في أحدث أفلامه يطرح مارتن ماكدونا -كاتب الفيلم ومخرجه- واحدة من أكثر المسائل جوهريةً في الوجود الإنساني، وهي مسألة أن تبقى. وأن تبقى هذه تعني أن تتجاوز الموت. قد نفضّل تسمية الأمر بالخلود. وكما هو معلوم فإن هذه الموضوعة مطروقة بكثرة. وبقدر ما نعلم، يقينيًّا، بأننا فانون فنحن نعلم أيضًا عن محاولاتنا في التغلب على هذا الفناء. أسلافنا الأقدمون حفروا رسومهم في الكهوف، وما زلنا نفعل فعلهم حتى اليوم بطرق شتى قد لا تدخل في تفاصيلها الأشكال والخطوط بالضرورة. إننا، بوصفنا بشرًا، وفي أعمق نقاط لاوعينا العمياء نرفض التسليم بالفناء. اتفاقُنا في هذه التفصيلة من وجودنا أقرب ما يكون إلى الإجماع. غير أن الاختلافات تكون في الطريقة، فبينما نمتلك نماذج من فنانين وعلماء وساسة يحاولون قلبَ الدنيا لتجاوز الموت والفناء، فكذلك نمتلك البسطاء الذين لا يريدون شيئًا إلا "السيرة العطِرة" بين ناسهم و"الآخرة". فكرة الآخرة بذاتها هي رفض صميمٌ ضد يقين الفناء؛ ومن هنا قيمته الوجودية كإيمان. لكن هذا موضوع آخر.
إذن، فلا جديد من حيث الموضوع. الجدة، كما كلُّ فن أصيل، تكمن في الأسلوب، في طريقة التناول. وحيث أننا بإزاء صانع أفلام فذ -من روائعه فيلميْ «في براغ» (In Bruges,2008) وَ«ثلاث لوحات إعلانية على حدود إيبينغ، ميزوري» (Three Billboards outside Ebbing, Missouri ,2017)- فقد قرر أن يطرح هذه المسألة الشائكة بالطريقة الأكثر تعقيدًا، والتي يتمناها كل فنان مهما استعرض وعقّد وتفنن، أي بتلك الطريقة التي اصطُلح على تسميتها بـ "السهل الممتنع".
نحن على متن إحدى جزر الغرب الإيرلندي. في جزيرة بسيطة وبمثل بساطتها بساطة أهلها. ذلك النوع من الناس، بيوتهم أسقفها من القش لا من الطوب. وأكبر همهم هو يومهم ما بين مأكلهم ومشربهم ومراعيهم وحيواناتهم الأليفة. يسمعون، على بُعد، وقع الحرب الأهلية في المدينة، تصلهم أخبار القتلى والصراع، ولا يُصلّون لأي طرف في الحرب. ناس قليلون في جزيرة صغيرة، مجتمعٌ مغلق على نفسه، وبمثل هذه الخصائص الاجتماعية للقرويين (أو الجزيريين1) -وفي هذا تسطيح وحكم سابق، سأعترف بهذا!- يكونون ثرثارين، يفضلون تناقل الكلام بينهم بينًا، يحبون الغيبة والنميمة، والدردشات الطويلة حول أمور قد نسميها -نحن أبناءَ المدينة- بسفاسف الأمور. كأن يحكي واحد منهم لصاحبه على مدار ساعتين، ساعتين بالضبط، عن مغامرته في البحث عن شيء ما ضيعه وسط كومة من خراء حماره (أم كان خراء سيسيِّه2؟). هؤلاء القوم يريدون الخلود أيضًا. حتى وإن لم يبدُ ذلك ظاهرًا. إنه ضربٌ آخر من الخلود، أبسط وأهدأ. يريدون أن يتركوا سيرة طيبة بين ناسهم، أن يُذكروا بعد رحيلهم بالكلمة الطيبة، أن يكونوا "لطيفين". وألطف هؤلاء هو بطلنا پادريك.
من وسط هذه البيئة يخرج علينا الضرب الثاني من البشر طالبي الخلود، ذلك الضرب الذي لن يبرح حتى يبلغ، من هو على استعداد لأن يقلب الدنيا كي يتجاوز الموت. هو بطل فيلمنا الثاني، إذن: كولم. رجل بدين فظ غليظ تجاوز منتصف العمر ودخل في أزمة وجودية حيال "أن يبقى". هذان الضربان من البشر، الطيب البسيط اللطيف لدرجة السذاجة، والمفكّر العميق (أو المتعامق؟) المعقّد، كانا في الأصل أصدقاء عمر لبعضهما البعض. من هذه الثنائية يحبُكُ ماكدونا حكايته ليطرح سؤالًا رئيسًا: هل علينا أن نسعى لخلودنا الشخصي بأي ثمن، حتى ولو على حساب ناسنا؟ أم من الأجدى أن نكون لطيفين مع من حولنا، وأن نكتفي بالخلود الصغير؟ ومن الذكاء بمكان أن يستخدم المخرج هذه الثنائية في مجتمع مثل إنشيرين، فالمجتمعات البسيطة القروية تتخذ فيها قيم كالصداقة مكانة أعلى مما يمكن أن تأخذه في المدينة.
"الصديق آخَرُ هو أنتَ" هذه جملة مشهورة في وصف الصداقة، دائمًا ما تُتَناقل، وبينما ينسبها البعض إلى أبي حيان التوحيدي، يُرجعها البعض إلى أرسطو. وكما اختُلِفَ في نسبتها فقد وصل الاختلاف إلى صميم التعريف نفسه، فقد قيل إنه يكون بهذه الصياغة "الصديق إنسانٌ هو أنتَ إلا أنه بالشخص غيرُك" وهي صياغة شارحة بتوسع.
وكتب بعضهم، بل إنه يكون هكذا "الصديق هو أنت إلا أنه غيرك" وهي صياغة، لو دققنا، تقع بين الصياغتين؛ فمن ناحية هي تحاول الشرح ومن أخرى تريد الحفاظ على كثافة الصياغة الأولى. وعلى كلٍّ فإن كافة الصياغات تعطي المعنى نفسه: "الصديق مرآةٌ لك." لكن اللافت للنظر، على تعدد الصياغات واختلاف النسبة، أن الفروق تكمن في الحد. وكأن من المتفق عليه أن الجوهر واحد "الصديق أنت"، أي أنه شَبَهٌ يصل إلى درجة التطابق. وبالطبع، فإن هذا التطابق لا يُقصد به التطابق السطحي والتقليد الببغائي؛ إنما فيما هو أبعد، كتطابق الوجدان على الوجدان والعقل على العقل. والجانب العقلي من هذا يعني أن هناك تطابقًا في التفكير وتخالُفًا في الأفكار. والكليشيه يفيدنا هنا، أعني ذلك القائل إن "الاختلاف لا يُفسد للود قضية".
إن اتفقنا على هذا التعريف بصياغاته واجتهادي في تأويله فإننا بتطبيقه على الحالة التي بين أيدينا في الفيلم نجد أنفسنا بإزاء صديقين تطابقا وجدانيًّا واختلفا عقليًّا. بل أستطيع القول إنهما بذاتهما حالتان مختلفتان في المعيشة.
فالأول هو العائش بالوجدان: پادريك، والثاني هو العائش بالعقل: كولم. لذا فالأول لا يطلب إلا اللطف في المعاملة من صديقه، والآخر لا يطلب منه إلا البُعد لكي يحقق مراده في الخلود. يتضح لنا هذا من حالتيهما في المعيشة اليومية. فبينما نتابع پادريك في يومه، نراه يروح ويغدو بين عدة أمور في غاية البساطة: يتشوّق إلى موعده المعتاد في الحانة كي يجتمع بصديقه الوحيد ويثرثر معه، يهتم بأتانه المحببة إلى نفسه ويختلس الفرصة لإدخالها إلى المنزل، يدافع عن صداقته بــ كولم عند أهل الجزيرة وقد لاحظوا الفُرقة بينهم. بل وفي عز وحدته، بعد فراق الصديق، لا يجد ما يفعله إلا التفكير في صديقه ومحاولة اكتشاف أين كان الخلل، ولا يلتفت إلى نفسه إلا كمُذنب؛ حيث يقدم اعتذارًا إلى صديقه في حالة أنه ربما قال له كلامًا مزعجًا وهو سكران. إنه شخص وجداني بإفراط.
أما الآخرُ فنحن نراه في أول لقطة من الفيلم وهو يدخّنُ بهدوء ولا يرد على نداءات صديقه. يدخّن في صورة نمطية عن "المفكر العميق ذي السيجارة"، نراه كما يُقال في التعبير المصري عن الشارد في خياله: "سارح في الملكوت". نفهم بعد ذلك، من سياق الفيلم، بأن الرجل مأخوذ بفكرة واحدة وحيدة وهي تلحين معزوفة تُبقي عليه بعد الموت.
كل هذا السَّرَحَان والشرود هو في سبيل الوصول إلى نغمة الخلود التي ستجعله موزارت زمانه كما كان "موزارت في القرن السابع عشر". لكن أخت پادريك تعدّل له معلومته الخاطئة بالقول إن "موزارت كان يعيش في القرن الثامن عشر". بتفصيلة كهذه في وسط الفيلم، وتفصيلات صغيرة تشابهها، يكون الفيلم كوميديًّا بحذق.
وعلى سيرة الأخت، فهي شخصية قد تكون المنطقة الوسطى التي أراد لها الكاتب أن تكون اختيارًا محتملًا بين اختيارين مؤكدين في هذه المسألة: مسألة أن نختار ما بين الخلودين الصغير والكبير. إنها الأخت القارئة العزباء شوبان، ولا أدري إن كان ماكدونا قد أراد أن يرمي إلى شيء ما بجعلها عزباء. غير أنني لن "أتحنّك" أكثر والعياذ بالله!
إذن، فالعقلانيُّ كولم اكتفى من صداقته بالوجدانيِّ پادريك. ومن هنا تكون صدمة قطع الصداقة بينهما من جهة الأول مفهومة ومنطقية. لا أحد يستطيع لوم الرجل على ما فعل إنما اللوم كله على طريقته فيما فعل. بيد أن اللوم من عدمه ونظرة المجتمع والعواقب وخيمها وسديدها لا تؤثر في الطرف الثاني پادريك. إنه لا يفهم ولا يبتغي ولا يحاول إلا شيئًا وحيدًا: أن يستعيد صداقته بصديق العمر كولم. في هذه الحالة من الصد ومحاولة الوصل بين صديقين مختلفين هدفًا ومضمونًا تظهر لنا عقدةٌ في الحبكة، تلك العقدة التي من الممكن أن يُنظر لها من جانب بوصفها فجةً ومُغالى فيها، ومن آخَرَ كوميدية بخبَلٍ، ومن جانب ثالث مجانيّةً وغير منطقية. إنها العقدة التي تُرينا أن صاحبنا كولم ذكي بما فيه الكفاية ليختارها في سبيل وضع حد لصداقته بـ پادريك. إلا أنها لا تجعل لنا مفرًّا من أن نصفه بأحد وصفين لا ثالث لها: أولهما: فإما أن كولم خبيث جدًّا ويريد أن يقلب الملامة كلها على رأس الغلبان پادريك. ثانيهما: أو أنه عاطفيٌّ وحنونٌ جدًّا لدرجة أنه يريد تحويل الألم الوجداني كاملًا من خاطر صديقه القديم إلى وجع جسديٍّ باتجاه نفسه هو.
لقد قرر كولم أنه وعند كل محاولة من پادريك لمعاودة "الوصل" أن "يقطع" إصبعًا من أصابع يديه. وكما نعلم فإن "الوصل" في الصداقة مجازيٌّ، على عكس الحب، إلا أن "القطع" هنا حرفيٌّ تمامًا.
«اسمع» يقول كولم لـ پادريك «لدي في منزلي مقص كبير، في كل مرة تحاول الكلام معي سأذهب إلى المنزل وأقص إصبعًا من أصابعي وأرميه في وجهك!» ويقولها بكل جدية. ما من هيستيريا هنا، بل هدوء تام ووعي بالعواقب. على الضد من حالة الإيذاء الذاتية المماثلة تاريخيًّا. أعني حالة ڤان غوخ، إذ دخل في تجربة إيذاء الذات وفي نفس السياق، سياق الصداقة. تقول الروايات -رغم اختلافها الكبير وتضاربها- إن صداقةً قامت بين الفنانيْن ڤان غوخ وبول غوغان وما لبثت أن نشب فيها خلاف بينهما، قرر على إثره أن يهجر غوغان صديقه جوخ. في تلك الليلة قام المهجور الجريح ڤان غوخ وقطع أذنه اليسرى (أو جزءًا منها). وكلنا نعرف بقية الهيستيريا التي حدثت حيث قام وأهدى العضو المقطوع إلى حبيبته. المهم هنا أنه ولا شيء من كل هذا يحدث اللهم الإيذاء الذاتي وحسب.
أعتقد أن ماكدونا كان ذكيًّا بخبث وقام بقلب الآية هنا مستفيدًا من قصة غوخ الشهيرة. بالرغم من أنه قد أجاب عندما سئل عن معنى الأصابع في الفيلم، بأنه «لا يدري تمامًا، فقط وجده أمرًا مُضحكًا». والحق، أنه مضحك بالفعل؛ ليس لأنه غريب وجريء وَوَوَ، بل لأنه ببساطة يحدث لعازف كمان يريد أن يلحن لحن الخلود خاصته.. فكيف عساه يفعل ذلك بأصابع منقوصة؟!
