عندما يبدأُ الحديثُ عنْ السينما، كنتُ أبحثُ عنْ الأفلامِ الدافئةِ الملائمةِ للبدء، تلكَ النابعةُ منْ العيشِ بشكلٍ أصيل، النابعةِ منْ الواقع، منْ الإنسان، منْ الكلماتِ المتجاهلةِ منْ قبلِ الآخرين، فأجدُ نفسِي أمامَ أعمالٍ تقصُّ حكاياتٍ تبدأُ كهواجسَ داخلَ صاحبِها، ليجعلَني فيما بعدُ متسائلةً عنْ حقيقةِ الأشياءِ، وشخوصِها داخلَ تلكَ القصة.
وهكذا بدأَ فيلمُ الكوميديا والدراما «جنياتُ إينشيرين– The Banshees of Inisherin»، في عقلِ مخرجِهِ وكاتبِهِ مارتن ماكدونا، حادثٌ أليمٌ قديم لمْ يتوقفْ عنْ الإلحاحِ داخلَ عقلِهِ، صديقينِ منذُ زمنٍ طويلٍ، تصلُ علاقتُهما إلى طريقٍ مسدود، عندما يقررُ أحدُهما إنهاءَها فجأةً، مما يتسببُ في عواقبَ مروعةٍ لكليْهما.
تدورُ الأحداثُ في جزيرةٍ إيرلنديةٍ تدعى إينشيرين، خلالَ عامِ 1923، جنةً واسعةً يسكنُها عددٌ قليلٌ منْ البشرِ الضجرين، ينتظرُ السقاةَ في الحاناتِ والعجائزِ في الحوانيت أيِّ أخبارٍ تجعلُ اليومَ أقلَّ مللاً، في بيئةٍ راكدةٍ كهذه رغمَ جماليةِ المكان، يكونُ للاختلافاتِ الطفيفةِ وزنٌ هائلٌ، حيثُ يصيرُ خصامُ العجوزِ «كولم» المفاجئُ لصديقِهِ «بادريك» حدثاً رئيساً، يتوقفُ أمامَهُ كلُّ السكانِ متسائلينَ: لماذا قاطعَ كولم صديقَه؟ لكنَّنا لنْ نعرفَ أبداً بأنَّ هذا التساؤلَ البسيط سيقودُنا لحادثةٍ مريرةٍ يدلي «بادريك» بأولِ تساؤلاتِها لأختِهِ سيوبان التي ردتْ بسخريةٍ قائلة: «ربما لمْ يعدْ يحبُّكَ بعدَ الآن.» إذْ يبدو أنَّ سخريةً عابرةً كهذه تمثلُ جزءاً منْ نبوءةٍ حقيقيةٍ غيرِ مقصودة.
تبدأُ مأساةُ الفيلمِ بالمرأةِ العجوزِ الشبيهةِ بالجنيات، التي تزورُ العائلةَ وتجلسُ كغرابِ البين، متنبئةً فيما بعد بجلاءِ أنَّ هناكَ اثنينِ منْ أهلِ الجزيرةِ سيموتون، تاركةً خيمةً منْ الحزنِ والترقبِ على الرؤوس. «يسمي ماكدونا فيلمَهُ «جنياتُ إينيشيرين» أوْ بحدِّ تعبيرِهِ «البانشي»، وهيَ أسطورةٌ فلكلوريةٌ أيرلنديةٌ عنْ أرواحٍ مؤنثةٍ متشحةٍ بالسواد، ينبئُ حضورُها عنْ موتٍ قادمٍ في القرية».
أسمى منْ الحيوان
يقولُ نيتشه في مقدمةِ كتابِهِ «إنسانٌ مفرطٌ في إنسانيتِهِ: يجبُ أنْ يكونَ الحيوانُ فينا متملقاً: الأخلاقُ ضروريةٌ وإلا لتمزقِنا إلى أشلاء، ودونَ الأخطاءِ التي تنطوي عليها افتراضاتُ الأخلاق، لبقيَ الإنسانُ حيواناً، وهكذا تعاملَ الإنسانُ معَ نفسِهِ على أنَّهُ أسمى منْ الحيوان، وفرضُ قوانينَ صارمةً على نفسِه، وهوَ يشعرُ بالبغضِ منْ الحالاتِ التي تقربُهُ منْ الحيوانِ.» يزدري كولم بادريك لا لشيءٍ آخرَ غيرَ أنَّهُ مملّ، مخبراً إياهُ (أنَّ محادثةَ صديقٍ مملٍّ محدودةٍ بالفعلِ، حتى وإنْ كانتْ حميمية)، وعلى الرغمِ منْ العديدِ منْ المناقشاتِ التي توصلَ إليها سكانُ القريةِ، وصديقُهُ بادريك وقسيسُ الكنيسة إلى أنَّ كولم يائسٌ ومحطمٌ بالفعل، يرفضُ الأخيرُ أيَّ مبرراتٍ أخرى، فارضا قوانينَ صارمةً على نفسِه، ومدمراً أسمى تواصلاتِهِ الإنسانية، دونَ الإحساسِ بالآخر، جاعلاً بادريك يؤمنُ أخيراً بأنَّ الصداقةَ الوحيدةَ التي يشعرُ بالأنسِ فيها بعدَ الآن،كندٌ وطرفٌ مساوٍ هيَ صداقتُهُ للحمارةِ «جيني»، التي تجسدُ معادلاً لحيوانيتِهِ البريئة، الراغبةِ في الأكلِ والمتعةِ والنومِ بسلام، والتي لمْ يعدْ كولم قادراً على مجاراتِها بعدَ الآن، ليطلقَ الفيلمُ أولَ صراعاتِ الإنسانِ المعاصرِ والقديمِ على الإطلاق وهيَ، الرغبةُ في الخلود. كأحدِ أسذجِ الخياراتِ التي يتبعُها كهلٌ مسنٌّ في جزيرةٍ نائية.
بالطبعِ يستنكرُ «بادريك» مزارعَ الحليبِ البسيطِ هذا السؤال لا لصعوبتِهِ بقدرِ غرابتِه، يسألُ صديقَهُ بسذاجةٍ بريئةٍ، لماذا يحاولُ البحثَ عنْ معنى في لحنٍ خالد ما دامَ ليسَ مريضاً أوْ يحتضر؟ محاولاً إقحامَ الحوادثِ والشخصياتِ العابرةِ لبدءِ محادثةٍ معه، غيرَ أنَّ كولم يقسمُ أنَّهُ في أيِّ وقتٍ يتحدثُ معهُ بادريك سيقطعُ أحدُ أصابعَه. وبالفعلِ، يقطعُ كولم أصابعَهُ، واحدةً تلوَ الأخرى، ناسفاً حلمَهُ في الخلودِ عبرَ موسيقاه، وقاطعاً بهذا أملَ بادريكَ بالعودةِ إلى طيفِ صديقِهِ الحميم. بالطبعِ لا يأملُ كولم أنْ يخلدَ، وهوَ يعلمُ أنَّ صديقَهُ البسيطَ على درايةٍ بفداحةِ فعلِه، وبأن بادريك وإن كان محدودَ الذكاء، إلا أنَّ الفهمَ الذي توصل إليهِ عبرَ صداقته لكولم كافياً لتفسيرِهِ، فكولم الذي يعتقدُ بأنَّهُ مختلفٌ عنْ بادريكَ، ما هو إلا تجسيدٌ آخرُ لشبحِ صديقِهِ البسيط، وبأنَّ القصةَ كلها أصبحت تترتبُ حولَ صراعٍ لشخصينِ يمثلُ كلُّ واحدٍ منهما صورةً معاكسةً للآخرِ، وهكذا… يكشفُ ماكدونا قصصَ شخصياتِهِ روياً، وأزماتِها التي يعاني منها كلاهما.
تتمثلُ إحدى أرقى الحيلِ في «جنياتِ إيشرين» في الطريقةِ التي يقودُنا بها ماكدونا، يدفعُنا فيها إلى التماهي معَ شخصياتِهِ متسائلين: صحيحٌ أنَّ هذا قطعٌ فظٌّ للصداقةِ منْ العجوزِ كولم، لكنْ لماذا لا يسمحُ بادريك لصديقِهِ بالرحيلِ فحسب؟ يقولُ نيتشه: «إذا كانَ للدفاعِ عنْ النفسِ مبررٌ صحيحٌ بشكلٍ عامٍّ، سيكونُ لجميعِ مظاهرِ ما يدعى بالأنانيةِ الأخلاقيةِ ما يبررُها أيضاً، فالمرءُ يؤذي أوْ يسرقُ أوْ يقتلُ للحفاظِ على حياتِهِ أوْ حمايتِها منْ الخطر. ويعتبرُ الإيذاءُ عمداً أخلاقياً عندما تكونُ سلامتُنا أوْ وجودُنا أوْ استمرارُ رفاهِنا مهدداً.» لكنْ… هلْ يعرفُ الإنسانُ حقاً مدى الألمِ الذي يسببُهُ فعلٌ ما للآخر؟ وهلْ يدركُ كولم مدى الألمِ الفظيعِ الذي أحدثَهُ في صداقتِهِ الوحيدةِ على الجزيرة معَ بادريك؟ يؤسسُ ماكادونا ببراعةِ محاكمةٍ جريئةٍ بداخلِ جزيرتِه، يستعرضُ فيها واحداً منْ أعقدِ أشكالِ تساؤلاتِنا. يصبحُ لاحقاً الألم، الطريقةُ الوحيدةُ للحفاظِ على ما تبقى منْ الإنسانِ بداخلِنا، إذْ إنَّنا قدْ نستطيعُ الشعورَ بألمِ الآخر منْ خلالِ تذكرِ ما سببَهُ الألمُ لنا.
تنظرُ شخصياتُ ماكدونا -التي تعاني الوحدةَ المريرةَ والأزماتِ الوجودية- إلى الحياةِ عبرَ وجهتيْ نظرٍ مختلفتينِ في الحياة، يستسلمُ فيها كولم نهائياً للاكتئابِ والوحدة، في الوقتِ الذي يودعُ فيهِ بادريك طيفُ براءتِهِ الخالص. وفي واحدٍ منْ أجملِ مشاهدِ الفيلمِ تقفُ كلُّ شخصيةٍ أمامَ مأساتِها، لا راغبةَ في الحياة، بلْ زاهدةً فيها، تذعنُ فيها أرواحُ الجزيرةِ للصمت، الصمت بوصفِهِ عزلتَنا اللانهائية.