جيفري دامر: طفولةٌ فَزِعة تخرجُ من وكرها

October 17, 2022

ما من مثيرٍ للعجب أن يتصدر عمل مثل «جيفري دامر» قائمة الأعمال الأكثر رواجًا وإقبالاً للجماهير، والذي تختار نيتفليكس إصداره في شهر أكتوبر، شهر الهالوين، بهذا الوجه المهيب والغلاف الذي لا يمكن أن نتجنّب وخزات الرعبِ فيه، ثمّ العنوان الرنّان لجيفري دامر (الوحش)، والذي نتتبع -في سرديّة تفصيلية- خطوات تكوّنه؛ فلا شيء يتفوق على قصصِ القتلة المتسلسلين في الجذبِ والرواج، حيث كل بواعث الإثارة والترقّب تُحاك في نسيجٍ لا ينقطع، فهي تولّد الغموض حول أبطالها، وتنثر مئات الأسئلة التي ليس في وسع سياقاتها أن تجيب عنها. وقصة جيفري دامر لا تقدم استثناءً عن ذلك، إنها ترنيمة شيطانية لا تهدأ، فهي تخنق متابعيها ببطئٍ شديد بحبلٍ من العنف المفزع، الذي ينتج عن تركيبة ذهنية مستغرقة في شرّها، والتي لا نستطيع حتى الجزم بعناصرها.

تُفصّل الحكاية على عشر حلقات، ملتقطةً كل جانب ضيّق من جوانبها، فهي تحاول ألا تُفلت خيطًا من خيوطها، وتريدنا أن نُلمّ بكل أحجياتها الصغيرة حتى تبدو لنا قطعة قصصية واحدة. فنشاهد حلقةً عن الضحايا، أو ضحيةٍ بعينها، وأخرى عن تلك الجارة، وأخرى عن الأب، وأخرى تحفر في مترع الطفولة عن أحداث وومضات ربما نُفخت في حضرتها تلك الروح الفاسدة، فسمّمت حياة حاملها، وحيواتٍ أُخر.

ورغم ذلك، تحتفظ الحكاية بهدوئها الشديد، وتتأنى في تصويرها الجريمة الواحدة عند حدوثها، فهي تعمد إلى صناعة الإثارة في رعبٍ داخليٍّ متصاعد، آتٍ من تلك التفصيلات المروعة، فنحن نتعرف على «دامر» القاتل منذ أولى الحلقات، دون أن تغزونا بفجائيةٍ غير لازمة، لقصةٍ حدث وأن انتشرت وجرت تغطيتها والإلمام بأسرارها إعلاميًا في ذلك الوقت. وعوضًا عن ذلك تنهج كتابة العمل الولوج المتفحص إلى ذلك الجانبِ غير الممسوس من القصة، فهي تريد أن تضع يدها على أسباب مُحققة، وأن تعرّي التباساتٍ زمانية ومكانية لا يمكن لها أن تنكشف بسهولة. 

«الأم الغامضة والمزاجية تعقِلُ طفلها فتجعل من الصعب عليه بلورة تماسكه، فهي حين تكون قليلة الاهتمام أو غير متفرغة، تدفع بسلوكها ذاك إلى الإغراق في الاضطراب» - دافيد لوبرتون. 

يعيش «دامر» الطفل في منزل لا تخلو منه المشكلات، وما بين سنديان أمه الساخطة ومطرقة والده الغائب، يتشكل هو ويكبر في ظلالٍ معتمة، تحفر بمهلٍ وكرها في دواخله، فنرى تلك المشاهد المؤثرة له وهو ابن السادسة أو السابعة من عمره، حين يراقب من خلف الجدر والأبواب من يسميهما أبويه، في حالةٍ من الشجار والهيجان المتواصل. وحتى عندما يكبر جيف، يحاول اقتحام ذلك المشهد الذي لم يكن ليفهمه طفلاً، لكنه يجد ذات الطرد والإبعاد يُلقيان بهِ خارج دائرة الفهم؛ ليخرج من مخبئه نحو الخارج الذي سيخطو إليه وحيدًا سوى من إدراكه المشوّه.

