خطيئة التخلّي في «المكان المهجور»

February 27, 2024

هناك مرَّةٌ أولى لكلِّ شيء: للتخلِّي، للخطيئة، للحب، للبكاء، وللموت؛ المرَّة الأولى التي تجعل بقيَّة المرات معطوبة أو مشعَّة، وبعد المرة الأولى تغدو الأشياء مكرَّرة، يضعف تأثيرها إن نجا المرء من أضرارها واستطاع تجاوزها. إلَّا أنَّ «المكان المهجور» (That Abandoned Place - 2021) يشير إلى أنَّ البقاء في دائرة المرة الأولى قد يصبح مؤبدًا في حال كان الضرر كبيرًا وغير متوقع. نرى البطلة في هذا الفيلم تخسر عقلها بعد ضربةٍ قاضيةٍ من زوجها الذي قرَّر تركها بين ليلة وضحاها، إذ يعرض الفيلم قصة امرأةٍ روائيَّةٍ تعاني من تأثير الصدمة بعد أن تخلَّى عنها ذلك الزوج، ولكنها تحاول استعادة حياتها من خلال الحبِّ وبناء الثقة بعد محاولةٍ جادَّةٍ للانتحار. 

تمَّ تصوير فيلم «المكان المهجور»، وهو فيلمٌ روائيٌّ دراميٌّ طويل باللغة الإنكليزيَّة من تأليف وإخراج السعوديَّة جيجي حزيمة، في مدينتيّ نيويورك وفيلادلفيا، وحاز على جائزة النخلة الذهبيَّة في مسابقة الأفلام الطويلة بمهرجان أفلام السعوديَّة التاسع (2023).

يتمتع الفيلم بإيقاعٍ هادئٍ وحواراتٍ عميقةٍ تؤطِّرها الألوان الفاتحة التي يغلب عليها الأبيض في مجملها، ويختفي من أحداثها تسارع الوتيرة والصخب، ومع ذلك يحملُ الفيلم مفاجآتٍ خفيَّةٍ تصبح صادمة حين تُربط الأحداث ببعضها. 

تجدرُ قراءة الفيلم من وجهة نظرٍ سيميائيَّة، كون الرمزيَّة فيه عاليةً ومنتقاة، تصبُّ في رسالة الفيلم الرئيسة التي تتمحورُ حول الخوف بكافَّة أشكاله، ومن خلاله يفلسف الفيلم أفكاره، باعتبار أنَّ الخوف هو الدافع والمانع والمبرِّر، عن طريق الصورة وما تحملُه من معانٍ ضمنيَّةٍ من خلال المَشاهد واللقطات التي قد تبدو للناظر ذات تعبيرٍ بسيط، لكنَّها في حال التعمُّق حافلة بالدلائل والأيقونات التي وُظِّفتْ بحساسيَّة، وكذلك عن طريق استقراء الحوار العميق الذي عمل على ترجمة ما غاب داخل رأس البطلة المضطرب بالوهم والأفكار السلبيَّة. 

أكل التفاحة

هل التخلَّي خطيئةٌ أم ضرورة؟ هل على الإنسان أن يُكرِه نفسه على الآخر حين تتلاشى أسباب البقاء؟ وهل من الأنانية اختيار المرء طريقه دون الالتفات إلى الخلف؟ ماذا عن التضحيات ومحاولة التغيير داخل الإطار الواحد؟ وماذا لو منحنا أنفسنا والآخر فرصةً أخرى؟

نشاهد هنا قصَّة آدم وحواء حين يتجاوزان الخطَّ الأحمر فيهبطانِ إلى الأرض. يتركها آدم فتترك هي آدم آخر، تحارب الجرح بالتجريح، لأنَّه حين يتخلى عنها تحاول لبقيَّة حياتها رفع قيمة الأنا المتروكة، فتندفع في البداية للتخلُّص من حياتها بالكليَّة، وحين لا يفلح الأمر تتَّخذُ طرقًا أخرى. وفي مشهد صامتٍ تسلط الكاميرا الضوء بلقطةٍ متوسِّطة (medium shot) على رجلٍ وامرأة تُظهر رأسيهما وكتفيهما، بينهما تفاحة، وهي اللقطة التي تَظهَر فيها وجوه الممثِّلين وعواطفهم بوضوح، وقد استُخدِمت هنا لمنح الممثلَين ومحيطهما حضورًا متساويًا في الأهميَّة على الشاشة، فما هي الثيمة المراد التركيز عليها هنا؟

يلاحَظ أن الممثلَين يظهران بأزياء بيضاء على خلفيَّةٍ بيضاء للمشهد، وهذه الأزياء تحملُ رسالةً ضمنيَّةً بأنَّهما لم يتلطَّخا بالخطيئة بعد، أي البياض التام في الداخل والخارج، ثمَّ يبدأ أحدهما بقضم التفاحة التي يظهر لونها الأحمر صارخًا وسط ذاك البياض، يأكل كلاهما من التفاحة نفسها، قضمةً منه وقضمةً منها، لنفهم أنَّ النصاعة تلوَّثت بفعلٍ متشارَك، وأنَّ على الأبيض المغادرة الآن.

ما نراه على الشاشة هو مغادرتها للمستشفى وتماثلها للشفاء، ولقاؤها برجلٍ يحبُّها ويقسم لها على الإخلاص. هذا الحبُّ والقسم بالإخلاص يكلَّلان بالزواج، لكنَّها مع ذلك تتخلَّى عنه وتطلب ابتعاده. ما يمكن استقراؤه خلف هذه المَشاهد هو اختلاق خيالها لقصَّةٍ أخرى من أجل الانتقام لنفسها، فترى ذاتها أمام رجلٍ يتذلَّل لها بالحب فترفضه، وتتمكَّن من قول «لا» في وجهه، في محاولةٍ يائسةٍ للردِّ على سوء الرجل الأول، زوجها الأول، بالإساءة إلى الرجل الثاني، الحبيب الذي أصبح زوجها الثاني فيما بعد. إنِّ خطيئة أكل التفاحة بالنسبة إليها ليست تجاوزًا للأمر الإلهي، بل إنَّها تجاوزٌ للباب المغلق الذي أخذتْ على نفسها عهدًا ألا تفتحه، وحين فتحته عاقبتْ نفسها، وعاقبت الرجل الذي حرَّضها على ارتكاب تلك الخطيئة وجعلها تكرِّر الحب والارتباط من جديد.

طريق الاضطراب

يبدو جليًا أن البطلة تعاني من «اضطراب ما بعد الصدمة» (post-traumatic stress disorder) وتبدو الأعراض عنيفةً في البداية بسبب اندفاعها للانتحار، ثمَّ تنحو نخو الاكتئاب الشديد، كذلك نحو فقد الإحساس بالأمان وعدم القدرة على التواجد داخل علاقةٍ سليمة. 

وتتجلى أعراض هذا الاضطراب لدى البطلة عبر المَشاهد في أربعة محاور:

  • إعادة التجربة: تعود البطلة لاإراديًا إلى الذكرى المؤلمة لطلاقها في مشهدٍ يتراءى لها وهي تصرخ تحتَ المطر مناديةً زوجها الأول: «أين أنت؟ أين أنت؟ لا أستطيع أن أراك!» فتسمع صوتًا من اللامكان يقول لها: «أريد أن أترككِ»، فتتلفَّت بذعرٍ حولها، مغطيةً أذنيها بيديها كلتيهما كيلا تسمع.
  • التجنُّب: وهو تجنُّب البطلة للأشخاص والأماكن والمواقف التي تجعلها تستعيد ذكرياتها المؤلمة، إذ نشاهد البطلة في محاولةٍ للاستغراق في اللذَّة فوق سريرها، لكنَّها تتوقف حين تهاجمها خيالات الآخرين الذين يسترقون النظر إليها بسخريةٍ وينعتونَها بالجنون لأنَّ زوجها انفصل عنها. يتجلَّى التجنُّب عندها في مشهد إهمالها للردِّ على زوجها الثاني، الذي يطرق الباب ليسألها: «ماذا فعلتُ لكِ؟» لتجيبه: «لا أستطيع العيش معك»، ثمَّ تديرُ وجهها إلى الجهة المقابلة في إشارةٍ إلى عدم الرغبة في الاستمرار، وهي محاولةٌ استباقيَّةٌ لئلا تتكرَّر المأساة معها. 
  • التغيُّر في الإدراك والمزاج: ينخفضُ اهتمام البطلة بالحياة وتحرصُ على تجنُّب الآخرين، إضافةً إلى قدرتها المنخفضة على تذكُّر الجوانب المهمَّة من الأحداث الصادمة، وكذلك الأفكار السلبيَّة وما يتبعها من مشاعر. في هذا الإطار تذهب البطلة إلى القيام بشيءٍ رمزي، ألا وهو تناولُ كأسٍ من الحليب، في محاولة لاستجلاب المعاني التي يحملها البياض إلى جوفها، كأنَّها تريد لذلك البياض أن يتسرَّب داخلها، لكن اللاشعور يدفعها لسكب الكأس على الأرض، في إشارةٍ إلى رفضها للتصالح مع الحياة، وعدم منحها فرصةً للبدء من جديد. الأمر نفسه تقوم به مع تعثُّرها ببيضةٍ صغيرةٍ ساقطةٍ من العش، فتلتقطها، وبدلًا من إعادتها إلى عشِّها، تهشِّمها بيدها، كأنَّها تريد إراحة كائنٍ لم يوجد، قبل أن تبدأ معاناته، كأنَّها تودُّ أن تكون مكانه.
  • التغيُّر في اليقظة وردود الفعل: تُظهر البطلة صعوباتٍ في التركيز وعدم القدرة على النوم، إضافةً إلى التصرُّف بتهوُّرٍ والرغبة في إيذاء النفس عن طريق محاولة الانتحار، ويشمل ذلك نوبات الانفعال الشديدة التي تعتريها داخل المصحَّة، والتي تظهر في الصراخ ونوبات الغضب، إضافة إلى مقابلة الحب بالتجاهل بعد إبداء تقبُّله، ورفض التواصل مع الزوج الثاني وذلك بعد الموافقة وإقامة الزفاف وتقديم النذور. 

لون الآخَر

يتصدَّر المشهد اللون الأبيض الناصع، ترتديه الجدران والملابس وأغطية السرير وخلفيات الأحداث. الأبيض حاضرٌ بقوَّة، بل هو بطلٌ أساسيٌّ وباقٍ في الذاكرة. ويُعدُّ البياض رمزًا للنقاء والسلام في بعض الثقافات، ولكن لا يبدو أن الفيلم اختار الأبيض هنا لهذا المعنى، بل يدلُّ الحدث المركزي على حدوث انفجارٍ ساحقٍ أدى إلى محو المعاني الناصعة والبقاء على خليط الألوان وهو الأبيض، حيث يرتبط في بعض ثقافات الشرق بالحزن والموت، وهو ما يؤيِّد مذهب الفيلم: ذهاب المعاني الجميلة إلى حيث تموت الأشياء، إذ يتكوَّن اللون الأبيض من اجتماع ألوان الطيف كافة، فهو لونٌ لاحقٌ بعد تجربة الكثير، ليكون شاهدًا على الكدمات والمحبَّة والنضج والاحتراق، أي إنَّه هنا نتاج التجربة وليس القبَّة التي تظللها. إنَّه إعلانٌ عن رفض التلطُّخ بألوان جديدة، فالبياض هنا تعبير عن الذات أو الأنا، وهو وجهة نظر البطلة متمثِّلةً في اللون، فما هو لون الآخَر؟ 

عمدت المخرجة إلى تلوين الآخر باللون الرمادي، إذ جاء اختيار ملابسه ومواقعه في الفيلم داخل إطار اللون الرمادي، والذي ظهر على نحوٍ متقطِّع في بعض المَشاهد، لا سيما التي يجتمع فيها اثنان: البطلة والحبيب، البطلة والزوج الغادر، البطلة وأستاذتها، فهو اصطدام الأبيض بالآخر، الآخر الذي لم ينتمِ إلى تصنيفٍ بعد، وقد يكون السبب هو ما تشعر به البطلة إزاء الآخرين عقب تجربتها المريرة، وهو الإبقاء على مسافةٍ في العلاقات بحيثُ لا يمكن التكهُّن بماهيَّة أصحابها ولا اكتشافهم، وبالتالي يظلُّون في المنطقة الرماديَّة التي ترمز إلى البقاء في الظلِّ لضمان عدم إحداث زوبعة. ويُلحظ أنَّ ارتباط الرماديَّ بالآخر قد تكون له إشاراتٌ إلى النظرة الفرويديَّة للآخر، حيث يرى فرويد بأنَّ «الغريب ليس غير جديرٍ بالحب بوجهٍ عام فحسب، بل ينبغي أيضًا أن أقر - توخيًا للصدق - بأنَّه يستحقُّ في غالب الأحيان عدائي، بل كراهيَّتي، فهو لا يبدو أنَّه يكنّ لي أيَّ عطف، ولا يدلِّل نحوي على أيِّ مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعًا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي»()

أين المكان المهجور؟

يثير العنوان الفضول، محفزًا على البحث داخل الفيلم عن المكان المقصود، وهل هو مكان حقيقيّ له حيِّز وحدود؟ 

هل هو ماديٌّ أم معنوي؟ وهل هو ثابتٌ أم متغيِّر؟ هل هو مهجورٌ في الذاكرة أم القلب، أم في البيت أم المدينة؟ وهل نبحث عنه في مواقع تواجد البطلة أم نعوِّل على استنتاجه من حوارها وكلماتها؟ وأيِّ معنى يحمله هذا المكان حتى يتم هجره واعتباره خاويًا من المعنى أو القيمة أو البشر؟

يتردَّد لفظ المكان في الفيلم في عدَّة مواضع، فالحبيبُ يقول للبطلة حين توافق على الزواج منه: «نحن الآن في ذلك المكان، ذلك المكان الذي يجب أن نكون فيه سعداء»، وتقول البطلة لحبيبها: «لا أريد أن أكون في المكان المهجور، أريد أن أكون على قيد الحياة مع كلِّ ما أنا عليه، أو أريد أن أموت مع كلِّ ما لستُ عليه».

كما أن الأمكنة متعدِّدةٌ في الفيلم وتحملُ معانيَ خاصة، مثل «السرير» الذي يظهرُ مرَّةً بين الزوجين قبل الطلاق وهما في حالةِ حب، ثمَّ السرير وهي وحيدةٌ ومصابةٌ بالخيالات، بعد ذلك يظهرُ مرة أخرى في زواجها الثاني وهي تتساءل: «هل بوسعك أن تكون مخلصًا لشيءٍ واحدٍ تاركًا ما عداه خلف ظهرك؟» فيردُّ عليها بالإجابة التي لا يظهر أنَّها كانت مرحِّبة بسماعها: «لا أعرف.. نحن مخلوقاتٌ معقَّدة».

تظهر «غرفة المستشفى» أيضًا بوصفها مكانًا مثيرًا للألم، فهي محاطةٌ بجدرانٍ صامتةٍ بيضاء، ليس فيها ألوان ولا نوافذ، ولا يوجد فيها سوى الكرسيِّ الذي تجلس عليه، وتخادعها الممرَّضة لتُناولَها الحقنة المهدِّئة. تظهرُ هذه الغرفة في أوَّل الفيلم وآخره، والبطلة تندِّد فيها بذعر: «لستُ مجنونة، أريد أن أغادر».

كما أنّ «البيتَ» مكانٌ بارزٌ في الفيلم لإبراز تناقضات البطلة وتساؤلاتها، وتحدثُ فيه الانتقالات التي أدت إلى تغيُّر حياتها جذريًا مثل الطلاق، وكذلك طلب الزواج عن طريق حبيبها، وأيضًا رفضها لمواصلة الحياة معه بعد أن تزوَّجته. في هذه الحال يمكن التكهُّن بأنَّ المكان المهجور هو «الحالة» التي لا تريد البطلة العودة إليها، فهي في كلِّ مفاصل الفيلم تؤكَّد أنَّ ما مرَّت به لا بدَّ من تجاوزه، ولا يمكنها مسامحته ولا استعادة الحياة فيه من جديد. نحن إذًا أمام مكانٍ في الذاكرة يشبه السلك المكشوف، لكنَّ البطولة تكمن في تغطيته وإبعاده حتى يصبح نسيًا مَنسيًا.

ننتهي بالحديث عن أنَّ الفيلم - على بساطته الظاهرة - قد وظَّف الرموز والمعاني الضمنيَّة لإيصال رسالته، والتي استحقتْ إعادة مشاهدة الفيلم من أجل استقرائها وتحليلها. تتجلَّى تلك المعاني من خلال الألوان التي ركَّز فيها الفيلم على انتقائيَّة الأبيض والرمادي، ومن خلال الأيقونات المستقرَّة في الوجدان الجمعي مثل التفاحة وكأس الحليب، كما جسَّد حالةً اضطرابيَّةً بكافَّة محاورها بما يتَّسق وأحداث القصَّة، ودون تكلُّفٍ أو إقحام. 

مشهد قضم التفاحة 

صورة تحتوي على داخلي, حائط, فستان الزفاف, نافذة أو شباك  تم إنشاء الوصف تلقائياً

بطلة الفيلم في لحظة تأمل

صورة تحتوي على شخص, تلبيس, الوجه الإنساني, صورة  تم إنشاء الوصف تلقائياً

المخرجة جيجي حزيمة

*باحثة دكتوراه في تحليل الخطاب السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى