«هوبال» بين حكايا الطين وتعاويذ الخيام: سرديَّات الحنين والمكان

١٦ مايو ٢٠٢٥

مؤخرًا، اجتذبت الدراما السعودية جمهورًا واسعًا تميز بتعدد أطيافه ليشمل فئاتٍ أكثر تنوعًا واختلافًا. وهو استثناءٌ لم يحدث إلا مع مسلسل «طاش ماطاش»، وهذه حكاية أخرى. أما ما يحدث حاليًا فهو احتفاءٌ متمركز نسبيًا حول نمطٍ معينٍ من الدراما يمكن حصر نموذجها في ثلاثة أعمال: «خيوط المعازيب» الذي استدعى أجواء الستينيات في الأحساء، و«شارع الأعشى» الذي استعرض تحوّلات الرياض في السبعينيات، وفيلم «هوبال» الذي غاص في عزلة البدو قُبيل حرب الخليج. من هنا يصبح البحث عن المشترك الثقافي والنفسي بين هذه الأعمال الثلاثة أمرًا جديرًا بالتحليل.

هذا الاستحضار البصري لحقبةٍ ماضيةٍ، هل هو حنينٌ إلى تلك الحقبة أم تعبيرٌ عن نزعة نوستالجية جماعية، تواقة لخلق هوية، تنطلق من عيشٍ لقلقِ الحاضر؟ بمعنى آخر، هل هذه النوستالجيا تمثّل مقاومةً خفيةً لتحوّلات سريعة تعيشها السعودية اليوم؟ أم أنها، على العكس، وسيلةُ ترويضٍ ثقافيٍ تُعيد ضبط الذائقة العامة وتُعيد ترسيخ منظومة القيم التقليدية بما يتناسب مع الحاضر؟ للإجابة على هذا التساؤل، سنحلل الظاهرة من زاويتين: مقاربتها بدراما قد تتقاطع معها وهي الويسترن الأمريكى، وزاوية التحليل النفسي. 

من «هوبال» إلى «اليولوستون»: سرديات الأب والهوية في دراما الصحراء والغرب

إعادةُ تمثيل الحياة التقليدية المحلية، من خلال سرديات تحتفي بالماضي وإعادةُ إنتاج قيمه الاجتماعية والثقافية كما يتجلى في شعبية أعمال مثل «خيوط المعازيب»، «شارع الأعشى»، وفيلم «هوبال»، والتي تستحضر الحياة في الأحياء الشعبية أو الصحراء، وتُضفي على الماضي طابعًا رومانسيًا، هي ظاهرةٌ تحمل ملامح مُقاربة لما عُرف في هوليوود بـ "أفلام الويسترن"، والتي شكّلت، كما يشير ريتشارد و. سلاتا (Richard W. Slatta) في كتابه "الغرب الأسطوري: موسوعة الأسطورة والتقاليد والثقافة الشعبية"، وسيلةً لإعادة إنتاج أسطورة نشوء الأمة الأمريكية من خلال رموزٍ مثل الكاوبوي، الصراع مع الطبيعة، وقيم الفردانية. وكأن هذه الأعمال السعودية تمثل ما سمّاه فريدريك جيمسون (Fredric Jameson) بـ"النوستالجيا البنيوية"، حيث يُعاد بناء الماضي كمساحةٍ مثاليةٍ لتعويض قلق الحاضر.

