها. في المقابل، يظهر الأب - رمز الذكورة المقيتة في الفيلم - بظهره المحني والذليل في مجلس عزاء ضخم لكبير العشيرة غلام، الذي سيتضح لاحقًا أنه توفي منذ ما يزيد عن عام كامل.
تتنقل الكاميرا بين هذه المشاهد الثلاثة فتشي بوقوع أمور كبيرة جدًّا، فعمال المصنع هائجون، ومن بينهم علي رضا الذي يحاول الفرار من أعمال العبث والتخريب، وتنتقل ليلى من جهاز إلى جهاز آخر للعلاج أو لتخفيف حدة آلامها، وأفراد العشيرة يحاولون إقناع بيرام ابن غلام بانهاء فترة الحداد الطويلة على والده، وتعيين خليفة له، وبالتالي نزع السواد والسماح للشبان بالزواج ومواصلة حياتهم.
هنا يبدأ والد ليلى وإخوتها بعرض وجهة نظره كونه المستحق للخلافة؛ لأنه أكبر الموجودين سنًّا، في ظل سخرية غارداشالي الذي يبدو قريبًا من سنه لكن بصفات وإمكانات مادية تمكنه من تولي المنصب.
وتنتهي هذه المقدمة الكبيرة والمحتشدةُ باللقطات السينمائية العظيمة بمشهد إغلاق الباب دون والد ليلى وإخوتها، الذي تسرح نظراته في ذل ومهانة، بينما نلمحُ، قبل إغلاق الباب تمامًا، أفرادَ العشيرة يتناوبون على تقبيل يد غارداشالي الذي يبدو أن الجميع قد اتفقوا على توليه المنصب البطريركي المقيت، في تقاطع آسر مع مشهد الذكورية الأعظم في تاريخ السينما الأمريكية، أثناء تنصيب الدون كورليوني في فيلم «العراب» (The GodFather).
نكون في هذه اللحظة كمتلقين أمام ثلاث ثيمات إنسانية بارزة، سنلاحظ لاحقًا أن الفيلم لا يحيد عنهم: (الهروب) المتمثل في شخصية علي رضا الذي سيعمل المخرج على تكريسه، و(الألم) الذي يصاحب ليلى في بُعديه الجسدي والنفسي والذي سنجد له تبريرات لا نهائية مع تكشف أحداث الفيلم، و(الذل) الذي يحاول الأب جاهدًا أن يبذل الغالي والنفيس -نقوده والباقي من شرفه ومستقبل أولاده كذلك- من أجل الانعتاق من ويلاته.
ثم تبدأ الأمور في الفيلم بالصغر، على الأقل ظاهريًّا، إذ تنحصر الأحداث بعد ذلك في شخصيات عائلة ليلى، الأب صاحب الوساوس والأوهام الذكورية التي تتعلق بالمجد والمكانة، والأم المستكينة لرغبات زوجها طمعًا في تحصيل المجد بالتبعية، وإخوة ليلى الأربعة العاطلون عن العمل بسبب الضعف وخمول الأوضاع الاقتصادية الضاغطة في البلاد.
لا تنتهي مقدمة الفيلم المحددة باثنتين وعشرين دقيقة تقريبًا إلا ويكون روستائي قد قدم لنا عدة مشاهد ستكون خالدة في السينما الإيرانية، يمكن لنا الاستمتاع بها كصور سينمائية منفصلة عن سياق الفيلم، وداعمة له ولمكوناته البصرية في الوقت نفسه، من بينها صورة الأب على كرسيه والدخان المتطاير من سيجارته، ويظهر أن المخرج اعتمد هذه الصورة كـ طعم Hook عبقري يعتمد على الفوتوغراف أكثر من اعتماده على الحدث، ومشهد آلام ليلى الذي يظهر فيه وجهها الجميل من خلال فتحة سرير المساج، ومشهد هروب علي رضا وفزعه من المجهول، ومشهد فرحة الأب بولادة حفيد يُمنِّي النفس بتسميته غلام على اسم المرحوم، وأخيرًا، يأتي مشهد خذلان الابن لوالده، نتيجة محاولته التلاعب به واستغلال جهله بالقراءة. ينتهي المشهد بانكشاف الخديعة، حين يفتش الأب جيوب ابنه ليجد بداخلها بعض الأرزاق المسروقة بمشاركة ابنه وزوجته.