بنفس حالة العبثية هذه في اختيار العقدة الفاصلة في القصة يختار كولم عنوان لحن خلوده «جنيات إنشيرين». ولا تتضح العبثية من خلال الترجمة العربية إنما من خلال الأصل الإنجليزي حيث هوَ هوَ عنوان الفيلم أصلًا (THE BANSHEES OF INISHERIN). يستنكر پادريك هذه العنونة للمعزوفة ويقول لصاحبه «لكن ليس ثمة من جنيات في إنشيرين». يرد عليه كولم بأن صوتيْ الـ SH في الجملة يعجبه لا أكثر3. إذن، فالمسألة ليست أكثر من تلاعب لغوي وجناس يُعجب به الرجل. لكنه، بعد ذلك، يُردف قائلًا بنبرة كئيبة «وربما ثمة جنياتٌ (بانشيّاتٌ) بالفعل. أظنهنَّ لم يعدن يُعولنَ لينذرننا بالموت، بعدُ. بل صرن يجلسنَ في البعيد ويستمتعنَ بالمراقبة»4. هنا، تنقلب عبثية الاختيار إلى صميم جديّة الفيلم، وهو الجانب الآخر القاتم منه والأكثر أهميةً ربما.
وما تناقله القوم لدينا كترجمة لمفردة BANSHEES في عنوان ومتن الفيلم، حيث قالوا "جنيات" ليس دقيقًا. وأظنه يغير في طريقة تلقي الفيلم عميقًا. إن الـBANSHEES5 هن أرواح نسوة يوجدن في القصص الشعبي لدى الإيرلنديين، وتقول أسطورتهم بأنهن يظهرن في بيوت من سيموت لهم فردٌ من العائلة ويأخذن بالندب والعويل تحذيرًا لأهل الميت من اقتراب أجله. ظهورهن شؤم ولا أحد يحب رؤيتهن. وهذا المفهوم أقرب ما يكون لدى العرب إلى مفهوم "غراب البين"، إلا أنه أشد وقعًا وأكثر احتكاكًا بالموت. لذا، فأعتقد أنه من الأسلم ترجمتها، ربما، بـ"بنات الشؤم" أو "عجائز المصيبة"، و"الندّاباتُ" كذلك قد تصلح، أو -وهو الأضمن لنقل المفهوم- نقلها كما هي إلى الحرف العربي "بانشيّات" وواحدتها "بانشة" أو "بانشية". لكننا سنضيع هكذا في الترجمة ثم في الاشتقاق والتصريف. المهم أنني وددت أن استطرد في هذه النقطة لأهميتها في سياق الفيلم.
أرى أن الفيلم يتحدث عن الخلود في المقام الأول، وليس عن الصداقة. الصداقة لم تكن أكثر من المدخل الذكي والحسّاس لمناقشة المسألة. وعليه، فإن أي كلام يكون حول الخلود هو، بالضرورة، وعلى نفس المستوى، يتناول الموت كذلك. إذن، فوجود إحدى البانشيّات لم يكن عبثًا وإن كان من وراء ستار وعلى خفيف، كما شاهدنا في العمل. كالموت تمامًا؛ دائم الوجود ومن وراء ستار، نتحاشاه كما تحاشت شوبان السيدة مكورميك في دروب إنشيرين. وهذه السيدة مكورميك العجوز الشمطاء ذات الغليون الرخيص من خشب الذرة بعصاها ذات الخُطّاف، ليست إلا انعكاسًا لصورة الموت في الذهنية الإيرلندية الشعبية؛ أو، في الأقل، كما يصورها قصصهم الشعبي واستفاد من ذلك ماكدونا. إنها "البانشيّة" في قصتنا، وهي مُلهمةُ المعزوفة، عميقًا، إذ كل إبداع لا يخرج إلا من رحم الموت. فمن المنطقي أن تُعنون المعزوفة باسم نوعها؛ وليس لمجرد جناس لغوي. غير أنها، وعلى طول الفيلم، لم تكن لا تندب في البيوت ولا تصرخ إنذارًا بقدوم الموت، بل -كما فهِمَ كولم- كانت تستمتع بالمراقبة من بعيد. وحين قررت أن تقوم بعملها الأصليقامت به بكل هدوء واختارت له أن يكون مع پادريك حيث تقرر إخباره بالحقيقة المرة وهما بعيدان عن الجميع وفي جوٍّ من الضباب «سوف يأتي الموت إلى إنشيرين قبل انتهاء الشهر!» تقول لـ پادريك. «الموت؟» يرد عليها پادريك ببلاهة وخوف. «بل موتان» تُجيبه، أي حالتا موت. وبينما يُستكمل الحوار نراها تقول من وراء كتفها، دون التفات، لـ پادريك ما معناه «سنصلي ألّا يكون ذلك الموت موتك أنت أو موت أختك المسكينة»6. هنا يستنكر عليها بادريك صلافتها قائلًا «هل من اللطف أن تقولي هذا؟»، لكنها ترد بكل هدوء «هل حاولت أن أكون لطيفة؟ لقد حاولت أن أكون دقيقةً وحسب»7. وبالضبط، فالموت لا يتحلّى باللطف إنما بالدقّة. ولهذا نرى أن أول من يجد العصاة ذات الخطّاف (المعادل الرمزي لمنجل الموت) كان دومينيك وهو يقلّبها ويتساءل مستغربًا فيمَ عساها تُستخدم. ثم، في آخر الفيلم، نرى العصاة ذاتها في يد السيدة مكورميك بينما هي تسحب جثة دومينيك من النهر بالخُطّاف. هكذا هو الموت، دقيقٌ ويُغالب من يريد الخلود بكثير من الـ پادريكات!
عودًا على بدء، سنسأل مع ماكدونا السؤال الرئيس، عمَّ إذا كان لابد لنا أن نكتفي بالخلود الصغير ونبقى لطيفين طيبين لأحبابنا، أم لابد وأن نكون أفظاظًا غلاظًا ونطلب الخلود الكبير؟ المعادلة صعبة، ولابد من الاختيار وإلا فقدنا الاثنين كليهما. وهذا السؤال ينطبق على كثير منا، إن لم يكن على الجميع. فلكل مسؤولياته وواجباته، والتي في كثير منها يتحتم علينا أن نكون لطيفين حيالها. ومن معاني اللطف هنا الأساسية "البِر"، فكثير مما نلزم أنفسنا به نأخذه أخلاقيًّا من هذا الباب وليس من باب الواجب بمعنى التورّط. وإلا لكنا كمن يطعم مسكينًا ثم ينهره! أما العمل على تخليد النفس، فدائمًا ما يتطلب درجةً عاليةً من الأنانية. ولو نظرنا في سِيَر الخالدين، الصف الأول منهم تحديدًا، لرأينا أغلبهم ما كانوا إلا آباء مقصرين -في أحسن الحالات- أو أبناء مُهملين أو أصدقاء جَحودين. وقليلٌ، قليلٌ للغاية، من جمع منهم بين الخلوديْن.
في الفيلم جوابُ المسألة. وعلى العكس من عادة صناع الأفلام إذ يحبون ترك المسائل مفتوحة، فقد كان ماكدونا كريمًا إذ لم يبخل بها علينا، وقال: اللطف/ الخلود الصغير. فما نفع الخلود إذا كسرت صاحبكَ حتى وصل به الحال أن يحرق بيتك؟ ولا تقل إنكما متعادلين الآن، قتلت أتانه الحبيبة فحرق بيتك وانتهينا. «لا، لم نتعادل» هذا ما يقوله پادريك. إذ لم يكن الغرض من حرق البيتِ البيتَ ذاتَه إنما ساكنه. لم يعد لـ كولم منزل في الوجود الراهن -رمزيًّا- لأنه اختار المنزلة الخالدة. وهذه المنزلة الخالدة أمر غير مضمون ولا ندري من يصل له ومن ينقطع عنه حتى ولو أخذ بكافة الأسباب. ثم إننا لا نعرف ما حال مسيرة الخلود، أصلًا، فهل سيكون موزارت هو نفسه الذي نعرفه الآن بعد خمسين سنةً؟ ولا نعرف ما طعم الخلود، فوق هذا: ولنتخيل رجلًا خالدَ الذكر في قبره يسمع الناس تنقد في ما قد فعل وتنتحل عليه وتقوّله ما لم يقل، فهل يكون سعيدًا بهذا؟ والأهم من كل هذا وذاك أن الخلود -في جوهره- والعمل عليه ليس إلا مغامرة غيبيةً، حيث تتحتم خسارة الموجود مقابل كسب المأمول. وفي هذا حمق شديد. إذن، فلنكن لطيفين ونُطبق ما قال أبو الطيب، لو أسقطناه على موضوعنا:
خُذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به
في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زُحَلِ