يُشفق الأب على طفله الذي ينظر إليه كما لو أنه قد عثر عليه بمحض الصدفة، وشيئًا فشيئًا يحاول تعليمه تشريح أجساد الحيوانات النافقة، بغية أن يجد في داخل ابنه ولعًا تجاه شيءٍ ما، تُعقد صفقة بينهما على أخذ الحيوانات التي تُدهس في الطريق، وتشريحها وتحنيطها، حتى تشكّل هذه الممارسة عملًا روتينيًا عائليًا، فهي الرابطة الوحيدة مع أبٍ ينعدم حضوره، وهي الوسيلة الوحيدة لاستعارة انتباهته والتي لم تكن لتُلقى نحوه في الصبا أو الطفولة. تصبح رابطة جثث المخلوقاتِ الميتة، هي لغة تواصلٍ بديلة، حتى يجد جيفري نفسه عاجزًا عن التواصل الإنسانيّ مع الآخر، فهو فرانكنشتاين العصر الحديث، يريد أن يجمع أوصالًا مقطعة لا لغرضِ إحياء كائنٍ جديد، بل كائنٍ ميّتٍ مستغرقٍ في ميتةٍ لا يمكن الاستفاقة منها، إنها طريقته الذاتية للتحكم فيما كان قد خرج قبلًا عن سيطرته.

تلك هي شخصية جيفري دامر التي شاهدناها تنمو كنباتٍ نضرٍ في تربةٍ تالفة، ولكن تلقت هذه الإعادة لسرد الأحداث ومحاكاتها، امتعاض بعض عائلات الضحايا، فإما أن ما حدث شديد التضليل أو شديد التهميش لتفصيلاتٍ أشدّ ترويعًا مما عُرض، وهي تشير إلى منصة نيتفليكس بأصابع الاستغلالِ والتدليس، لإعادتها تمثيل حياة جيفري القاتل الذي لا يستحقّ أن تُبنى خلف قصته المبررات، بل أن تُنسى وتنمحي ببساطة، فقد صرّح أحد أقرباء ضحايا دامر عن هذا العمل قائلًا: «أنا لا أملي على أحد ما يجب أن يشاهده، ولكن إذا كنت تهتم بالضحايا حقًا، فإنّ عائلتي غاضبة من هذا العرض».  

عُولجت قصة هذا العرض سينمائيًا عددًا من المرّات، في عام 2002 بعرض فيلم Dahmer والذي لعب فيه الممثل الأمريكي (جيرمي رينر) دور جيفري دامر، وأيضًا في عام 1993 بفيلم The Secret Life: Jeffrey Dahmer، وفي عام 2006 بفيلم Raising Jeffrey Dahmer، وكذلك في عام 2017 بفيلم My Friend Dahmer؛ ولكن ما يجعل المعالجة السينمائية تنهزم أمام العرض المتسلسل للقصة هو الزمن الذي لن يتيح -سينمائيًا- إلا المعرفة الظاهرية للأحداث دون التغلغل في أبعادها الجادة، ولكن المسلسلات التلفزيونية قادرة حتى على زرع بذور التعاطف مع أشد السلوكيات وحشيةً وانحرافًا، عندما تزرع في المقابل دعائم فهمها، كما أنها تخلق المحيط الكامل الذي تسبح في رحابه الشخصيات دون أن تُبتلع ويحدث نسيانها، وتقدر بإمكاناتها أن تشدّ وثاق المُشاهد في تتابع الحلقات والتي دائمًا تعِدُه بالمزيد، فهي ساحة لعب أكثر سعة، ولا حصر لأدواتها. 

«أقول لك بين الضجيجِ والروائح! هناك أمرٌ مريب». 

تميل دراما نيتفليكس إلى عرض القصة محصورةً في إطارات محددة، فهي تريد أن تلقننا أن «جيفري دامر» هو صنعة أبوَين مهمِلين، وهو حصاد البيئة الأمريكية الموغلة في العنصرية وجرائم الكراهية، وهي نتيجة حتمية لفساد منظومة الشرطة والتي لم تكن حتى لتضعه في موضع الشبهات، رغم بلاغات الجارة «غليندا كليفلاند» والتي تُفرد لها حلقة كاملة تحت عنوان: «كاسندرا»، في إشارة إلى الحالة النفسانية: عقدة كاساندرا «Cassandra Complex» وهي تطلق في وصف الفرد الذي يختبر التكذيب المستمر لتصوّراته عن حادثةٍ ما، ورفض تحذيراته رغم صحتها، وقد اُستعيرت من إحدى الأساطير الإغريقية وهي «كاساندرا» التي يهبها الإله «أبولو» القدرة على التنبؤ بالمستقبل ورؤيته، ثم بعد ذلك ينتقم منها بلعنةٍ تجعل نبوءاتِها غير مُصدّقة. فتكون الجارة «غليندا» هي الاستعارة الحديثة للأسطورة، التي تعيش ذلك التهميش المنظّم لبلاغاتها، فهي من ذووي البشرة السوداء، وهذا الانتقام الخاصّ للرجلِ الأبيض منها.

إن هذه الدراما الصفراء الحالكة، وإن بدت شديدة الخصوصية في جوهرها، إلا أنها عكست -وتعكس إلى اليوم- الوجه الحقيقيّ للتاريخ الأمريكي، ذلك الذي يحمل مسيرة حافلة بالفساد في كفة، ويرفع شعارات الحرية والعدالة والديموقراطية في كفّته الأخرى، في الحين الذي كانت تُهمش فيه مئات الأرواح المنتمية إلى مجموعات عرقية مختلفة وتُزهق تحت أقدام جسده المنتصب، والذي لم يحرّك ساكنًا أمام المشهد الأكثر عنفًا لدمائها تُهدر تحت وطأته.

من أجل القيام بالدور كان عليّ أن أذهب إلى أمكنةٍ مظلمة حقًا، وأن أبقى فيها لفترة طويلة من الزمن. كنت خائفًا جدًا من كل الأشياء التي قام بها، وكان الغوص في ذلك ومحاولة الالتزام به من أصعب الأشياء التي اضطررت لفعلها في حياتي؛ لأنني أردت بشدة أن تبدو أكثر أصالة - إيڤان بيترز مؤدي دور «دامر». 

يقدم إيڤان بيترز دوره بحذرٍ وتركيزٍ عاليين، تعينه في ذلك الالتقاطات المطوّلة لتحركاته وإيماءاته، مانحةً له ما يكفي من الوقت ليتشكّل كدامر، حتى تزداد إقناعًا في كل مرة، يجيد إيڤان تجسيد كل ذلك إلى الحد الذي نصبحُ فيه مرتبكين من أفعاله، فهو من خلف هيئته الوديعة وتقاسيمه الباردة وكلماته القليلة والمقتضبة، ولغة جسده المفرّغة من أي تعابير يمكن التقاطها، يخفي حياةً شديدة السرية من سلوكيات مروعة ومضطربة، تجعلنا تلك المعرفة الدقيقة والوثيقةِ به، أكثر توترًا بما سيحدث لضحاياه الذين نحلّ محلهم في التوجس والجهل بمآلٍ كارثيّ مُنتظر. وهي لا تنتظر منّا أن نبدي تعاطفًا بل أن نرى بشموليةٍ أكثر، كل ما يمكن أن يُعدّ ذريعة لوصول الفرد إلى هذه الشاكلة المتطرفة في ظلامها وتقززها الشديدين.

تنتهي رحلة جيفري دامر بصور الضحايا وأسمائهم وأعمارهم ظاهرةً في الشاشة السوداء لنهاية العرض، تتبقى التساؤلات المتراكمة معلقةً في خيوطِ القصة، فهل يمكن أن نعرف بالفعل ما الذي حدث، وكيف حدث، وما هي دوافعه، ومن أي بقعة مظلمة اشتعلت شرارة هذه الأحداث بشقيّها الدرامي والواقعي؟ إن التعاطي مع هذا النوع من الأعمال لا يجب أن يكون بذهنية متوجسة، فنحن أمام استعراض مصوّر لقصةٍ يسندها تاريخ طويل لا يمكن الإحاطة بكل قِطعه وتفريعه، فهي تُقدّم لنا انتهاءً في قالبٍ مُشذّب، لا ندري في أي جزءٍ سقط منه نجد مفتاح الفهم الأكيد، وليس علينا سوى أن نقبل تلك الإجابات اليقينية في بداهتها، وما تحمله من إيضاحات غير ملتبسة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى