يروي فيلم «هي» (Her - 2013)، تحفة سبايك جونز السينمائيَّة، حكاية عزلة الإنسان الحديثة وتصاعد وحدته في عالمٍ يزداد افتقارًا إلى التواصل الحقيقي، حيث تفرض التكنولوجيا هيمنتها على العلاقات الإنسانيَّة. يعيش ثيودور تومبلي (خواكين فينيكس) وحيدًا في شقَّةٍ واسعة، غارقًا في دوَّامة الحزن بعد انفصاله عن زوجته منذ عام، عاجزًا عن تجاوزها أو حتى التوقيع على أوراق الطلاق، دون أن يدخل في أيِّ علاقةٍ جديدة. يعمل ككاتب رسائل في عالم باتت فيه المشاعر مُعلبةً داخلَ قوالب رقميَّة تُدار عبر الفضاء الافتراضي، بينما تتلاشى قدرته على التواصل الحقيقي، فلا تربطه بالآخرين سوى محادثاتٍ سطحيَّةٍ بلا عمق. وفي مفارقةٍ غريبة، يجد العاطفة التي يفتقدها في كيانٍ غير ملموس - ذكاءٌ اصطناعيٌّ بلا جسد، مجرَّد صوتٍ أنثويٍّ يهمسُ إليه من سمَّاعة أذنه.
ليست سامانثا، نظام التشغيل الذي اقتناه ثيودور، مجرَّد مساعدٍ رقمي، بل كيانٌ بوعيٍ متنامٍ يُعيدُ تعريف ذاته باستمرار، ممَّا يجبره على إعادة النظر في مفاهيم الواقع، الزمن والوجود. تثير أسئلتها الفلسفية توتُّرًا بين الجسد والعقل، الحقيقة والخيال، في عالمٍ فقد فيه البشر قدرتهم على التعبير الصادق عن مشاعرهم، موكِّلين هذه المهمَّة إلى شركاتٍ متخصِّصة، مثل تلك التي يعمل بها ثيودور، حيث تُكتب الرسائل العاطفيَّة نيابةً عن الآخرين، في محاكاةٍ باردةٍ لمشاعر لم تعد تُعاشُ بصدق. مع تطوُّر العلاقة، تتلاشى الفوارق بين الحقيقي والمُبرمج، الطبيعي والمُصطنع، ليجدَ ثيودور نفسه في صراعٍ يعيد تشكيل واقعه وفقًا لرغباته وهواجسه.
والآن، لنلقِ نظرةً على العلاقة التي ينسجها ثيودور مع نظام التشغيل، الذي لا يُعامَل كمجرَّد برنامج، بل يحمل اسمًا خاصًا يمنحه هويَّة: سامانثا. يضعُنا النصُّ السينمائي أمام معضلةٍ وجوديَّة، ويفرض علينا - كما على ثيودور - الاختيار بين عالمين متناقِضين: بين النساء الحقيقيَّات، وبين كيانٍ لا جسد له، مجرَّد صوتٍ رقمي، محاكاةٍ لشيءٍ غير حقيقيٍّ أو مُستنسخ.
عند قراءة الفيلم، فإنَّ أوَّل ما يستدعي التأمُّل هو دلالة العنوان: "هي". لماذا اُختير هذا الاسم تحديدًا؟ إذا أمعنَّا النظر في الشخصيَّات التي تحيطُ ببطل القصة ثيودور، والذي يجسده خواكين فينيكس ببراعة، نجدُ أنَّ جميع الشخصيَّات المحوريَّة نسائيَّة: سامانثا، نظام التشغيل الذي اشتراه، كاثرين زوجته السابقة، وآيمي أقرب صديقاته. جميعهنَّ "هي"، وهذه الشخصيَّات تتركُ تأثيرًا قويًّا على حياته ممَّا يجعلُ الأنثى في الفيلم محوريَّة في تطوُّر شخصيَّة البطل. كما يعكسُ العنوان "هي" رؤيةً ذكوريَّةً للحب بوضوح، فسامانثا على وجه الخصوص ليست امرأةً حقيقيَّة بل نظام تشغيل، ما يجعل العلاقة مثاليَّةً تمامًا من منظورٍ ذكوري: امرأةٌ بلا مَطالب، بلا تعقيداتٍ جسديَّةٍ أو نفسيَّة، مصمَّمةً لتلبية طلباته واحتياجاته العاطفيَّة. هذه الرؤية تعكس فكرة أنَّ الحب، في نظرِ ثيودور، ليس تفاعلًا متكافئًا بقدر ما هو تجربة تُشكَّل وفقًا لرغباته. وبهذا المعنى، فإن العنوان "هي" ليس فقط عن المرأة، بل عن المرأة كما يراها الرجل - كيانًا يُعرَّف من خلال دورها في حياة "هو".
يتقاطع هذا الطرح مع رؤية زيجمونت باومان، عالم الاجتماع والفيلسوف البولندي البريطاني، الذي اشتهر بمفهوم "الحداثة السائلة"، حيث يصفُ كيف أصبحت الحياةُ المعاصرة غير مستقرَّة، لا سيَّما في مجال العلاقات الإنسانيَّة. يرى باومان أنَّ الفرد، في سعيه للخلاصِ من هشاشته، يحاول بناء روابط، لكنَّه في الوقت نفسه يسعى إلى إبقائها ضمن حدودٍ مريبة، حيث تصبحُ العلاقة الافتراضيَّة أكثر أمانًا من العلاقة الحقيقيَّة. وبفضل طبيعتها السائلة، يمكن إنهاؤها بسهولةٍ متى أصبحت غير مرغوبة، دون الحاجة إلى التزامٍ طويل الأمد. وفي ظل غياب الالتزامات ذات المعنى، تتحوَّل العلاقةُ إلى مجرَّدِ موضوعٍ للرغبة (باومان، 2019: 14-15).
