جيرزي سكوليموفسيكي: عن الحرية المطلقة في صنع EO، والحكايات الإنجيلية، وتأثير روبير بريسون

في الرابعة والثمانين من العمر، يقدم المخرج البولندي جيرزي سكوليموفسكي واحدا من أكثر أفلام العام حيويةً ونبضًا بالحياة، مستلهما رائعة بريسون الكلاسيكية «حمار بلتازار» (1966 Au Hasard Balthazar)، ولكن يأخذ هذه الفكرة إلى آفاق مبهرة جديدة، و «إيو أو» (2022 EO) يحكي لنا عن رحلة حمار يعبر أصقاع أوروبا. ويلخص عبر مشاهد قصيرة تسلب اللب التجربةَ البشرية (والحيوانية) برمتها.

لقد حظيت بشرف اللقاء بسكوليموفسكي وشريكته في الكتابة ومنتجة أفلامه وزوجته إيفا بايسكوفسكا، وذلك للحديث حول الحرية المطلقة التي ألفياها في صناعة «إيو أو»، وعن تأثير بريسون، وتركِ مساحة لخيال الجمهور، وكذلك عن الرمز المسيحي في الفيلم.

المحاور: ثمة إحساس يُخالج المتلقي بوجود حرية مطلقة في وجهة الرحلة التي يرويها الفيلم، هلّا حدثتنا عن تطوير بنية الفيلم؟

جيرزي سكوليموفسكي: في حقيقة الأمر، لقد تمتعنا بحرية مطلقة في بناء الفيلم، وكما لاحظتَ فإن الفيلم لم يُصنع وفق القواعد العامة لصناعة الأفلام المتمثلة في السرد الخطي ونموذج الأطوار الثلاثة. هذه الوسائل الأسلوبية هي ما يتبعه كتاب السيناريو والمخرجون عادة، حيث إن جميع الأفلام تقريبًا تصنع وفقا لهذه الطرق. قبل «إيو أو» صنعت مع إيفا ثلاثة أفلام وهي «أربع ليال برفقة آنّا» (2008 Four Nights with Anna) و«القتل الحتمي» (2010 Essential Killing) و «11 دقيقة»          (2015- 11 Minutes) وبدأنا بالفعل في فيلم «11 دقيقة» بالنأي بعيدًا عن السرد الخطي. وإن لم تكلل مساعينا بالنجاح التام، إلا أننا على الأقل قد خطونا خطوة أولى في هذا الاتجاه. وإيغالًا أكثر في هذه الفكرة، قررنا أنه لو استعملنا حيوانا كشخصية رئيسية في الفيلم، ولو صوّرنا القصة وهي تدور حول هذا الحيوان ومن خلال ما يراه، فإن هذا الأمر سيمنحنا الحرية المنشودة؛ لأننا سنتمكن لاحقا من استخدام هذه الصور بوسيلة معينة توحي بأنها هي بالفعل ما يراه الحيوان..

إيفا بايسكوفسكا: أو يتخيله، أو يحلم به.

ج س: ليس ثمة حاجة لسرد حكاية من الألف إلى الياء. فكرنا في أن نتعامل مع القصص القصيرة التي في الفيلم على أنها مقالات قصيرة، ومضات. وقررنا تبسيط هذه القصص إلى أقصى حد ممكن، فيكون هدفها أن تلّمح وحسب بما يحدث، فتُرى مشاهد الحيوان على شكل شظايا، باستخدام لقطات وجهة نظره، لهذا السبب لا يكون السرد في الفيلم اعتياديًا خطيًا.

إ ب: إن اتباع نموذج الأطوار الثلاثة عملية آلية. في الأساس، عليك أن تتبع نوعًا ما هذه القواعد. وهي قواعد لا بأس بها، إذ تُوجد العديد من الأفلام المدهشة التي صُنعت وفقًا لهذه القواعد. لكن بالنسبة لنا، فإن تجربة شيء جديد أنار عقولنا إلى جوانب وآفاق مختلفة. عليك أن تفكر في القصة أو الشخصيات أو طريقة السرد بطريقة تحفز مخيلتك للولوج إلى أماكن جديدة، وهذا ما كنا نبحث عنه.

أعتقد أن جزءا من التعاطف النفسي مع الشخصية مردّه إلى تقنيات الكاميرا التي جرى استخدامها، ولكن يكون سببه أحيانًا إلى ردة فعل الجمهور. الفيلم ذو حوارات متقشفة، ولقد تركتم مساحة للجمهور للتفكر في حيواتهم أثناء المُشاهدة. هل كان هذا هدفًا رئيسًا؟

ج س:  أجل، تركنا عن عمد مساحة للجمهور، لخيالهم وقدرتهم على التواصل مع تفاصيل معينة. وكي نترك المتلقي يتابع القصة بطريقته الخاصة. ولأن المقالات القصيرة بطبيعتها مبتذلة- وليس في قصص الفيلم استثناءً- لهذا لا نشاهد قصصا كبيرة، واحدةً عن الغيرة وأخرى عن جريمة قتل وهكذا. وهذه القصص يسهل على الجمهور فك رموزها باستخدام مخليتهم. ولهذا وضعنا كل جهدنا على الجوانب البصرية والصوتية للفيلم، خصوصًا على الموسيقى التي ألفها (بافل ميكيتن) الذي سبق أن عملت معه في ثلاثة أفلام.
إنه مؤلف موسيقى كلاسيكية عظيم، تُعزف سيمفونياته في جميع أنحاء العالم، لكنه كان متحمسًا للعمل على موسيقى الفيلم. ولم يعتبر العمل في الفيلم منزلة أدنى، بل لقد استنفذ موهبته وإحساسه إلى أقصاهما. وكان توجيهي الأساسي له أنه متى ما وجدتَ اللحظة المناسبة لاستخدام موسيقاك كي تكون حديثًا داخليا للحمار، فإن هذا ما أريده منك حقًا. ولقد قام بالفعل بعمل جبار ومذهل، وبين فترة وفترة كانت الموسيقى تعبر صدقًا عما يدور في رأس الحمار.

إ ب: وكذلك الأمر بالنسبة للتعاطف، أعتقد أن (بافل) هو المسؤول الأول عن هذا الجانب الميتافيزيقي في القصة.

بالحديث عن الجوانب البصرية، أعلم بأنك عملت مع ثلاثة مصورين سينمائيين، وأعطيتَهم كذلك حرية مطلقة. وكأني بك تقول لهم، صوروا أيًا ما ترونه وتجاوزوا الحدود. بالنسبة لبعض اللقطات، مثل لقطة عين الطير، إلى أي حد كانت عفوية، أم خُطط لها؟ لأنه يبدو بأنك اخترعتَ لغة سينمائية جديدة بالطرق التي استخدمتَ بها الكاميرا.

ج س: بعض اللقطات والمشاهد كُتبت بحذافيرها في السيناريو، مثل الرحلة الليلية إلى الغابة، وكل التفاصيل والحيوانات الظاهرة في المشهد اُختيرت بدقة. العنكبوت والثعلب والضفدع. هذا المشهد نُفذ بعناية وخُطط له جيدًا، بالتنسيق طبعا مع المصور السينمائي في كيفية تصوير المشهد. وكان هذا المشهد بحق الأكثر صعوبة على الجميع، وحتى على الحمار، وقد كان المشهد الأطول في الفيلم، حيث قضينا ما يزيد على 30 ساعة من العمل في محاولة تصويره، وخشينا أن يلحق التعب بالحمار. إلا أنه وكما تعلم فإننا استخدمنا أكثر من حمار في تصوير الفيلم، وفي هذا المشهد بالتحديد حمارين، ذكر وأنثى.
إ ب: كان هناك أيضا لقطات عفوية، إذ نلتقط ما نجده أمامنا في موقع التصوير، لأن الحمير كائنات لا يمكن توقع أفعالها، لذا عليك أن تكون مستعدًا لتصويرِ كل ما يحدث أمامك، وأسرِ هذه المعجزات الصغيرة على الشاشة. وهذه كانت جزئية مهمة في عملية التصوير: أن تكون مستعدا ومُحيطًا بكل جزء من موقع التصوير، كي تتحصل على الحرية قدر الإمكان لتصوير أيًا ما يحتاجه الحيوان.

ج س: لهذا -سواء أكنا مُعدين للقطة أم سنصنع تصحيحات عليها- يكون الجميع على أهبة الاستعداد في انتظار إشارةٍ إلى وجود شيء مميز يحدث مع الحمار، وبعد تلك الإشارة يتركون ما كانوا منشغلين به ويصبون جام تركيزهم على الحمار. وهذا تكنيك آخر استخدمناه في عملنا.

عندما أُعلن عن المشروع أول مرة، ظن الجميع أنه إعادة صنع لفيلم بريسون، لكنك بجلاء قدمتَ شيئا مُغايرًا وجديدًا كليًا، وذلك بأخذ فكرة أولية ووضع بصمتك الخاصة عليها. أذكر أنك قلت إن Au Hasard Balthazar أبكاك بعدما انتهيت من مشاهدته، فماذا في أفلام بريسون يأسر وجدانك؟

ج س: حسنًا، دموعي التي ذرفتها بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم بريسون كانت غير متوقعة بالمرة، ومفاجئة حقًا. شاهدتُ الفيلم سنةَ عرضه 1966، كنت مخرجًا شابًا، تخرجتُ للتو من الجامعة، وصنعت فيلمي الأول «انتصار سهل» (1965 Walkover) في ذلك الوقت. وكنت كلما أذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم، تعلو وجهي نظرة ساخرة، وكان تركيزي على (مراحل صناعة الفيلم) أكثر من الفيلم نفسه. كيف يُصنع؟ لماذا صُورت اللقطة من هذه الزاوية وليست تلك؟ لماذا تستخدم لقطة تتبع؟ وكل هذه التفاصيل الأسلوبية الصغيرة. ولم أدع للمزاج -الذي يحاول المخرجون إشعار المتلقي به- أن يؤثر بي. ثم شاهدتُ بريسون، الذي معه فقط أنسى تمامًا أنني داخل السينما، وأنني أشاهد فيلمًا، وأترك التفاصيل التي تشغلني عادة بتتبع الأساليب والتقنيات.

لقد أعادني بيرسون مشاهدًا عاديًا، متلقيًا عاديًا، ما أثّر بي أشد التأثير حد البكاء. وهذا هو الدرس الذي استفدته من بريسون، وهو أنك قد تتأثر بسبب شخصية حيوان أكثر مما تتأثر من أداء ممثل محترف ومتكامل؛ لأننا نعلم في نقطة بعيدة من عقولنا أن الممثل يمثل، وأنه بعد أن يقول المخرج cut، يخرج لاحتساء كأس، أو يلقي نكتة مع أصدقائه. أما الحيوان فهو لا يعلم عن التمثيل شيئًا، فهو يكون موجودًا فحسب مما يجعله أجدر بالثقة، وبالتالي يكون تأثيره على المتلقين أكبر.

بالطبع «إيو أو» ليس إعادة إنتاج لفيلم بريسون، هو تحيةُ إجلال أو شيء من هذا القبيل. لكنهما فيلمان مختلفان تمامًا. ففيلم بريسون بالأبيض والأسود، وعدسة واحدة وهي 50mm. كما أن بريسون لا يستخدم إلا الهواة مثل (آن ويزمسكي) حينها. أما فيلمي فهو طافح بالألوان، والكاميرا تتحرك دائمًا، والعدسات مختلفة. وكذا الأمر بالنسبة للتحرير الذي قامت به (آغنيزكا غلينسكا) التي أدين لها بالكثير بسبب أفكارها المتميزة وإحساسها الرائع بإيقاع الفيلم. لقد حظيت في هذا الفيلم بتعاونات مدهشة، بدءًا من (إيفا) التي كتبت الجزء الأكبر من الفيلم. مرورًا بالمصورين والمؤلف الموسيقي. وأيضًا الكثير من الناس الذين ساعدوني بإسهاماتهم في إنتاج هذا الفيلم. لم أحظ بهذه التعاونات المفيدة من قبل. وهذا الفيلم أكثر من غيره هو نتاج عمل جماعي.

الشيء الأكيد الذي يتقاطع فيه الفيلم مع فيلم بريسون هو ذلك الحس الروحاني، والرحلة الروحية إلى الموت في الرمزية المسيحية. يتعلم البشر الكثير عن أنفسهم بمجرد التفاعل مع ما يحدث أمامهم. هل كانت هذه الروحانية والرحلة الرمزية نقطة نقاش مهمة لديكم؟

إ ب: لطالما نظرنا إليه باعتباره رمزًا.

ج س: بل إننا شعرنا على الدوام أننا نقص قصة إنجيلية. ربما لكثرة وجود شخصية الحمار في الأدبيات القديمة؛ بدءا من أوفيد وأبوليوس والعديد من الكتاب لاحقًا، وعلى وجه الخصوص خوان رامون خيمينيث الحائز على جائزة نوبل 1956، حيث كان كتابه (أنا وحماري) ذا إلهام كبير لبعض التفاصيل الواردة في الفيلم.

إ ب: أظن كذلك أن هذا الشعور يتعلق بالحيوان ذاته، وخصوصًا الحمار، هذا الكائن البريء بطبعه، والذي لم يقم بأي ضرر في حياته كاملة. إنه واضح وبريء بفطرته. وهذه البراءة كانت عنصرًا جوهريًا حملنا على الشعور برمزية الفيلم الإنجيلية.

جيرزي، أحب هذا الاقتباس لك: «أعتقد أن خطيئة المخرج الأخلاقية هي أن يصيب جمهوره بالضجر». «إيو أو» فيلم ينبض حيوية وحياةً ويوحي بأنه نظرة جريئة لمخرج يخطو خطواته الأولى. بماذا تنصح المخرجين لكي يقاربوا هذا الحس من الحرية؟

ج س: نصيحتي العامة والأولى للمخرجين الشباب هي: حاولوا أن تخبرونا عن شيء مررتم به شخصيًا، شيء أثر بكم عاطفيًا. عندها، حين تعبرون عن مشاعر قوية كالغصب والغيرة والحسد أو الحب الخ.. يكون هذا التعبير نابعًا عن تجربتكم الخاصة. وبالطبع لا يستدعي الأمر أن تحاكوا التجربة بحرفيتها وواقعيتها، بإمكانكم أن تموّهوا بطريقة استعارية. إذن، اعلمْ ما الذي تتحدث عنه، جرّبه، ثم استعره. ولكن لا تجعله يبدو كيوميات شخصية، إنما كقصة خيالية.

إ ب: لدي اقتباس مدهش آخر لجيرزي: «السينما ٢٤ كذبة في الثانية الواحدة». أعتقد هذا من أجمل الأشياء على الإطلاق.

إذن، استمر في الكذب.

ج س: شكرًا لك، سأفعل [يضحك].

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى