بعد مضي أسبوعين حافِلَين ببريقِ الأجواءِ الاحتفالية، على ضفافِ مدينة الليدو المنبسطة على مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث تلألأت السجادة الحمراء بنجوم الفن السابع، وحضرَ فنانون لامعون من هوليوود والعالم العربي، إلى جانب آخرين من مختلف أنحاء العالم، ها هي أضواء الليدو المتلألئة تُوقِّع الفصل الأخير من هذا المحفل، لتُعلِن بخفوتِها ختامَ دورةٍ فريدةٍ وفارقةٍ في تاريخ هذا المهرجان العريق.
في قلب هذه الأجواء الاحتفالية المهيبة، تعالت الهتافات الداعمة لغزة، واحتدمَت المواقف والآراء السياسية بين أفلام المسابقة الرئيسية. وكان فيلمُ «صوت هند رجب» الأكثر وقعًا والأعلى صوتًا من بين جميع أفلام المسابقة. ومنذ الاحتجاجات الأولى، التي سبقت المهرجان وكانت من تنظيم مجموعة من المخرجين الإيطاليين دعمًا للقضية الفلسطينية، ظلَّت صور التضامن مع غزَّة حاضرةً خلال فعاليات المهرجان، ولم تغفل عدسات الصحافة عن التقاط صور وملامح هذا الاحتجاج الذي عبَّر عنه عدد من الفنانين والمخرجين العالميين كلٌّ بطريقته الخاصة.
فلسطين و«صوت هند رجب» في الواجهة
بعد سلسلة من التتويجات العالمية الكبيرة التي حصدتها بأفلامها الوثائقية الآسرة، والتي جاء في مقدمتها فوز فيلمها «بنات أولفة» بجائزة سيزار إلى جانب جائزة العين الذهبية من مهرجان كان السينمائي، ها هي كوثر بن هنية تعود من جديد لتطل من منصة أعرق مهرجان سينمائي، بفيلم يحمل قضية تتجاوز الفيلم نفسه، ليمتد صداها إلى كل أنحاء العالم، ويصبح فيلم «صوت هند رجب» أحد أبرز الأفلام المرتقبة لهذا العام، وهو فيلم قال عنه رئيس المهرجان أنه سيكون فيلمًا شديدَ الوقع على المشاهدين.
ورغم أن حضورَ الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية كان سابقًا للمهرجان، من خلال احتجاج عدد من الإيطاليين العاملين في قطاع السينما، مطالبين إدارة المهرجان بإدانة الإبادة الجماعية في غزة، إلا أن عرض فيلم «صوت هند رجب» كان الحدث الاحتجاجي الأكبر المرتبط بالقضية الفلسطينية في تاريخ المهرجان، بل وفي تاريخ السينما كله. فقد احتشدت قاعات العرض بالمتفرجين، وبدت صور التأثر والانفعال على الجميع، بشهادة كل من كان حاضرًا، وامتد التصفيق إلى حد قياسي من الدقائق تجاوز الـ22 دقيقة، ليكون بذلك أكثر الأفلام نيلًا للتصفيق في تاريخ المهرجان.
ولا عجب أن يكون للفيلم هذا الأثر الكبير على المشاهدين، فقد واجه صناع الفيلم بحد ذاتهم موجات من التأثر ونوبات من البكاء خلال مراحل إنجازِهم للفيلم. ولأن الفيلم يروي من خلال هند رجب قصة عشرات الآلاف من الأطفال الذين عاشوا واقعًا مأساويًا أشد بشاعة، وقضوا نحبهم خلال هذه الإبادة الممنهجة في حق شعب أعزل.
وعن الفيلم تصرِّح المخرجة في لقاءات صحفية قائلة: «صوت هند هو صوت غزة، هذا الصوت الذي ظل يلازمني، منذ استماعي إليه لأول مرة، حين كنت أستعد لإنجاز فيلم آخر، فشعرت أنه عليَّ التوقف عن كل شيء لأروي قصة هند»، مشيرة إلى أن صنع الفيلم كان ضرورة ملحة لأنه يرسخ الحقائق القابلة للنسيان في ذاكرة الأجيال. ولأن هذه مسؤولية كبيرة يحملها كل فنان، مسؤولية أن يقف ضد النسيان، وأن يخلق ذاكرة جمعية، ترى الإنسانية ذاتها من خلالها وتتأمل عواقب أفعالها، كي تضع حدا لهذه المأساة وتحُول دون تكرارها.
من خلال فيلمها، قدَّمت كوثر بن هنية إلى العالم صوتَ إستغاثةٍ، ليس لهند فحسب، بل لأطفال غزة كلهم، موجه للعالم أجمع. لكنه صوتٌ لا يُجاب إلا بعد فوات الأوان، ليصبح وزرًا كبيرًا تتحمل ثقله البشرية جمعاء، أو كما قالت: «صوت هند هو صوت غزة تستغيث.. ولا أحد يُجيب!».
لقد حظي الفيلم بدعم فنانين من هوليوود، ممن نشأوا على صوت هذه السردية الإسرائيلية، التي ظلت لزمن طويل أمرًا مسلما به، في أروقة هذه الاستوديوهات الكبيرة المتسيّدة للصناعة السينمائية الأمريكية. فها نحن نشهد، من خلال هذا الدعم الذي أبداه نجوم هوليوود، انقلابًا للسّحر على الساحر، وسقوطًا للقناع الذي طالما برَّر أبشع الجرائم الإنسانية.
وإلى جانب هذا الفيلم المؤثر، تنوعت عروضُ الأفلام التي نقلت معاناة الشعب الفلسطيني، من بينها الفيلم الوثائقي السويسري «من لا يزال حيًّا» للمخرج نيكولا واديموف، في قسم "أيام المؤلفين" (Giornate degli Autori)، الذي يحكي قصة تسعة ناجين من غزة ذوي خلفيات فنية متعددة، يستعيدون ما عاشوه من مأساة داخل القطاع، في لحظات سرد شفيفة تجمع بين التوثيق الحميمي والرمزية الفنية. إضافة إلى عرض الفيلم الفلسطيني «مهدد بالانقراض» (Coyotes) في قسم آفاق (Orizzonti)، للمخرج سعيد زاغة، ليصبح بذلك أول فيلمٍ فلسطيني قصيرٍ يشارك في منافسات هذا القسم.
وبهذا أظهرت دورة البندقية لهذا العام تعبئةً جماهيريةً غير مسبوقة، إلى جانب الاحتجاجات والعروض السينمائية واللقاءات، التي عكست أهمية السينما ودورها الكبير في أن تكون صوتًا بليغًا مناهضًا لكل أشكال القمع والإبادة، ومنبرًا يدعو لتحقيق السلام ونبذ العنف وإحداث التغيير.
أفلام عربية تحصد الجوائز
شهدت الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي، مشاركةً عربيةً متميِّزة، تجلت في هذا الحضور المتنوع للأفلام التي تناولت عددا من القضايا والقصص العربية الأصيلة، والتي تُوِّج عدد كبير منها بجوائزَ مرموقة، انطلاقًا من فيلم «صوت هند رجب» المرشح للأسد الذهبي، مرورًا بفيلم «هجرة» و«شارع مالقة» المشاركين في قسم "سبوتلايت"، وصولًا إلى الأفلام العربية الحاضرة خارج المسابقات الرسمية، مثل مشاركة كل من فيلم «رقية» للمخرج الجزائري يانيس كوسيم و«ملكة القطن» للسودانية سوزانا ميرغني ضمن أسبوع النقاد، إلى جانب الحضور العربي المتميز في برامج دعم الصناعة السينمائية في مراحل ما قبل الإنتاج.
في عرضه العالمي الأول، تألق فيلم «هجرة» للمخرجة السعودية شهد أمين بين نخبة من الأعمال الآسيوية اللافتة، ونجح في الظفر بجائزة نيتباك (NETPAC) لأفضل فيلمٍ آسيويٍّ، في تتويج هو الأول من نوعه لفيلمٍ سعوديٍّ في مهرجان البندقية السينمائي العريق. فبعد مضي ست سنوات على نيلها جائزة "فيرونا" عن فيلمها «سيدة البحر»، تعود شهد إلى نفس المهرجان بخطى ثابتة وبطرح مختلف عما عودتنا عليه من أسلوب فانتازي رمزي محتشد بالاستعارات، لتنقلنا هذه المرة إلى أسلوب آخر أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية، مستمدًا شعريته وسحره منها ومن شعيرة الحج العظيمة، لتأسر به المشاهدين والنقاد على حد سواء، وتظفر بجائزة أخرى، ترقى بفيلمها إلى منزلة أفضل فيلم آسيوي، من بين الأفلام المشاركة.
جمعت شهد في فيلمها بين القصة الزاخرة بالكثافة السردية والمعنى، التي تلتقي فيها الأزمنة وتتصادم فيها ثلاثة أجيال من النساء، وبين المناظر الطبيعية الآسرة، ليصبح فيلمها بمثابة توثيق خلاب للثقافة المحلية والطبيعة الساحرة في المملكة، مستكشفة بعدستها الآسرة طرق الحج القديمة ما بين الشمال والجنوب، متنقلة من تبوك إلى الطائف إلى جدة وغيرها من المناطق السعودية.
أما «صوت هند رجب» فقد فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في المهرجان (جائزة الأسد الفضي)، ويعتبر هذا التتويجُ انتصارًا كبيرًا تحقِّقه كوثر بن هنية، سواء على صعيد مسيرتها الفنية أو على صعيد هذه القضية العادلة، إذ سيكون هذا الانتصار أكبر تقويض لسردية لطالما سعى المستعمر إلى ترسيخها، وإعلاءا لصوت غزة والمستضعفين فيها. ولن يقتصر صوت هند بعد هذه الجائزة على مهرجان البندقية فحسب، بل سيصدَح في كل مهرجان وكل محفل قادم.
بدورها، نالت المغربية مريم التُوزاني جائزةَ الجمهور في قسم "سبوتلايت"، عن فيلمها «شارع مالقا»، الذي يروي قصة ماريا الإسبانية، وهي امرأة سبعينية تعيش في طنجة حياة هادئة، إلى أن تقرر ابنتها القادمة من مدريد بيع البيت. وبينما تسعى ماريا للحفاظ على منزلها، تتكشّف لها معان للحب والحياة كانت غائبة عنها. وقد أفصحت مريم أثناء استلامها للجائزة عن حزنها لما يحدث في غزة، وأشادت بهذه الدورة التي أبرزت تضامنًا إنسانيًا عميقًا، معبرةً عن فخرها بالمشاركة فيها.
وقد حظي عدد من الأفلام العربية بجوائز متفرقة من برنامج ما بعد الإنتاج "Final Cut awards"، حيث نالت المخرجة اليمنية سارة إسحاق خمس جوائز من البرنامج عن فليمها «المحطة» بما في ذلك جائزة أفضل فيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج، وهو فيلم يحكي قصة لَيَال، المرأة اليمنية التي تدير محطة وقود مخصصة للنساء، متحدية بذلك القيود الاجتماعية والأعراف، في مدينة أنهكتها الحرب، ومقدمة بذلك صورة آسرة للمرأة اليمنية القوية. وبالمثل، حظيت المخرجة اليمنية مريم الذبحاني بعدد من الجوائز، من ذات البرنامج، عن فيلمها «يلا نلعب عسكرة»، الذي يسلط الضوء على المسؤوليات الكبيرة التي تُلقَى على عاتق الأطفال حين يغيب مقدِّم الرعاية من حياتهم، فيصبحون هم المعيل للأسرة، في أزمنة الاضطراب وانعدام الأمن. كما فازت المخرجة المغربية هند بن ساري بجائزة صندوق البحر الأحمر في "فاينال كت" عن فيلمها «خارج المدرسة».
أما جائزة الجمهور من قسم "أيام البندقية"، والتي تُحدَّد استنادًا إلى تصويت المشاهدين في قاعة "سالا بيرلا"، عقب عروض أفلام المسابقة الرسمية، فقد آلت على نحو استثنائي إلى فيلمين معًا، إذ ظفر بها كل من «نجوم الأمل والألم» للمخرج اللبناني سيريل عريس، وفيلم «ذكرى» للمخرجة الأوكرانية فلادلينا ساندو. وقد تناول فيلم سيريل عريس قصة رومانسية-كوميدية، يتكشَّف من خلالها واقعُ البلد والصراعات المتعددة التي تواجهها لبنان.
مهرجان بطابع سياسي
وإلى جانب أصوات الاحتجاج المتعالية الداعمة لغزة، وما أحدثه فيلم «صوت هند رجب» من وقعٍ مدوي، فإن أفلامًا أخرى أضافت زخمًا لهذا الجدل السياسي القائم في أروقة المهرجان. فنجد على الواجهة مثلا فيلم «ساحر الكرملين» (The Wizard of the Kremlin)، الذي أعاد إلى النقاش الأوضاع السياسية الراهنة، إذ يروي قصة صعود الرئيس الروسي إلى السلطة. وهو فيلم يقول عنه مخرجه: «هو تأمل في السياسة الحديثة وفي ستائر الدخان التي تختبئ خلفها اليوم». وقد حظي الفيلم بعشر دقائق من التصفيق احتفاءً بهذه المعالجة الآسرة والقصة متعددة الأبعاد.
وقد شهدت المؤتمرات الصحفية جدلًا متجددًا حول مشاركة ممثلين داعمين لإسرائيل في أفلام لمخرجين كبار، وهو ما أعاد إلى الواجهة هذه العلاقة الجدلية بين الفنان وأدائه الفني من جهة، وخلفيته ومواقفِه السياسية من جهة أخرى.
كما نجد أيضًا فيلم لانثيموس «بوغونيا» (Bugonia) الذي أعاد إلى السطح النقاش القديم الذي يعكس قلق عصرنا المثقل بنظريات المؤامرة، وانعدام الثقة، وسطوة الخوارزميات. ومن خلال عوالمه العبثية المصقولة بذكاء، يسعى لانثيموس إلى أن يضعنا مجددًا في مواجهة أكبر مخاوفنا وهواجسنِا.
أفلامٌ تحصدُ الجوائزَ الكبرى
بعد دورة حافلة، لمعت خلالها الشاشات بالعروضٍ السينمائيَّة المميزة، التي بنت جسورًا وجدانية بين الجمهور وبين هذه الأعمال الفنية وقصصها الإنسانية، واحتدمت خلالها النقاشات السياسية، جاءت نتائج هذه المنافسة مختلفة عن كل التوقعات.
فقد ظفر جيم جارموش بجائزة الأسد الذهبي عن فيلمه «الأب الأم الأخت الأخ» (Father Mother Sister Brother)، وهو فيلم روائي كوميدي مكون من ثلاثة فصول، تتقاطع قصصها في نسقٍ واحدٍ يتمحور حول العلاقة التي تجمع بين الأبناء والآباء. ويقول عنه جيم جارموش: «إنه فيلم مضاد للحركة، بُني أسلوبه الدقيق والهادئ بعناية للسماحِ بتراكم التفاصيل».
وكانت جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج من نصيب بيني صفدي عن فيلم «آلة التحطيم» (The Smashing Machine) الذي منح فيه لدواين جونسون أفضل أدواره على الإطلاق، وهو فيلم يتناول قصة أخصائي في الفنون القتالية المختلطة وصراعه مع الإدمان. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فكانت من نصيب الفيلم الإيطالي «تحت الغيوم» (Below the Clouds) للمخرج جيانفرانكو روسي، وحازت الفرنسية فاليري دونزيلي إلى جانب غيليس مارشان على جائزة أفضل سيناريو عن فيلمِها «في العمل» (At work). وكانت جائزة البندقية لأفضل فيلم أول (جائزة أسد المستقبل) من نصيب فيلم «صيف قصير» (Short Summer) للمخرجة ناستيا كوركيا.
أما في قسم آفاق (Orizzonti)، فقد فاز فيلم «في الطريق» (On the road) للمخرج ديفيد بابلوس بجائزة أفضل فيلم في هذا القسم. كما فاز أنوبارنا روي عن فيلم «أغانِي الأشجار المنسية» (Songs of Forgotten Trees) بجائزة أفضل مخرج. ولم تتوقف التتويجات عند هذا الحد، ففي قسم الأفلام الكلاسيكية، فاز فيلم «ماتا هاري» (Mata Hari) للمخرجين جو بيتشينكوفسكي وجيمس سميث بجائزة أفضل فيلم وثائقي عن السينما، كما ظفر الفيلم الإيراني «باشو، الغريب الصغير» (Bashu, the Little Stranger - 1986) للمخرج بهرام بيزايي بجائزة أفضل فيلم مُرمَّم في قسم الكلاسيكيات.
كما منح الاتحاد الدولي لنقاد السينما جائزة أفضل فيلم في مهرجان البندقية 82 لفيلم «الصديق الصامت» (Silent Friend) لإيلديكو إينيدي. أما الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد فقد ظفر بها فيلم «الدائرة المستقيمة» (Straight Circle) لأوسكار هدسون.
وقد فاز الفيلم الوثائقي «إعادة تصوير» (2025 - Remake) لروس ماكلوي بجائزة الغولدن غلوب للتأثير في فئة الفيلم الوثائقي، وهي جائزة تقدمها مؤسسة Artemis Rising لتكريم الأعمال التي «تسلط الضوء على قضية اجتماعية رئيسية، تجمع في طريقة طرحها بين البراعة الصحفية والأسلوب الإبداعي». خلال الفيلم، تتبع الكاميرا العلاقة العاطفية بين المخرج ماكاوي وابنه أدريان، قبل رحيله، لتتحول فيما بعد إلى رحلة استكشاف متعددة الطبقات للذاكرة ولعملية صناعة الصور، في محاولةٍ لخلقِ جسرٍ نحو التشافي من خلال السرد القصصي الخالص.
وقالت عضوة لجنة التحكيم هلين هوين: «السينما الوثائقية هي إحدى أقوى الأدوات التي نملكُها لتسليط الضوء على الحقائق، وتضخيم الأصوات غير المسموعة، وإحداثِ تغييرٍ هادف. في غولدن غلوب، نؤمن بأن السينما لا تقتصر على البراعة الفنية فحسب، بل تتعلق أيضًا بالتأثير، وهذه الجائزة مكرَّسة لتكريم الأفلام التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية الملحة بشجاعة وإبداع».
مخرجون وفنانون يحظون بالتكريم عن مجمل أعمالهم
شهدت الدورة الثانية والثمانين لمهرجان البندقية السينمائي، تنوعًا ملحوظًا في الأفلام وفي المواضيع، وفي ثقل القضايا المطروحة أيضا. وقد حظي عدد من المخرجين والفنانين بالتكريم والتقدير على مجمل أعمالهم السينمائية.
فقد نال المخرج الألماني فيرنر هرتزوغ جائزة الأسد الذهبي للإنجاز مدى الحياة، وقد عبر هرتزوغ عن سعادته بالجائزة قائلا: «لطالما حاولت أن أكون جنديًا صالحًا للسينما، وهذه الجائزة تبدو بمثابة وسام شرفي لعملي». وقد امتدت مسيرته لتشمل ما يقارب الـ 70 فيلما، حافظ خلالها على أسلوب بارع لرواية القصص غير المعتادة، واعتُبر آخرَ ورثةِ التقليد الرومانسي الألماني الكبير، كما يقول ألبيرتو باربيرا.
إلى جانب هرتزوغ، حظيت الممثلة الأيقونية كيم نوفاك بجائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعمالها. وبرغم اعتزالها التمثيل، فقد خلَّدت حضورها في السينما عبر مجموعة من الأداءات الأيقونية التي ستبقى من أبرز ما سجلته ذاكرة السينما. ورغم تنوّع الأدوار التي جسَّدتها، ظلت صورتها الأكثر ارتباطًا بفيلم «دوار» لهيتشكوك.
وفي أجواء تسودها الحفاوة والإعجاب، تسلم المخرج جوليان شنايبل جائزة كارتييه «Glory to the Filmmaker» لعام 2025، وقد جاء هذا التكريم تقديرًا له على إسهاماته في السينما المعاصرة وأسلوبه المبتكر الذي يجمع بين الحس البصري والتجريب السينمائي ولمسته التشكيلية. وفي عرضه العالمي الأول، قدم فيلمه الأخير «بين يدي دانتي» (In the Hand of Dante)، وهو فيلم حافل يوظف فيه أسلوبه المتفرد الذي قال عنه مدير المهرجان: «كل فيلم من أفلامه هو عالم مستقل بذاته، ينبض بالحيوية والجمال، وينقب عن المعنى، مستعيرا من الفن التشكيلي لغةً حيةً، تُنقل عبرها الطاقة السردية»، حيث يستعين في فيلمه الأخير بمخطوطة "الكوميديا الإلهية" لدانتي ألغيري التي تنتقل بين يد كاهن وزعيم مافيا في نيويورك، في رحلة رمزية تعكس مسيرة المخرج الفنية، ليقدم من خلالها سردًا ملحميًا محكمًا.
كما تسلم المخرج غاس فان سانت جائزة «كامباري للشغف بالسينما»، تقديرًا لإسهاماته في السينما الأميركية المستقلة، وقد حظي فيلمه «سلك الرجل الميت» (Dead Man’s Wire) بعرض عالمي أول خارج المسابقة الرسمية.
ختاما، فإن مهرجانُ البندقية السينمائي قد أسدل، هذا العام، الستارَ على دورةٍ فريدةٍ وفارقةٍ في تاريخه، وسطَ أجواءٍ احتفاليةٍ حملت في طياتها الكثير من المفاجآت، وأحيَت قضايا ونقاشات سياسية كثيرة. دورةٌ أعادت بأفلامها وبروح التضامن التي انبثقت منها تجاه القضايا العادلة، إلى المهرجانات قوّتها وإلى السينما تأثيرها الكبير في وجدان البشرية، مجدِّدةً ومؤكدةً قدرتها على التغيير وتقويض سرديّة المعتدي.