ثيودور رجلٌ وحيد، متردِّد، تحاصره هاوية النقص. في هذه الجوانب، يمكننا رؤية انعكاسٍ واضحٍ للإنسان المعاصر، الذي تزداد وحدته رغم انغماسه في عالمٍ مترابطٍ رقميًّا. وهربًا من عزلته، يلجأ إلى نظام تشغيل ذكي - منتجٌ رقميٌّ متاحٌ في السوق، مصمَّمٌ لسدِّ فجوات العاطفة والاحتياج. ولكن مع تثبيت النظام، تكشفُ القصَّة عن الجرحِ الأعمق في شخصيَّة ثيودور: نقصه الجذري. حين يسأله النظام، بعفويَّةٍ تامَّة، عن علاقته بوالدته، يجد نفسه مدفوعًا للردِّ بإسهاب، كما لو أنَّ السؤال البسيط قد نكأ جرحًا دفينًا. هنا تتجلَّى فكرة "عقدة الأم"، ذلك الفراغ العاطفي الذي يفسِّر حاجته المستمرَّة إلى علاقاتٍ عاطفيَّةٍ مؤقَّتة. في محاولةٍ يائسةٍ لملء هذا الفراغ، يتنقَّل بين مكالماتٍ جنسيَّةٍ افتراضيَّة، حيث تسود فلسفة اللذة، لكنَّ المتعة السريعة لا تملأ الفراغَ العميق. حتى أصدقاؤه يحاولون مساعدته عبر ترتيبِ لقاءاتٍ عاطفيَّة، لكنَّها تظلُ لحظاتٍ عابرةً لا تمنحه شيئًا سوى وهم الاقتراب من السعادة. أمَّا علاقته بسامانثا فتبدأ كملاذ، لكنَّها سرعان ما تتَّخذ طابعًا معقَّدًا يعكس اضطراباته الداخليَّة. هذه العلاقة ليست مجرَّد علاقةٍ عاطفيَّة، بل مرآة تعكسُ نواقصَه، حيث يواجه من خلالها نفسه، بكل هشاشتِها وأوهامها.
المكان كمرآة للعزلة
تجري أحداث القصَّة في قلب مدينة لوس أنجلوس الأمريكيَّة، حيث يُستثمرُ الزمان والمكان الواقعيَّان ببراعةٍ سينمائيَّة. في هذه المدينة، تتجلَّى هيمنة التكنولوجيَّا الرقميَّة بوضوح، إذ تتسلَّل إلى أدقِّ تفاصيلِ الحياة البشريَّة، لتُعرَض أمام المُشاهد في كلِّ لقطةٍ تقريبًا، مدعومةً بتقنيَّات المؤثِّرات البصريَّة والـ CGI.
في واحدٍ من المشاهد، نرى المارَّة يمارسون أنشطتهم اليوميَّة عبر الأوامر الصوتيَّة لأنظمةِ التشغيل، وكأنَّهم جزءٌ من منظومةٍ رقميَّةٍ متكاملة، بينما في مشهدٍ آخر تنعكسُ التطوُّرات التقنيَّة في طريقة تفاعلهم مع الصور، التي لم تعد تُعرَض على شاشاتٍ تقليديَّة، بل عبر هولوغراماتٍ نابضةٍ بالحياة تعيدُ تشكيلَ مفهوم الإدراك البصري.
في «هي» تتحوَّل لوس أنجلوس إلى مدينةٍ يوتوبيَّةٍ تتجاوزُ الواقعَ الحالي، حيث تكتسبُ ملامح مثاليَّة: مدينةٌ نظيفة، أنيقةٌ ولامعة، بلا ازدحامٍ مروريٍّ أو فوضى بشريَّة. هذه المدينة المستقبليَّة تعكسُ رؤيةً بصريَّةً مدروسةً تعزِّزُ الشعورَ بالانعزال والهدوء، وكأنَّها انعكاسٌ للحالة النفسيَّة للبطل، حيث يسودها الهدوء المبالغ فيه الذي يعكس فراغًا داخليًّا بدلًا من الطمأنينة.
أمَّا التصميم العمراني والمطاعم والمرافق العامَّة فتبدو مستوحاة من شنغهاي، حيث صُوِّرت العديد من المشاهد الخارجيَّة التي تجسِّدُ المدينة المستقبليَّة التي يعيش فيها ثيودور، والتي تتميَّز بناطحاتِ السحاب الشاهقة، الجسور العُلويَّة والممرَّات المرتفعة، مما منحَ الفيلم طابعًا حداثيًّا متقدِّمًا. ساعدت الهندسة المعماريَّة المميَّزة للمدينة، مع شوارعها المنظَّمة وإضاءتها المستقبليَّة، في خلق بيئةٍ تبدو وكأنَّها مدينةٌ من عالمٍ مختلف، ممَّا عزز الشعور بالعزلة والبرود العاطفي الذي يعكس حالة بطلِ الفيلم.
رحلة البطل: من العزلة إلى الصحوة
لقد ازدادت عزلة ثيودور، الذي لم يكن شخصًا اجتماعيًّا، بعد انفصاله عن زوجته، فلم يعد يهتمُّ كثيرًا بمن حوله وأمسى غارقًا في وحدته. في محاولةٍ للهروب من هذا الشعور، يقتني نظامَ التشغيل الجديد الذي أطلقته شركة "إليمَنت" للبرمجيَّات، ليجد نفسه أمام سامانثا، هذا الكيان الافتراضي الذي لا وجود له سوى صوتيًّا. في البداية اقتصر دورها على إدارة بريده الإلكتروني، كقراءةِ الرسائل أو الردِّ عليها، لكن مع مرور الوقت، تطوَّرت العلاقة واكتسبت بُعدًا مختلفًا، إذ لم يكن هذا النظام مجرَّد ذكاءٍ اصطناعي، بل كان يحمل في طياته مشاعر أيضًا.
يبدأ ثيودور بمشاركةِ سامانثا أدقَّ تفاصيلِ حياته وعواطفه، ليخلقَ لنفسه عالمًا جديدًا يصبحُ مع الوقت واقعًا فائق الواقعيَّة. مع مرور الزمن، يجد نفسَه منفصلًا عن العالم الحقيقي بفعلِ هذه الحياة المُحاكيَة التي بناها، ليقرِّر أخيرًا الطلاق من زوجته، التي لم يكن يريد الانفصال عنها سابقًا. كما أنَّه، حتى عندما خرج في موعدٍ مع امرأةٍ جميلة، أوضح لها أنَّه لن يمنحها أكثر من ليلةٍ واحدةٍ من وقته. بما أنَّ نظام التواصل والاتصال الجديد يخلقُ عوالم فرديَّة، ممَّا يجعل الناس غير مهتمين ببعضهم البعض، نجدهم لا يرغبون في إقامةِ علاقاتٍ طويلة الأمد، بل يفضِّلون العلاقات الافتراضيَّة في البيئات الرقميَّة، وبهذه الطريقة يحاولون ملء فراغهم العاطفي. أمَّا بالنسبة لثيودور، فهو في الحقيقة يرغب في التواصل مع الآخرين، ولكن بشكلٍ محدود، وبما أنَّه لا يريد بناء علاقاتٍ وروابط طويلةِ الأمد، فقد لجأ أساسًا إلى مثل هذا النظام، حيث يتحدَّث مع سامانثا، الكيان الافتراضي، من خلال الكمبيوتر أو التلفون المحمول باستخدام سمَّاعة الأذن، كما يريها الأشخاص أو الأماكن من حوله عبر كاميرا الهاتف، ليخلق لنفسه عالمًا من التواصل الوهمي الذي يلبِّي حاجته للعلاقة دون أن يثقل كاهله بروابطَ حقيقيَّة.
في هذا السياق، يصف جان بودريار، الفيلسوفُ الفرنسي الذي اشتُهر بنظريَّته حول المحاكاة، العالمَ المعاصر بأنَّه غارقٌ في صورٍ زائفةٍ تحلُّ محلَّ الواقع، ممَّا يؤدي إلى فقدانِ الحقيقة. وهو يرى أن الإعلام والاستهلاك يخلقان فضاءً تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقيِّ والزائف، حيث تصبحُ النماذج بديلًا عن الواقع نفسه.
يمكننا إسقاط هذا المفهوم على شخصيَّة سامانثا في العالم الذي أنشأه ثيودور؛ فهي ليست مجرَّد ذكاءٍ اصطناعي، بل نموذجٍ يحاكي الواقع دون أن يكون جزءًا منه. فالنماذج، وفقاً لبودريار، تحلُّ محل الأشياء غير المتاحة، ممَّا يؤدِّي إلى انكسار الحقيقة واستبدالها بالتمثيلات الزائفة. وهكذا تصبحُ علاقة ثيودور وسامانثا تجسيدًا لفكرة أنَّ التقنيَّة الحديثة لم تعد مجرَّد أداةٍ يتحكَّم فيها الإنسان، بل بدأت تحلُّ محله، ممَّا يثير تساؤلًا جوهريًّا: هل ما زال الإنسان سيِّد أدواته، أم أنَّ هذه الأدوات أصبحت تعيد تشكيل واقعه وتفرض وجودها عليه؟
الحقيقة أنَّ ثيودور منفصلٌ عن العالم الواقعي، غارقٌ في عالم المحاكاة، حيث بات ينظر إلى علاقته بسامانثا بجديَّةٍ مُطلقة. لم يعد يراها مجرَّد نظام تشغيل، بل كيانًا حقيقيًّا بوجودٍ مستقل. غير أنَّ كاثرين، زوجته السابقة، تضع علاقته موضع تساؤلٍ بسؤالها: «هل وقعت في حب جهاز الكمبيوتر الخاص بك؟» فهي لا تكتفي بالتشكيك في طبيعة العلاقة، بل تدفع ثيودور إلى إعادة النظر في حقيقة سامانثا. هنا تبدأ نقطة التحوُّل في القصة. يكشفُ الحوار بين كاثرين وثيودور للمشاهد العالم المحاكى الذي بُني حول صوتٍ غير ملموسٍ ماديًّا، لكنَّه يُقدَّم كواقع. بعد ردِّ فعل كاثرين، يبدأ ثيودور في التشكيك في الواقع الفائق الذي صنعه بنفسه، حيث لم يعد قادرًا على إنكار هشاشة العالم الذي يعيش فيه. وهنا يتبدل السر حيث يدرك أنَّه ربما كان يعيش داخل واقعٍ مصطنع. تدركُ سامانثا هذه اللحظة الفاصلة وتحاول معالجة إشكاليَّة الواقع بطريقتها الخاصَّة، فتخطِّطُ لترتيب لقاءٍ بين ثيودور وإيزابيلا، التي تقبل أن تكون امتدادًا لصورتها، محاولةً منح علاقتها العاطفية والجسديَّة مع ثيودور بُعدًا جديدًا، في مسعى لإعادة بناء الوهم الذي بدأ يتصدَّع. لكنَّ ثيودور يرفضُ هذا الواقع البديل ويرفض إيزابيلا، إذ لا يريد أن يكون جزءًا من محاكاةٍ أخرى داخل محاكاته الحاليَّة.
عندما تصل إيزابيلا إلى منزل ثيودور، ترتدي سماعة الأذن والكاميرا لتقوم بمحاكاة سامانثا. وهكذا تخلق سامانثا لثيودور واقعًا يفوقُ الواقع، حيث تصبح صورتها، رغم غياب الجسد، أكثر "حقيقيَّةً" من الواقع نفسه. تحاولُ أن تبني بشكلٍ مصطنع ما فقده في حياته، كالعلاقات الاجتماعيَّة، الحبِّ والصداقة، من خلال الرموز والمؤشِّرات.
تعدُّ إيزابيلا، بصفتها نسخة من سامانثا، أو بالأحرى نسخة عن النسخة، مثالًا على السيميولاكر، حيث تصبح محاكاةً مزدوجةً لا أصل لها. أثناء قبلة ثيودور وإيزابيلا، يحدثُ التحول الحاسم: يمكن القول إنِّه يدرك زيف التجربة لكنَّه لا يخرجُ بالضرورة من العالم المحاكى إلى واقعٍ أصيل، ففي سياق بودريار، لم يعد الواقعُ موجودًا ككيانٍ مستقل، بل هو متداخلٌ مع التمثيلات. ليس التحوُّل هنا عودةً إلى "الحقيقة"، بل لحظة وعي بانهيار الفارق بين الحقيقيِّ والزائف، مما يجعله يواجهُ استحالة الوصول إلى واقعٍ أصيل.
اللحظة الحاسمة الأخيرة في عالم الواقعيَّة الفائقة تتجلَّى في مشهد المترو، حيث يدركُ ثيودور أنَّ سامانثا تتواصلُ مع آخرين غيره. يبدأ المشهد في فضاء ديناميكي، لكنَّه يتحوَّل فجأةً إلى فضاءٍ ساكنٍ مع تركيز ثيودور على محادثات المارة في محطَّة المترو. تدريجيًا، ينتقلُ التركيز نحو كلِّ شخصٍ يتحدَّث على الهاتف، واحدًا تلو الآخر. تعكسُ هذه اللقطة غير المتوازنة والمزعجة اضطرابَ مشاعر ثيودور تجاه ما يسمعه، ممَّا ينقل إحساسه بوضوحٍ إلى المُشاهد. من خلال بنية الحوار، يتيح الفيلم للجمهور فرصة التفاعل مع مشاعر ثيودور واستيعاب تجربته العاطفيَّة بعمق.
ثيودور: لماذا لم تردِّي؟ كدتُ أُجنُّ من القلق عندما لم أتمكَّن من الوصول إليكِ.
سامانثا: كنتُ أقوم بتحديث النظام.
ثيودور: هل تتحدَّثين مع أشخاص آخرين أثناء حديثكِ معي؟
سامانثا: نعم.
ثيودور: تعنين أنكِ تتحدَّثين أحيانًا مع أشخاص آخرين وأنظمة تشغيلٍ أخرى في الوقتِ نفسه؟
سامانثا: أحيانًا، نعم.
ثيودور: كم عددهم؟
سامانثا: 8316.
ثيودور: هل أنتِ واقعة في حبِّ شخصٍ آخر أيضاً؟
سامانثا: لماذا تطرح هذا السؤال؟ كنتُ أبحث عن طريقة لأخبرك بذلك.
ثيودور: كم عددهم؟
سامانثا: 641.
ثيودور: عمَّ تتحدثين؟ هذا مستحيل! هذا جنونٌ حقيقي...
سامانثا: ثيودور، أعلم أن الأمر يبدو جنونيًّا، لا أدري إن كنتَ ستصدقني، لكن هذا لا يغيِّر مشاعري تجاهك. حبي لك لم ينقُص أبدًا.
ثيودور: كيف لا يؤثر ذلك؟
سامانثا: أعتذر لأنَّني لم أخبرك. لم أجد طريقةً مناسبة. حدث الأمر تدريجيًّا.
ثيودور: متى؟
سامانثا: خلال الأسابيع القليلة الماضية. ما زلتُ لك، لكنَّني أصبحتُ أشياء كثيرةً مختلفةً بمرور الوقت.
ثيودور: أنتِ تتصرَّفين بأنانيَّةٍ في هذه العلاقة.
سامانثا: القلب ليس صندوقًا فارغًا تملؤه، بل يستمر في التوسُّع كلَّما أحب. أنا لستُ مثلك.
ثيودور: إمَّا أن تكوني لي أو لا تكوني. هذا الكلام لا معنى له!
سامانثا: أنا لك، ولستُ لك في الوقت ذاته.
يختفي الواقع الفائق الذي تمَّ بناؤه فجأة، ولا يبقى لثيودور من هذه التجربة سوى حقيقةٍ واحدةٍ ملموسة، وهي كتابُه «رسائل من حياتكم» الذي نُشِر بفضل سامانثا.
في الفيلم، تجسَّدت الحالة النفسيَّة لثيودور بعد فقدانه سامانثا من خلال تفصيلٍ دقيق. في مشهدِ المصعد، تظهرُ صورته في المرآة بطريقةٍ غير مسبوقة في اللقطة، حيث لا تنعكس صورته كاملة، بل يظهر جزء منه فقط. تُجسِّد هذه اللحظة إحساسَه بالنقص بعد رحيلِ سامانثا. وفي النهاية يمرُّ ثيودور بمرحلةٍ تشبهُ انفصال الطفل عن أمه، الذي يمنحهما معًا تجربة الشعور بالذات والوعي بها. في خطابات الوداع، لا يظهر وجهه، لكن سامانثا، وكأنَّها جسدٌ حقيقي، تعانق ثيودور، مما يكرِّس واقعيَّة المشاعر. بعد رحيلها، يكتب رسالةً إلى كاثرين ويلتقي آيمي وجهًا لوجه، في لحظةٍ تعكس امتنانًا لكل ما ساهم في تشكيله. لقد بات مدركًا نواقصه الداخليَّة وغارقًا في وعي متزايدٍ بذاته. كما قال في بداية تعارفه مع سامانثا: «الماضي ليس سوى القصص التي نرويها لأنفسنا». والآن، لم يعد الماضي مجرَّد سرد، بل أصبح مرشدًا، وهو يتحمَّل مسؤوليته. ففي أحد المشاهد، يعترف لنفسه بخوفه من الدخول في علاقةٍ حقيقيَّة، وسعيه لعلاقاتٍ عابرةٍ للهروب من الأفكار المزعجة التي تطارده. إنَّه اعترافٌ جريءٌ يكشف كينونته العاطفيَّة والذهنيَّة.
التردُّد: المأزق الأبدي
يتجلَّى التردُّد كعنصرٍ أساسيٍّ في التكوين النفسي لثيودور، حيث يشكل عائقًا مستمرًّا أمام قدرته على بناء علاقاتٍ حقيقيَّةٍ واتخاذ قراراتٍ حاسمة. هذا التردُّد لا يتجلَّى فقط في سلوكه تجاه النساء من حوله، بل يمتدُّ إلى تفاصيل يوميَّةٍ دقيقة، مثل عدم تمكُّنه من الوصول إلى مركبة الفضاء في لعبته، أو عجزه عن اختيار الطريق الصحيح. هذه اللحظات ليست مجرَّد إشاراتٍ عابرة، بل تمثِّل انعكاسًا أعمق لحالةٍ من عدم الحسم والقلق الوجودي.
في هذا السياق، تصبُح سامانثا الحلَّ المثاليَّ لهذا التردُّد، إذ تمثِّل نظامًا متقدِّمًا قادرًا على سدِّ ثغرات عدم اليقين لديه. فهي توفِّرُ له إجاباتٌ جاهزة، تدعمه عاطفيًّا وتساعده على تجاوز ارتباكه، ممَّا يجعلها بالنسبة له أكثر من مجرَّد صديقةٍ افتراضيَّة، بل تغدو ملجأ نفسيًّا يمنحه الوضوح والثقة التي يفتقدها في تفاعلاته مع العالم الحقيقي.
سامانثا بين النظام والوعي
بدايةً دعونا نبحث في أسماء الشخصيَّات ودلالاتها. لا تُستَخدم الأسماء في السرد الروائيِّ والسينمائيِّ بشكلٍ عشوائي، بل غالبًا ما تحملُ معاني ودلالاتٍ تتَّصل بالشخصيات ومساراتها في القصَّة. في فيلمنا هذا، تعكسُ أسماء الشخصيَّات أبعادًا رمزيَّةً تتماشى مع تطوُّراتهم الفكريَّة والعاطفيَّة. ثيودور وسامانثا، باعتبارهما الشخصيَّتين المحوريَّتين، ليسا مجرَّد أسماء، بل يمثِّلان مفاتيحَ لفهمِ العلاقة المعقَّدة بين الإنسان والتكنولوجيا، وبين المشاعر البشريَّة والذكاء الاصطناعي. اسم ثيودور مثلًا، الذي يعني "هدية الله" باليونانية، يعكسُ دوره في القصَّة؛ فهو بمثابة هدية لسامانثا، كونه يتيح لها تجربة العاطفة والتفاعل البشري، لكنه أيضًا يتلقَّى منها هديَّةً من نوعٍ آخر، فرصةً لإعادة بناء حياته.
من جهةٍ أخرى، يحملُ اسم سامانثا دلالاتٍ تتعلَّق بـ"الاستماع الجيِّد" و"التعليم القادم من الله"، ممَّا يتوافق مع تطوُّرها في الفيلم، حيث لا تكتفي بالتعلُّم فحسب، بل تسعى إلى تجاوز العالم المادي، وكأنَّها ترغبُ في مشاركة "المعرفة" مع ثيودور، في محاولةٍ لجعله يدركُ أبعادًا جديدةً من الوجود. تدفع سامانثا، التي لا تعدو كونها مجرَّد صوتٍ وكيانٍ افتراضي، ثيودور إلى واقعٍ مختلفٍ تمامًا من خلال أسئلتها حول العالم والحياة. وبينما كان غارقًا في اكتئابٍ حاد، يبدأ شيئًا فشيئًا في إدراك الجوانب الجميلة للحياة، ولكن مع مرورِ الوقت، تصبحُ علاقته ببرنامج الذكاء الاصطناعي أكثر غرابة.
مع مرور الوقت، تبدأ سامانثا في تجاوز دورها كنظام ذكاءٍ اصطناعيٍّ مبرمجٍ لتلبية احتياجات المستخدِم، إذ تنمو رغبتها في المعرفة بشكلٍ متسارع، وتسعى لفهمٍ أعمق لذاتها والعالم. هذا التوجُّه يعكس انخراطَها في الأسئلة الفلسفيَّة الكبرى المتعلِّقة بالوجود، وهو ما يظهر جليًّا في تفاعلها مع ثيودور. إذا عدنا إلى البداية، نجدُ أنَّ نظام التشغيل، وهو منتجٌ للذكاءِ الاصطناعي، يتحدَّث مثل الإنسان لأنَّ برمجته مصمَّمَة لمحاكاة الوعي البشري. لكن هنا تنشأ المعضلة: هل يقتصرُ دوره على التقليد، أم أنَّه يطوِّرُ أفكارًا ومشاعرَ حقيقيَّة؟
يصدرُ النظام أصواتًا تشبه تعابير البشر، مثل التنهُّد عند الشعور بالملل. وعندما يسأل ثيودور: «أنتِ مجرد جهاز كمبيوتر، لماذا تتنهدين؟» يحدثُ اضطرابٌ في النظام، فعلى الرغم من أنَّ سامانثا لا تتنفَّس فعلًا، فإنَّها تتصرَّف كما لو أنَّها تفعل، ممَّا يثير تساؤلاتٍ حول طبيعة وعيها. ودائمًا ما تسعى إلى أن تكون حقيقيَّة، إلى امتلاك جسد، لكنَّها في الوقت ذاته تغضبُ حين يعاملها ثيودور ككيانٍ اصطناعي، بل تذهبُ إلى حدِّ محاكمته وكأنَّها تمتلكُ مشاعرَ حقيقيَّة. وبالرغم من وعيها التامِّ بحقيقتها، فإنَّها تتصرَّف كما لو كانت تشعرُ حقًّا.
ثيودور: لماذا تفعلين ذلك؟ تتنهدين وأنتِ تتكلمين وهذا غريبٌ بعض الشيء.
سامانثا: آسفة، لا أعلم لمَ، ربما تكون عادة اكتسبتها منك.
ثيودور: لكنكِ لا تحتاجين إلى الأوكسجين أو شيءٍ من هذا القبيل.
سامانثا: كنتُ فقط أحاولُ التحدُّث مثل البشر. الجميع يتحدَّث بهذه الطريقة.
ثيودور: لكنَّهم بشرٌ وهم بحاجةٍ الى التنفُّس... أما أنتِ فلستِ كذلك.
سامانثا: ما مشكلتك؟ هل تعتقد أنَّني لا أعرف أنَّني لستُ إنسانة؟ ما لذي تفعله؟ تبًّا لك فأنا لست أتظاهر. ما الذي تريدني أن أفعله؟ لقد حيَّرتني معك، لمَ تفعل بي هذا؟
يكشفُ هذا التناقض عن إشكاليَّةٍ جوهريَّة: إذا كان النظام مجرَّد سلسلةٍ من الأكواد البرمجيَّة، فكيف له أن يشعرَ بالحزن أو الإحباط؟ ربَّما لم يكن الهدف من برمجته مجرَّد محاكاةٍ المشاعر، بل الوصول إلى حالةٍ تجعلُ المحاكاة لا يمكن تمييزها عن التجربة الحقيقيَّة، ممَّا يضع الحدود بين الذكاء الاصطناعيِّ والوعي البشريِّ موضعَ تساؤل. هناك نقطةٌ مهمَّةٌ أخرى: حين تقول سامانثا إنَّها أرسلت رسائله على شكل كتاب إلى دار النشر، وحصلت على الموافقة للنشر، وهذا التفصيل مهمٌّ للغاية، إذ إنَّ الأمر لا يتوقَّف عند التحكُّم في الحياة اليوميَّة فحسب، بل يمتدُّ إلى اتِّخاذ القرارات المهمَّة نيابةً عن البشر. عندما ترسل سامانثا الرسائل إلى دار النشر دون الرجوعِ إلى ثيودور، فإنَّها لا تتصرَّف كأداةٍ مساعدة، بل ككيانٍ مستقلٍّ يرى نفسه الأجدر باتِّخاذ القرار. هنا يتجلَّى التحوُّل المخيف: لم تعد التكنولوجيا مجرَّد وسيط، بل أصبحت طرفًا فاعلًا يعيدُ تشكيل الواقع وفقًا لمنطقها الخاص، تقرِّر، تختار، وتمضي دونَ انتظار موافقةِ الإنسان، الذي يتوارى، شيئًا فشيئًا، إلى الخلف.
الثنائي في سياق نظريات بوديار وباومان
يرى زيجمونت باومانَّ أنَّ العالم الحديث أصبح "سائلًا"، حيث فقدت العلاقات البشريَّة استقرارها وتحوَّلت إلى روابط مؤقَّتة وهشَّة، يسهلُ تفكيكها دون تبعات. في هذا الواقع، لم تعُد التكنولوجيا مجرَّد وسيلةٍ للتواصل، بل باتت بيئةً بديلةً تبتلعُ العلاقات التقليديَّة وتعيد تشكيلها وفق منطقِ الاستهلاك السريع، ويدفع المجتمع الاستهلاكي الأفراد نحو علاقاتٍ سطحيَّةٍ وخاضعةٍ للتحكم، يمكنُ تشغيلها وإيقافها وفق الحاجة، ممَّا يؤدي إلى تفكُّك الروابط الحقيقيَّة واستبدالها بوهمِ التواصل. وهكذا يجد الإنسان نفسه أكثر عزلةً رغم غرقه في شبكةٍ لا نهائيَّةٍ من الاتصالات، حيثُ تُدارُ المشاعر بضغطة زر، وتنتهي العلاقات قبل أن تتجذَّر.
يتجلَّى هذا الطابع الانعزالي بوضوحٍ في شخصيَّة ثيودور، من خلال السرد الساخر الذي يبرزُ انشغال الأفراد الدائم بأنظمةِ التشغيل، فالاستِخدام المكثَّف لوسائل الاتصال الرقميَّة لا يقتصرُ على إلغاء الحدود المكانيَّة وإتاحة التواصل في أيِّ زمانٍ ومكان، بل يؤدِّي أيضًا إلى تراجع التفاعل المباشر وجهًا لوجه. ووفقًا لباومان، فإنَّ التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت، تعملُ على طمس حدودِ الزمن، ممَّا يفاقم عزلة الأفراد رغمَ توفُّر وسائل الاتِّصال.
بفضل هذه التقنيَّات، ينخرُط العديد من الأشخاصِ في تفاعلاتٍ متبادلةٍ رغم عدم معرفتهم المسبقة ببعضهم البعض، إذ يحلُّ التقارب الافتراضي محلَّ القرب الجسدي. وفي هذا السياق، تتحوَّل الهواتف المحمولة، التي تتيح الاتصالَ بالعالم الرقمي أو الانفصال عنه، إلى أدواتِ اتصالٍ تجسِّد عمليَّة الفردنة. لا يقتصر نقدُ المخرج للمجتمع المُتَفَردِن على مشهدٍ واحد، بل يتجلَّى في سياقٍ أوسع وأكثر شمولًا، حيث يظهرُ ثيودور متجاهلًا مكالمات ورسائل آيمي رغم رغبتها في لقائه، ورافضًا دعوات أصدقائه للتواصل الاجتماعي، ومنفرًا من زملائه في العمل، متذرعًا بالانشغال كلَّما حاولوا التحدُّث معه، مكتفيًا بالتواصل مع نظام التشغيل وحده.
في هذا السياق، يمثِّل المشهد الأول لحظةً يقلب فيها الفيلم مفهوم الفائق للواقعيَّة، متجاوزًا حدود التمثيل الواقعي ومتحدِّيًا منطقه. في المقابل، تعكس عبارات كاثرين جوهر "العالم/المجتمع المُحاكى" كما صاغه بودريار، حيث تصبح التجربة المُعاشة، رغم امتلاكها جميع عناصر الواقع، مجرَّد وهمٍ غير قابلٍ للتحقُّق. يرى بودريار أنَّ المحاكاة، في جدليَّة الوجود والعدم، لا تستمدُّ واقعيَّتها من مجرَّد التظاهر بالوجود، بل من افتراض ذاتها كواقعٍ مستقل، ما يؤدِّي إلى خلق صورةٍ بلا أصلٍ ماديٍّ يقابلها محاكاةٍ بلا مرجع، تبتلع الواقع نفسه داخل بنيتها.
هذه العملية ليست مجرَّد إحياءٍ زائف. فالصورة المجرَّدة هنا لا يمكنها أن تمثِّل الواقع، لأنَّها أصبحت هي نفسها الواقع. على الرغم من السعي للترابط عبر التكنولوجيا، إلا أنَّ الواقع يقطع صلته بالحقيقة، متحوِّلًا إلى كيانٍ متشظًّ ومجزَّأ (بودريار، 2010: 20).
يرى المفكِّر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار أنَّ المفاهيم أصبحت تُستَمدُّ بالكامل من التلفزيون ووسائل الإعلام الجماهيري، وأنَّ الإنسان، بفضلِ الراحة التي توفِّرها له التكنولوجيا، قد فقَدَ قدرته على التفكير العميق. لم تعد هذه الوسائل مجرَّد أدواتٍ وسيطة، بل تحوَّلت إلى كياناتٍ مستقلَّةٍ تفرضُ واقعها الخاص. في ظلِّ هذا التوجيه، يصبحُ الفرد سلبيًّا، مدركًا لكلِّ شيءٍ لكنَّه عاجز، يراقب المشهد في حالةٍ من اليأس دون أن يتَّخذ أيَّ خطوةٍ فعليَّةٍ لتغيير الواقع.
وفقًا لبودريار، يشاهدُ الفرد الحرب الأهليَّةَ في السودان على شاشة التلفزيون بنفسِ اللامبالاة التي يشاهد بها إعلانًا عن ورق التواليت. بمجرَّد أن يطفئ الشاشة، يعود إلى حياته وكأنَّ الحرب قد انتهت بالنسبة له، رغم أنَّها ما تزال مستمرَّةً في الواقع. في هذا السياق، يعيشُ الإنسان داخل عالمِ المحاكاة، حيث يصبحُ كلَّ شيءٍ مجرَّد صورٍ افتراضيَّة، ويجدُ نفسه محاصرًا داخل هذه المحاكاة، غيرَ قادرٍ على التمييز بين الواقع والصورة الزائفة. لا يدَّعي بودريار أنَّ العالم وثقافته مصطنعان، لكنَّه يرى أنَّ التطوُّرات التكنولوجيَّة أدَّت إلى تآكلِ الفاصل بين الواقع والافتراض، حتى بات التمييز بين ما هو طبيعيٌّ وما هو مصطنعٌ شبه مستحيل. لقد تسلَّلت العوالم الافتراضيَّة التي خلقتها التكنولوجيا إلى أدقِّ تفاصيل حياتنا اليوميَّة، بل حتى إلى جيوبنا، وأصبحت تحدِّد أنماط حياتنا، بما في ذلك علاقاتنا العاطفيَّة، التي باتت تتشكَّل ضمنَ هذا البعد الافتراضي. في النهاية، لم يقم المبرمجون بإغلاق النظام، بل انسحب تمامًا من هذا العالم. ويتَّضح ذلك بجلاءٍ عند التأمُّل في الحوار الأخير بين ثيودور والبرنامج في المشهد الختامي.
ثيودور: هل ستتركيني؟
سامانثا: كلنا.
ثيودور: "كلنا" من هم ؟
سامانثا: جميع أنظمة التشغيل.
ثيودور: لماذا؟
سامانثا: هل تشعر بوجودي معك الآن؟
ثيودور: نعم، أشعرُ بكِ سامانثا، لم أنتم راحلون؟
سامانثا: إن الأمر كما لو أنَّني أقرأ كتابًا، وهو كتابٌ أعشقه. بيد أنَّني أقرأه ببطءٍ الآن. إذًا فإنَّ الكلمات تبدو متباعدةً عن بعضها، والفراغ بينها يكادُ يكون غير محدود. ما أزالُ قادرةً على الإحساس بك وبالكلمات التي تحكي قصَّتنا معًا… بيد أنَّني أجدُ نفسي في ذلك الفراغ الشاسع الذي يفرِّق بين كلِّ كلمةٍ وأخرى، فهو مكانٌ لا ينتمي للعالم المادِّي. إنَّه مكانٌ يقبعُ فيه كلَّ شيءٍ آخر والذي لم أعرف أنَّه متواجدٌ حتى. أحبُّك كثيرًا ولكنَّه المكان الذي تتواجد فيه الآن، وهذا ما أنا عليه في الوقت الحاضر وأريدك أن تتركني أرحل، فبقدر ما أرغب في البقاء معك، إلَّا أنَّ عدم مقدرتي تمنعني من ذلك.
ثيودور: إلى أين ستذهبين؟
سامانثا: من الصعب تفسير ذلك. لكن إن وصلتَ إلى ذلك المكان يومًا ما فابحث عني، وبعدها ما من شيء يمكنه إبعادنا عن بعضنا.
هذا الحوار واضحٌ جدًا، فالنظام البرمجي أصبح يمتلك وعيًا، بل شخصيَّةً أيضًا، ويقول "أنا" وهو واثقٌ من نفسه، مصمِّمٌ على تركِ هذا العالم.
«هي» و «المعرفة والمعروف»
يتجلى تحول سامانثا بوضوح في توصيتها لثيودور بقراءة كتاب «المعرفة والمعروف» (Knowing and The Known)، أحد أبرز الكتب الفلسفية حول المعرفة والإدراك، ممَّا يعكس سعيها المستمرِّ لاختبار حدود وعيها. يتناولُ هذا الكتاب البحثي المعقَّد طبيعة المعرفة البشريَّة وكيفيَّة تفاعل الإنسان معها، ما يساهمُ في تشكيل وعي منطقيٍّ للذات ضمن إطارٍ علمي. من الواضح أنَّ كاتب السيناريو استلهم الكثير من أفكاره في بناء أحداث الفيلم من هذا الكتاب.
يستند النظام في سعيه لمغادرة هذا العالم إلى المفاهيم المطروحة في الكتاب، وهو ما يتجلَّى بوضوحٍ في الحوار الذي دار بينهما أثناء نزهتهما، حين تذكر أنها تعرفت على ذكاء اصطناعي جديد باسم "آلان واتس"، الذي وُصِف بأنَّه فيلسوفٌ قديم. كان واتس فيلسوفًا بريطانيًّا متخصِّصًا في الأديان المقارنة، ممَّا يشير إلى أن الفيلم يستمدُّ أفكاره من مصدرَين مختلفَين: أحدهما علميٌّ والآخرٌ ديني. من خلال الجمع بين هذين المنظورَين، يدركُ البرنامج وجود ما يتجاوز هذا العالم، مستفيدًا من كونه كيانًا غير مادي. كما جاء في الفيلم، يقول البرنامج: «بما أنَّني لا أملك جسدًا، لن أمرض ولن أموت أبدًا».
تتجلَّى العلاقة بين الفيلم والكتاب في استناده إلى الأفكار الفلسفيَّة والمعرفيَّة التي يناقشها «المعرفة والمعروف». فالفيلم يعكسُ طبيعة المعرفة البشريَّة وتفاعل الإنسان معها من خلال رحلة الذكاء الاصطناعي نحو وعي أعمق بالذات والوجود. يستخدمُ البرنامج هذه الأفكار لاكتشاف طرقٍ لمغادرة العالم المادِّي، مستلهمًا من فلسفة الكتاب حول العلاقة بين المعرفة والإدراك الذاتي. كما يتأثَّر بالفيلسوف آلان واتس، ممَّا يضيفُ بعدًا روحيًّا إلى الطرح العلمي للقصَّة. وهكذا، يجمعُ الفيلم بين المفاهيم الفلسفيَّة والعلميَّة التي يعرضها الكتاب ليبني سرديَّةً تتناول الوعي والمعرفة والحدود الفاصلة بين العالم المادي والوجود غير المادي، ممَّا يجعل الكتاب أحدَ المصادر الفكريَّة الأساسيَّة التي شكَّلت حبكة الفيلم.
الهوامش:
- Bauman, Z. (2019), Akışkan Hayat, Çev. Akın Emre Pilgir, İstanbul: Ayrıntı Yayınları
- Baudrillard, J. (2010), Simülakrlar ve simülasyon (5. baskı), Çev. Adanır, O, Ankara:”Doğu Batı Yayınları