قدمت لنا كل هذه المشاهد المتعاقبة النظرة الممكنة التي يمكننا من خلالها فهم الأفق الذي ستسير باتجاهه الحكاية، وكعادة السينمائيين الإيرانيين يظهر ذلك دون اللجوء إلى حيل مشاهد استرجاع الماضي "Flashback" التي يبدو أنها تكسر واقعية السينما من وجهة نظرهم، ولو صح هذا التصور الفلسفي سيكون حتمًا أحد أهم أسباب واقعية السينما الإيرانية، المحتشدة دائمًا بالأحداث اليومية شديدة التعقيد والصعوبة.
CONFRONTATION / المواجهة
إذا كان أصغر فرهادي وغيره من المخرجين الإيرانيين يستخدمون ثيمات معينة مثل المرأة التي تقود السيارة، أو المرأة التي تطلب الطلاق، أو المرأة الشريرة التي تخبئ خبثها النسائي خلف الشادور، كشكل من أشكال التمرد النسائي تجاه المجتمع والسلطة السياسية، التي تعتبر النساء مواطنًا من الدرجة الثانية، فإن سعيد روستائي يذهب إلى أبعد وأعمق من ذلك، فيجعل ليلى المُنقذة الحقيقية لحال العائلة الميؤوس منه، وسنجد الملمح نفسه في فيلمه السابق «الأبدية ويوم واحد» (Life and a Day 2016) الذي يتمسك فيه الأخ المُدمن بأخته التي تنوي الزواج كأنها طوق النجاة الذي سيضمحل في حال ابتعدت شقيقته عن المنزل، من هنا نجد روستائي يغير من طريقة تناول السينما لصورة المرأة الإيرانية، من التمرد للحصول على الحقوق المستلبة، إلى حقيقة وأهمية حضورها الوجودي.
سيتضح لنا هذا من خلال حوارات ليلى مع أخيها علي رضا، الذي يتميز بالذكاء والتفهم وتحمل المسؤولية عن بقية إخوته، فتقترح عليه بشتى الطرق أن يقوم بعمل تجارة مربحة لإنقاذ العائلة من براثن الفقر،
تدرك ليلى جيدًا ظروف إخوتها الآخرين، ووالدها البخيل صاحب النزعة الذكورية المتمسك بأوهام القيادة. سيربط المُشاهد الحاذق، بطبيعة الحال، بين المشهد الإيراني المشتعل مؤخرًا بالصراع بين النساء والسلطة الدينية والسياسية، وبين رمزية الفيلم التي تُحيل، من بعيد، إلى هذا الواقع.
إذ يجري تفكيك الصراع من خلال سردية عائلية خالصة، يتجسد فيها الأب بوصفه سلطة ذكورية، فيما تمثل ليلى رمزًا للمقاومة النسائية الساعية للانعتاق من هذه الهيمنة. مقاومتها لا تكون بالمواجهة المباشرة، بل عبر إثبات جدارتها وضرورة وجودها، بوصفها عنصرًا أساسيًا، وبغيابها تنهار المنظومة الاجتماعية والسياسية على حد سواء.
على امتداد ساعة كاملة بعد المقدمة، نجد أنفسنا أمام حبكات ثانوية محكمة البناء، تُحيل جميعها إلى احتمالية وجود حلول واقعية حاولت ليلى دفع إخوتها إلى تبنيها. تبدأ هذه الحلول من طريق الثراء السريع المليء بالمخاطر، عبر صديق أخيهم الأكبر منوشهر، الذي يعمل في تجارة السيارات المستوردة، لكنه لا يسلّمها إلى الزبائن، بل يهرب بالأموال بعد بيع الشركة لشخص آخر. يظهر وكأنه متورط، غير أنه يستغل الوضع ليقبض دفعات جديدة من زبائن آخرين يسدّد بها ديون الهارب، قبل أن يحصل على دفعة أخرى يفرّ بها بدوره، في دوامة لا تنتهي، شائعة في بلدان ينخرها الفساد. تقوم هذه العملية في جوهرها على أخلاقيات بيع الأوهام، لكن الإخوة، برغم إغراءاتها، سرعان ما يشعرون بخطورتها ويدركون تبعات الانخراط فيها.
ثم تأتي الحبكة الثانية التي تبدو أكثر معقولية من سابقتها -وإن كانت لا تخلو من لمحة سوريالية تليق بأوضاع بلد مثل إيران- حيث تنوي إدارة المركز التجاري الذي تعمل فيه ليلى وأحد إخوتها بتحويل دورات المياه في المركز إلى محال تجارية.
وفي خضم انشغال الإخوة بأحلام الثراء، تبرز الحبكة الثالثة باعتبارها تصعيدًا للحبكة الرئيسة، وامتدادًا للثيمة الأبرز في الفيلم: أحلام الأب السلطوية. إذ يكتشف الأبناء أن المبلغ الذي بدا يومًا مستحيل المنال موجود في حوزة والدهم، غير أنه يعتزم تقديمه هديةً في زفاف حفيد شيخ العشيرة الراحل، بعدما أوهمه ابنه الماكر بأن هذه الخطوة قد تفتح له باب تولي منصب الشيخ.
ليلى التي تعرف جيدًا خبث وبخل والدها وتعطشه للسلطة الوهمية التي ستحرره من الذل والمهانة والتمييز الطبقي، تحاول أن تنبّه أخيها علي رضا لأوهام والدهم، بينما يحاول الأب استمالته ناحيته من خلال الأكاذيب والاستضعاف وادعاء المرض، ما يجعل ليلى في محل امتحان حقيقي، بين كونها شريرة تختبئ خلف ضعفها كامرأة في مجتمع ذكوري، وبين كونها واعية وعاقلة تزن الأمور بميزان العقل والمنطق.
تتعاقب أحداث عديدة في الفيلم، على نحو متسارع، وصولا إلى نقطة الاستراحة اللازمة، التي تظهر من خلال حوار يدور بين ليلى وعلى رضا فوق سطح منزلهم المتهالك، حيث تذكّره ليلى بحبه للجارة التي خسرها، وأصبح يراها مع ابنها وقلبه يعتصر قهرًا عليها، وتُذكّره بحبيبها ماجد الذي هرب منها بسبب كذب والدها عليه وادعائه أنها مريضة لا تصلح للزواج.
تكشف لنا هذه الحوارات بين ليلى وعلي رضا عن مدى دناءة الأب رمز السلطة القاهر، الممتلئ جهلًا وصلفًا، ومدى هشاشة وتضعضع الأحوال الاجتماعية التي تحيل بالضرورة إلى التقاطع مع البعد السياسي في البلاد.
RESOLUTION / الحل
نصل بعد ذلك إلى النصف الساعة الأخيرة من الفيلم، التي تمثل ذروة أحداثه، وتوضح إلى أي مدى استطاع سعيد روستائي أن يحبس أنفاسنا، ويعطينا درسًا هامًّا حول ما يمكن للمرأة راجحة العقل أن تفعل بأوهام السلطة الذكورية، من خلال عدد من الصدمات السينمائية بالغة الروعة، التي تجنح الي التطرف في مواضع منها في سبيل اتخاذ القرارات الصحيحة، ما يجعلنا كمشاهدين نقف مرة تلو أخرى أمام إمكانية وجدارة المرأة في تولي زمام الأمور.
ليلى، التي ترى في انعتاق إخوتها من الفقر المدقع طريقًا للخلاص، تتحول عبر هذه الصدمات إلى معادل حقيقي لجدوى وجودها. فهي تضع السلطة الذكورية الموهومة موضع السخرية، عبر إحراج والدها في مشهد يبدو للوهلة الأولى انتقاميًا، لكنه مع التدقيق في ملامح وجهها ورجاحة منطقها، وحتى في ألم صفعتها المدوية، يتجلى كإعلان صريح عن انتزاع حضورها وترسيخه. حضورٌ لا يقوم على الهامش أو التلميح السينمائي، بل على الفعل المباشر والقدرة على التخطيط والمناورة. هكذا نراها تخطط وتنفذ وتنجح في شراء الحمامات، في مواجهة جملة والدها التي جاءت كذروة مأساوية ساخرة قلّ أن نجد مثيلها في السينما: «لقد حرمتموني من عرشي لتشتروا أكشاك حمامات».
غير أن كل ذلك لا يثني ليلى ولا يضعف إرادتها، بل يضعها في لحظة مفصلية داخل الفيلم كامرأة بلا قلب في نظر علي رضا؛ اللحظة التي تتعقد فيها الأمور حين يقرر هو الانحياز للسلطة الذكورية، فيعيد شراء العملات الذهبية لوالده، محاولةً لرأب الصدع الذي أحدثته فضيحة العشيرة وسقوط أبيهم من عرش وهمي. سقوط جاء بعد أن فضحته ليلى في قاعة الزواج حين بدّلت الهدية المنتظرة بعلبة فارغة.
لكن ما كان يُفترض أن يُكرّس موقع الأب في قمة هرم عشيرة غارقة في الفساد، انقلب إلى مهزلة، خاصة وأن قيمة تلك الهدية الباهظة كانت لتُلزم الحاضرين بتقديم هدايا مقابلة تليق بالمقام. غير أن الرياح تأتي بما لا تشتهي سفنهم: تصريحات الرئيس الأمريكي ضد إيران تهوي بالتومان إلى الحضيض، فتفقد الأوراق النقدية قيمتها أمام الذهب. وهنا يظهر الخداع الأبوي مرة أخرى، إذ ينجح الأب في إيهام علي رضا بأنه رهن بيتهم مقابل الذهب، ما يضع مصير العائلة كلها على حافة التشرد.
هنا تتشكل ذروة أخرى توازي الذروة الأولى، حين ينكشف كذب الأب مجددًا، فتُظهر ليلى وثائق البيت التي تثبت أنه لم يرهنه كما ادعى. وفي الوقت نفسه يتورط منوشهر مع صديقه الذي عقد معه صفقة بيع الوهم، من وراء ظهورهم جميعًا. ومع انهيار التومان يتضخم دينه إلى المليارات، فلا يجد سبيلًا سوى الهروب خارج البلاد مستعينًا بجواز سفر الأخ الأصغر. هذه المفارقة تمثل إشارة بليغة إلى استحالة تحقق أحلام الثراء في إيران، حيث يصبح أقصى ما يملكه الحالم هو الهروب، تمامًا كما يفعل كثير من الإيرانيين الذين يبحثون عن خلاصهم في المنافي القريبة والبعيدة.
وهكذا تنغلق الحلول ويبرز مدى رجاحة رأي ليلى منذ البداية، ليلى التي كانت ترمز للوجود نفسه، نسمع نحيبها بعد خطبة قصيرة تقول فيها لإخوتها: «أنتم تحكمون على أنفسكم بالفقر الأبدي هنا والآن، لقد أضعتم الفرصة الوحيدة»، وما هي إلا لحظات قليلة ونشاهد تحولًا جذريًّا في شخصية علي رضا الذي يذهب إلى المصنع، وحين لا يجد نتيجة في أخذ مستحقاته، نراه يهشم الباب الزجاجي بطفاية الحريق، علي رضا الهارب من المسؤولية والذي لم يشارك زملاءه تمردهم على الملاك الفاسدين وآثر الهرب في بداية الفيلم قد علا صوته أخيرًا، أو هذا ما أظهرته له تجربة الاقتراب من ليلى.
ولعل وقوع الفيلم بين هذين الحدثين هو الدلالة الأبرز على الرمزية السياسية للفيلم الفيلم، والتي تسببت على الأرجح في منع عرضه في إيران على الرغم من تأثيره في الخارج، في مهرجان كان تحديدًا، الذي ترأس لجنته أصغر فرهادي، لكنه لم يمنح روستائي جائزة أفضل فيلم، ولا أعتقد أن ذلك يتعلق بأسباب سياسية بقدر تعلقه باختلافه مع مذهب روستائي الفني، وفي المقابل أعطى صوته القوي -كرئيس للجنة التحكيم- للفيلم الإيراني الآخر «عنكبوت مقدس» (Holly spider 2022) الذي يتفق مع توجهه ومذهبه الفني على الرغم من ضعفه مقابل فيلم «إخوة ليلى».
ينتهي الفيلم بصورة الأب على الكرسي بالقرب من تجهيزات حفلة عيد ميلاد إحدى حفيداته، الكرسي الذي ظهر جالسًا عليه في بداية الفيلم، بسيجارة مشتعلة أيضًا، التي لا يدخنها هو هذه المرة، بل سيدخنها علي رضا الذي يأخذها من يده بعد أن يتحسس نبضات قلبه، ثم يطبق جفنيه ويتركه على كرسيه كأنه نائم فقط ولم يذهب إلى الأبدية، لتبدأ الحفلة الراقصة التي يشارك فيها علي رضا راقصًا على جراحه العائلية الموجعة، في ظل مراقبة ليلي للمشهد من بعيد، بعينين حزينتين وتعابير يغلب عليها التعب وفقدان الأمل وانغلاق الأفق.