لم يمرّ عامٌ كاملٌ على نهاية مسلسل «قيم أوف ثرونز» (Games of thrones) المخيبة للآمال، حتى أعلنت شبكة (إتش، بي، أو) عن عملٍ جديدٍ آتٍ من مملكة «ويستروس»، وهذه المرة وبعد أن تلقى المسلسل سيلاً هائلاً من الانتقادات من محبيه والنقاد على حدٍ سواء، أكدت الشبكة على إيمانها بصانع العمل الأصلي الروائي والكاتب (جورج ر.ر. مارتن)؛ حيث أنه سيتولى مشروع كتابة المسلسل والإشراف عليه. والكتابة للتلفاز كمهنة تختلف جذريًا عن الكتابة للسينما، ففي السينما، يُعنى الكاتب بنصّهِ السينمائيّ فقط، وبنسبة كبيرة قد لا يتدخل بعملية التصوير والإنتاج، ولكن الأمر يختلف تمامًا في التلفزيون، فكاتب المسلسل هو صانعه، ويشرف على كل العمليات منذ كتابة النص، وحتى آخر مراحل التحرير والتوليف. أشهر الأمثلة على صانعي المسلسلات يأتي على رأسهم ديفد تشيس مع مسلسل «سوبرانوز» (The Sopranos)، فينس غيليغان مع «بريكنغ باد» (Breaking Bad)، و«بيتر كول سول» (Better Call Saul)، وديفد سايمون مع «ذا واير» (The Wire).
لذلك كان وجود (جورج ر.ر. مارتن) خلف هذا العمل الجديد بالكامل عوضًا عن الاكتفاء بكتابة المادة الأصلية فحسب، هو أولى جرعات الثقة التي شعر بها الجمهور والنقاد حول العمل؛ فقد كان من الواضح عدم رضا الكاتب عن نهاية المسلسل المقتبس من ملحمته الروائية «أغنيةُ الجليدِ والنار»، واعتقاده أنّ العمل كان من الممكن استمراره لعدة مواسم بدون الحاجة إلى إنهائه بهذا الشكل المتسرّع. لكن طريقة كتابة «نيرانٌ ودماء» تختلف بشكلٍ كبير عن السلسلة السابقة، ففي «أغنية الجليدِ والنار» يحرص جورج مارتن على تقديمِ كل فصلٍ من منظورِ شخصيةٍ بعينها، ورواية الأحداث تكون مليئة بالاستكشاف لهذه الشخصية من جانبِ الحوارات الداخلية، والأفكار الملازمة لها، بينما في «نيران ودماء» يختلف الموضوع، وليس هناك فصول خاصة بالشخصيات؛ بل يُعتبر الكتاب أشبه ما يكون بمجلدٍ تاريخيّ يهتم بجمع أشهر القصص والأقاويل التي نُشرت عن تلك الحقبة الزمنية، وأثناء قراءة الكتاب سوف تلاحظ تضارب الروايات بمختلف الأشخاص الذين يروونها، واختفاء النبرة الشخصية في روايةِ الأحداث. يؤثر ذلك على العمل من ناحيتين، فمن ناحية يمنح الكاتب حيزًا وحريةً أكبر لاستكشاف الشخصيات بشكلٍ أعمق؛ لأنها مناطق لم يتم استكشافها بعد، ومن ناحية أخرى فهو يعني حتمية رسم الأحداث بشكلٍ دقيق ومليء بالتفاصيل؛ لأن المادة الأدبية التي اقتبس منها العمل لا تُعدّ سوى خريطة مبدئية ينطلق منها صُنّاع المسلسل.
بمعرفة هذا الأمر، كان من المتوقع أن نشاهد عملًا مختلفًا تمامًا عما عهدناه، واتضح ذلك منذ الحلقة الأولى، وأول هذه الاختلافات كانت صغر البيئة التي قدمها المسلسل قياسًا بما قدمه «قيم أوف ثرونز»، فلم تُقدّم العديد من العوائل والممالك التي كانت سببًا في تشتيت المتابع، وعلى العكس من ذلك، انصب التركيز على عددٍ قليلٍ من الشخصيات كلها في مكانٍ واحد، والاختلاف الآخر كان في بطءِ السرد في بداية الحلقات، فلم يكن هناك حدث ضخم يهز أرجاء المسلسل أو شرّ يقترب من أبطالِ القصة منذ البداية؛ بل كنا نشاهد المسلسل يأخذ وقته بالكامل في تشكيل العلاقات بين شخصياته، والاهتمام بتطوير الصراعات الشخصية، والتي سوف يرتكز عليها المسلسل لتحريك القصة والأحداث. كما كان هناك قفزات زمنية متعددة في غضون عدة حلقات فقط، لكنه أمر متفهم للغاية نظرًا لامتداد مسار القصة على سنواتٍ طويلة، وأهمية تأسيس علاقة تربط المشاهدين بهذه الشخصيات. وحتى أثناء البداية البطيئة للقصة، كان هناك اهتمام حقيقيّ ببناء عالم متكامل، اهتمام يشمل تفاصيل لم نكن حتى لنشهدها في «قيم أوف ثرونز»، فهناك اهتمام واضح في رسم شعاراتِ العوائل، وتصميم دروعها وملابسها؛ بل وحتى الاهتمام بطريقة تصميم التنانين وكيفية تمييز كل واحد عن الأخر، كل ذلك يسهم في بناءِ عالمٍ جديدٍ ومتكامل، عالم يحتضن القصة والمشاهدين بكل حميمية ويعزلهم عن العالمِ الواقعيّ. ومرحلة بناء العالم هي مرحلة جوهرية في بدايةِ أعمال الخيالِ التاريخيّ والخيالِ العلميّ، ومن الجليّ أن صناع العمل لم يريدوا الاكتفاء بالعالم الذي صُنعَ في المسلسل السابق؛ بل إنشاء أساس جديد يستند عليه «هاوس أوف ذا دراغون» (House of the Dragon).
مع اقتراب منتصف الموسم، لم يكن هناك سرعة ملحوظة في سردِ الأحداث، بل من الممكن أن نقول، بأنّ معالم القصة لا زالت غير واضحة، ولم يتضح من هم أبطال القصة الحقيقيين، وما هي طريقة توزيع الأحزاب. وبمجرد مرور منتصف الموسم، حتى اختلف كل شيء جذريًا، وكل البناء البطيء للأحداث الذي شهدناه في خلال خمس حلقات كاملة آتى ثماره. التركيز المطوّل على علاقة الشخصيات بعضها مع بعض، وأهمية تأسيس هذه الصراعات، أظهر المسلسل بهيئةٍ مختلفةٍ تمامًا. كان هناك اختلاف في النبرة السردية للمسلسل، هناك ظلام وسوداوية يخيّمان على جميعِ الشخصيات، الصراعات والاختلافات التي تأسست في البداية لم تتم معالجتها خلال هذه السنوات، لكنها استمرت بالنمو تدريجيًا حتى غمرت الجميع. محكّ القصة ارتفع، والأجواء كانت دائمًا مشدودة، وهناك مواجهة دموية حتمية تستطيع كمشاهد أن تشعر باقترابها، ولكن دون أن تعلم موعد انفجارها تمامًا. كل ذلك لم يكن ليحدث لولا عملية البناء المتمهلة في البداية، والتي انصب تركيزها بالكامل على علاقة الشخصيات بعضها ببعض.
من المهم ملاحظة أنّ المسلسل لم يخلُ من العيوب بأي شكل من الأشكال، وحتى في نصفه الثاني الذي تحسن فيه بشكل كبير، وارتفعت فيه حِدّة المَشاهد وأداء الممثلين، إلا إن به بعض العيوب السردية؛ لكنها لا تتعدى كونها اختيارات غريبة من الشخصيات، تجعل المُشاهد يتوقف قليلاً ليتساءل عن سبب هذا الخيار، ويتم غمرها بالاهتمامِ الرائع الذي يبديه صُنّاع العمل في تطويرِ القصة.
حتى في طريقة التصوير يظهر اهتمام الصُنّاع بتقديم العمل بتصويره بطريقة سينمائية، بمعنى أن المسلسل ليس عبارة عن كاميرا مُسلّطة على الشخصيات أثناء الحوار، وليس مجرد تصوير مَشاهد دموية في المعارك؛ لكن الصورة لها اهتمام بقدر الحوارات، وما لا تقوله الشخصيات يمكن للمُشاهد عن كثب أن يلاحظه من طريقة تصرفاتها أو تعابير وجهها.
ساعد هذا الأسلوب في إيجاد المسلسل نبرته الخاصة البعيدة كل البعد عن «قيم أوف ثرونز»، وكمثال على ذلك، أحد أفضل مشاهد المسلسل وهو مشهد دخول الملك «فيسيريس» لغرفة العرش، لحضور محاكمة أحقية أحفاده وشرعيتهم بالحكم.
منذ بداية المسلسل كان مرض «فيسيريس» المُنهك ثيمةً دائمةً يتعامل معها المسلسل في كل حلقة تقريبًا، وقد نتعجب من استمرار هذه الثيمة بهذه الكثافة، إذ كنا نعلم أن النتيجة الحتمية هي موت الملك «فيسيريس»، واحتوى جزء كبير من الحلقة الثامنة على التركيز والحِدّة في تصوير مرض الملك، وكيفية تآكل جسده وعدم مقدرته على القيام بأبسطِ المهام اليومية.
كل ذلك بُذِل من أجل إيصال فكرة أنّ خطوات الملك القصيرة في غرفة العرش، كانت أصعب ما قام به طوال حياته، تلك الخطوات التي أثقلها المرض والحكم والمسؤولية لم تكن لتحمل نفس الأهمية، ونفس التأثير على المشاهدين لولا استغراق المسلسل وقتًا طويلًا في تصوير مرض «فيسيريس» ومعاناته.
وكما ذكرتُ مسبقًا، فمسلسل «هاوس أوف ذا دراغون» لم يخلُ من العيوب بأي شكلٍ من الأشكال؛ لكن النضج والهدوء الذي يبذله المسلسل في سرد القصة، واختيار اللحظات المناسبة لإشعال فتيل الأحداث، هو أمر مُبشر للغاية، خصوصًا أن كل ما حصل خلال الموسم كان تمهيدًا للأحداث القادمة.