- المخرجة أنهار سالم، يسعدنا ويشرِّفنا استقبالك لإجراء هذا الحوار؛ بدايةً هل يمكنكِ تعريف القراء بشخصكم؟
أنهار سالم، يمنية مولودة بجدة. درست تقنية معلومات بالجامعة العربية المفتوحة، وعملت مصممة جرافيك وفنانة فيديو بالسعودية. ثم أتتني منحة لفرنسا لأخذ دبلوم الفنون السمعية والبصرية المعاصرة باستديو لو فريسنوي بمدينة توركوان؛ حيث أُنتج آخر فيلمين لي.
- وماذا عن تجربتك السينمائيّة المبكرة؟
بدأت ممارستي للتصوير والمونتاج منذ الصغر؛ بمشاريع المدرسة أو بمرافقة الأهل والأصدقاء. ومع دخولي لمجتمع السينافيليين السعوديين من خلال تويتر وتيليجرام وليتربوكسد، وبمجموعة أنشأت بواسطة الزميل فهد الأسطا، استطعت إنشاء دائرة مقربة أصغر؛ أشارك فيها تجاربي بالهاتف المحمول، وذلك حول عام ٢٠١٥. ومع تصاعد عدد مشاهداتي للأفلام مع الصديقين فلاديمير وأسعد بدوي، وجدت نفسي أتخذ مسارًا تجريبيًّا ووثائقيًّا بسيطًا، فقط من خلال الصورة والموسيقى.
- كيف وجَّهتك علاقتك بالسينما في أعمالكِ كمخرجة أفلام؟
صناعة الأفلام هي اتخاذ موقف مسؤول تجاه الأفلام التي يشاهدها المخرج -كما يقول جودار-. فبعد أن ننتهي من مشاهدة فيلم، كيف نستطيع التفاعل معه؟ ربما بمراجعة أو بقصيدة، أو محادثة أو نقاش أو نزهة، أو ربما ببساطة -أو بغير بساطة- بعمل فيلم آخر. كذلك هو نوع من التعاطي مع أشكال الفنون الأخرى؛ كعملية هضم وإنتاج لكل من الصورة، والصوت، والواقع، أو الوجود. عندما عَلمت أن بالسينما تجارب مستقلةً، شخصيةً، حميميةً وتجريبيةً، تتخذ من الهامش والسياق التشاركيّ نقطة انطلاق؛ كان ذلك بمثابة تغيير مفصلي أثَّر في حياتي الشخصية والمهنية، علمت حينها أن هذه طريقتي لهضم الواقع والصور التي أقتاتها، وتحويرها في مجال سمعي/بصري، يخصني ويخص أناسًا أهتم بهم من حولي.
- من أين نشأت لديك فكرة فيلم «مامي لامولا»؟
هذا العمل هو بداية مشروع مفتوح جدًا، قائم على اقتراح فكرة عمل روائي تعاوني بيني وبين أية عائلة عربية تقيم بروبيه؛ حيث تقيم الكثير من الجاليات العربية المهاجرة، وحيث أقيم وأؤدي منحتي الدراسية. لم أفكّر بأي شيء وقتها إلا بمقابلة العائلة المناسبة والراغبة في استخدام سياقها الشخصي في شكل فيلم، مثل فيلم Moi, un noir، (أنا، الزنجي) لجون روش. هذا تطلب مني قضاء أغلب وقتي في الانخراط بالمدينة -حيث كانت أول مدينة أقوم باكتشافها غير مدينتي جدة-، وسؤال الناس بالشارع، وأحيانًا دخول بيوتهم ومعرفة إذا كانوا جاهزين للتعبير والظهور.
وفي ليلة قررت فيها الذهاب إلى المغسلة، بعدما كب أطفال على رأسي وملابسي بعض البيرة بالشارع -ليست مبالغة-. دخلت ووجدت فتاة تغني أغنية "قال الأرنب لأمه" لطيور الجنة لطفلتها، بصوت عالٍ أمام الملأ على كرسيها، تنتظر أن تتنهي الغسالة. اندهشت من المنظر وأمتعني؛ لأنه من النادر رؤية شخص يغني في مدينة صناعية صغيرة عرفت عنها كآباتها، وشخص عربي أيضًا بمدينة عرف عنها تطرف يميني لسكانها. ذهبت إليها وسألتها أين بإمكاني شراء حليب بهذه الساعة المتأخرة، قالت لي: "تعالي ببيتي أنا أعطيكِ حليبًا".
ذهبت إلى منزلها وأعطتني الحليب، ثم أردفت قائلة إنه بإمكاني النوم عندها لأن الوقت أصبح متأخرًا. كانت تلك الرحابة المُبادِرة مؤشرًا جيدًا ومؤثرًا بالنسبة إلي. قلت إني موافقة وإني سأنام عندها. وعرضت عليها بعدها مباشرةً فكرة الفيلم، ثم أردفتْ أن التمثيل كان حلمها. وضَّحتُ لها أني لست الشخص المثالي لهذا لكننا سنحاول عمل شيءٍ ما.
بدأت مباشرة التصوير باستخدام هاتفي المحمول لدراسة ومراقبة حياتها؛ حتى يتسنى لنا كتابة الفيلم معًا. بيلا تار أقنعني أن تصويري لمجريات حياتها ووجودي معها يكفي، وكانت فاطمة نفسها تود أن توثق حياتها وأن تعرضها بكل شفافية على أية حال. رفضت بالبداية فكرته إلا أنه كان محقًا؛ ولأن كثيرًا من الأحداث حصلت خلال الشهرين الأولين من التصوير، والذي كان في وقت تطوير الفيلم. كانت فكرة صناعة فيلم روائي مأخوذ من حياتها فكرة غير سديدة؛ فالواقع الفعلي والواقع الذي صنعناه أنا وهي من خلال الكاميرا كان قد تشكَّلَ سابقًا في شكلٍٍ ما؛ حيث كنت أقوم بالتصوير واختيار اللقطات في نفس الوقت. انخراطي معها أتت معه محاولتي لاكتشاف الحياة الاجتماعية والثقافية لطبقة معينة للشتات الجزائري في فرنسا. ولذلك يحمل الفيلم هذا الاسم، حيث مامي كنية معروفة للشابات هناك، ولا مولا هي كلمة تعبر عن المال والمخدرات في ثقافة الراب مجملًا، ثم أعيد توظيفها واستخدامها الآن في الراب الفرنسي-الجزائري.
- بالتأكيد حين فكرتِ في إنجاز فيلم «مامي لامولا»؛ كنتِ تحلمين كثيرًا ببداية طريقكِ الفني كمخرجة أفلام. فهل «مامي لامولا» بالنسبة لكِ بداية حلم جديد عن سينما جادة؟ أم هو مجرد حلم عابر لفيلم عابر؟
لا أعلم إن كنت أحلم بأن أصير مخرجة، كنت أحلم بأن أوثِّق أكثر فقط. وصراحةً لم أفكر كثيرًا بهذا الفيلم بعدما قابلت فاطمة، كنت متوترة وفي حالة استغراق وتأهب تام لما يحدث في حياتها. المثير أنني في خلال أربعة أشهر أنهيت ست عشرة ساعة تصوير فقط؛ وهذا عدد ساعات قليل بالمقارنة بالوثائقيات الأخرى. وذلك لأني قضيت معظم وقتي معها وكنت أحاول أن أستشفَّ من الديناميك بيننا الوقت المناسب للتصوير، فنحن نقضي الكثير من الوقت معًا، خصوصًا عندما تركت زوجها بآخر أيامنا قبل مجيء كورونا.
بعدما انتهيت من مرحلة التصوير، وعند أول حجر صحي، توترت أكثر بشأن الفيلم، كنت أسائل نفسي كيف بإمكاني إعادة كتابة الأحداث والمجريات، ومعرفة ما أود إظهاره وإخفاءه بالتزامن مع إرادتها. بعدما انتهيت من المونتاج أو النسخة الأولى اقترح بيلا حذف فصل كامل قرابة النصف ساعة من الفيلم فيما يخص علاقتها الجديدة مع حبيب فرنسي جديد، حتى نكثف من شعور التعاطف لدى المشاهد تجاه معاناتها الفعلية، اعتمادًا على إيقاع الفيلم ومدته. قال لي جملة لم أتوقع أن أسمعها منه: "أنهار، يجب أن تحترمي المشاهد".
أشعر أني تعلمت أشياء كثيرة بمدة قصيرة، لكنها كانت أشياء بمجال ضيق، وعلى أية حال ما زلت ببداية البداية، لا أعلم إن كنت سأمضي أو سأقفز إلى بداية جديدة.
- أظن أنك المخرجة السعودية الوحيدة التي كانت تحت إشراف المخرج بيلا تار؛ حيث قام بالإشراف على كل مراحل العمل من التصوير للمونتاج، فكيف كانت تجربة هذا العمل الأولى من نوعها؟
أظن أن هناك أشخاصًا آخرين، الزميل مجتبى سعيد أيضًًا درس على يد بيلا تار. كانت تجربة مؤثرة على صعيد إنساني وفني، رغم أسلوبه الأبوي "أحيانا". كان في تلك الأثناء مريضًا -وما زال-، وكانت لقاءاتنا عبر سكايب وواتساب، وفي الواقع التقينا مرتين أو ثلاثًا فقط. أتذكر أول لقاء، هممت بشرح فكرتي من خلال قراءة أوراق كتبتها؛ إلا أنه قال: "لا أهتم بهذا الهراء، أريني فقط الصور التي لديك".
كما قلت سابقًا، أردتُ عمل فيلم روائي، بفريق عمل كامل وبمعدات احترافية، ورغبت أيضًا أن أعمل مع محرر فيديو، وكنت قد جربت ذلك فعلًا لمدة يوم واحد فقط؛ إلا أنه كان الوحيد الذي شجعني لإكمال بقية العمل وحدي اعتمادًا على سياقي الخاص وسياق الفيلم.
كنا قد تشاجرنا كثيرًا في مرحلة تقرير شكل الفيلم قبل التصوير وبعد المونتاج. وكان ينهي الشجار بقوله: "أنتِ صغيرة لا تفهمين، إذا اتخذتِ هذا القرار الأحمق ستندمين لاحقًا، أنا متأكد". أظن أنه الشخص الوحيد الذي سأظل ممتنة له فنيًا طيلة حياتي، كلنا نحتاج هذه الدفعة من الثقة من الخارج، وأنا قد وجدتها في تلك الفترة منه، وذلك ليس متعلقًا بشخصي ولا بشخصه؛ لأنه لا يعلم عن أعمالي السابقة ولا أنا لم أشاهد أهم أعماله (أنتظر الفرصة المناسبة لمشاهدة تانغو الخراب بالسينما، مؤخرًا تعلمت أن تأجيل مشاهدة الأعمال المهمة مفيد ومهم)؛ بل متعلق بطبيعة تلك الظروف والكيمياء التي نشأت بيننا بسبب هذا العمل نفسه.
- كيف يمكن للفيلم الوثائقي أن يساهم في الإشعار والتوعية بقضايا المجتمع؟
بالنسبة لي، حتى تجربة الفيلم الروائي قد تكون تجربة أكثر وثائقية؛ الأهم هو المبدأ أو النية نفسها بالتوثيق. التجربة الوثائقية قد تكون تجربة لطلب المعافاة أو التعبير أو الإثبات من خلال صناعة ذاكرة أو انطباع حول شيء ما. لذلك الفيلم الوثائقي مختلف عن التقرير الصحفي؛ بالوثائقي نعي أكثر باللعبة السردية لصناعة الذاكرة، بالنسبة إلي، التوثيق هي مقاومة للذاكرة الشعبية، لأنها تخص الأنا والآخر معًا.
- مَن المخرجون المعاصرون الذين تحبّينهم؟
أحب عباس فاضل، كازو هارا، محمد سويد، حكيم بلعباس، سارة مسفر، ساتو ماكوتو، كوريدا، تاكاهاتا، بيدرو كوستا، تساي مينغ ليانغ. ومخرجين آخرين للتو تعرفت عليهم. وأود أن أنخرط معهم أكثر: بايال كاباديا، كيدلت تاهيميك، برهان علوية، مي مصري, داوود عبد السيد، بيتر واتكنس.
- حدثينا قليلًا عن التجارب السينمائية التي تأثرتِ بها؟
عادةً أتأثر من أية تجارب وثائقية، تحمل أسلوبًا ونهجًا سرديًا جديدًا. بفترة صناعة فيلم مامي لا مولا كنت قد وضعت قائمة بالأفلام التي تأثرت بها بوعي أو بدون وعي: ريباست ١٩٥١ Repast 1951، بيتر موني ٢٠١٦ Bitter Money 2016، جان ديلمان ١٩٧٥ Jeanne Dielman 1975، إن ڤاندا"ز روم ٢٠٠٠ In Vanda's Room 2000، ذا هول ١٩٩٨ The Hole 1998. وأتذكر أني تأثرت من ماستر كلاس لبيدرو كوستا بمهرجان روتردام السينمائي، وشعرت أني أرى نفسي بما يقوله وقتها؛ حيث العلاقة مع الموضوع أو الشخصيات أهم من شكل الفيلم؛ بل هي الأساس الذي يبدأ منه كل شيء، ويعتبره البعض نهجًا فنيًّا رغم تحفظي على هذا الوصف".
وبفيلم غرام وانتقام، كنت قد أنشأت قائمة لمشاهدة أفلام دراما وإثارة ورعب كلاسيكية وإنترنتية وما بعد إنترنتية وسايبرپنكية، كفيلم فيرتقو Vertigo وبيرفكت بلو Perfect Blue وسنو كانون Snow Canon و انفرينديد Unfriended في سياق وثائقي-خيالي. مؤخرًا أصبحت أشاهد أعمالًا قصيرة لمخرجين مستجدين وواعدين من خلال الدائرة التي خلقها الاستديو والمهرجانات، وتلامسني كثيرًا من ناحية الشكل، أتمنى مشاركتها لكن من الصعب عدّها الآن.
- ما هي مشاريعك المستقبلية؟
اشتغلت مساعدة مخرج بفيلم قادم، للمخرج بول هاينز يدعى "نافورة". وحاليًا أرغب ببدء وثائقي حول السوق غير الخاضع للرقابة أو غير المنظم كجزء من معرض شخصي صغير بباريس ثم بجدة. وسأحاول كتابة فيلم روائي قصير عن الغبار والعلاقات الافتراضية، لا أدري، ربما، دعواتكم.