في «خيوط المعازيب»، نرى حيًا شعبيًا متماسكًا، تسوده قيم التكافل والاحترام، بينما يتم إقصاء الصراعات البنيوية التي كانت حاضرة في تلك السياقات. «شارع الأعشى»، من ناحيته، يقدّم سرديةَ تمكينٍ ناعمةٍ لامرأة تتحدى أعراف السبعينيات، دون أن تصطدم جذريًا بالبنى الأبوية. أما «هوبال»، فيعيد إنتاج عُزلة الأسرة في الصحراء كفضاء طهوري يقي من "الفتنة"، مستحضرًا روح أفلام الويسترن التي غالبًا ما تدور حول الصراع بين البرية والحضارة. هذه الأعمال، في بنيتها وسياقها، تذكّرنا بما قدّمته أفلام الويسترن الأمريكية خلال القرن العشرين: صورة لماضٍ بطولي، قد يكون مأزومًا، يُعاد تخيّله لقول شيء عن الحاضر، أو لإنتاج سردية وطنية. أفلام الويسترن مجّدت الكاوبوي، والصراع مع الطبيعة، والعدالة الفردية. كذلك، فإن الإنتاجات السعودية الأخيرة تمجّد أنماط الحياة القديمة، وقيم "الشرف، الطاعة، البساطة، النخوة"، وتعيد تقديمها في إطارٍ سرديٍّ يُثير الحنين ويكرّس الثوابت. في أفلام الويسترن، كان الحنين أداةً لبناء الهوية الأمريكية، لكنه في أحيان كثيرة عكس فقدانًا أكثر مما عبّر عن امتلاك. كذلك الحال هنا؛ التعلّق بالماضي ليس دائمًا حبًا فيه، بل قلقًا من الحاضر، وهروبًا من غموض المستقبل.

هذه النوستالجيا، هل نقرأها كفعلِ مقاومةٍ أم كعملية ترويض؟ حيث أن التعلّق بالماضي، كما يكشفه النجاح الجماهيري لهذه الأعمال، ليس دائمًا مدفوعًا بحنين صافٍ، بل قد يُقرأ كنوعٍ من القلق الثقافي، أو حتى كآلية رمزية لمواجهة التحوّلات الاجتماعية السريعة التي تمرّ بها السعودية اليوم. فالنوستالجيا ليست مُجرَّد شعور، بل خطابٌ يُستخدم لتأطير الماضي من منظور الحاضر، وغالبًا ما يكون موجّهًا سياسيًا أو ثقافيًا كما تقترح ديبورا كوهين (Deborah Cohen). في هذه الأعمال نحن أمام دراما لا تستدعي الماضي فقط، بل تُفاوض عليه، وتحاول أن تُعيد ترسيم حدوده، عبر خطاب يمزج بين الحنين، والتطهير الرمزي، والنزعة الوطنية.

في فيلم هوبال السعودي وفي المسلسل الأمريكي (Yellowstone 2018) تَظهر شخصية الأب بوصفها مركز الثقل في السرد، ومفتاحًا لفهم الصراع بين الأصالة والتغيير، بين الحماية والهيمنة، وبين الحنين والتحول. كِلا العَملين يتّخذ من البيئة القاسية، الصحراء أو الريف الجبلي، خلفيةً رمزيةً لصراع أعمق حول الهوية والانتماء. رغم اختلاف السياقين الثقافيين والجغرافيين، إلا أن هناك تقاطعاتٍ لافتةٍ في بنية الحكاية، خاصة في كيفية تمثيل الأب كرمز للثبات، مقابل أبنائه الذين يمثلون الطموح أو التمرد أو الضياع. النوستالجيا في هوبال أو Yellowstone ليست مجرد حنين، بل هي فعل مقاومةٍ رمزيٍّ. مقاومةٌ لما تراه هذه الأعمال اغترابًا عن الجذور، واختلالًا في نظام القيم، وتفككًا في صورة الأب والهوية والأرض. وبينما يتقاطع العملان في إعادة تمثيل الماضي كبنية أخلاقية، فإنهما يختلفان في أفق الأمل، ففي Yellowstone يبدو الأب أكثر عنفًا لكنه أيضًا أكثر براغماتية، يقاتل كي يحفظ ما يمكن حفظه. أما هوبال، فيظل مأسورًا في لحظةِ فواتٍ، حيث الماضي لا يُعاد إنتاجه، بل يُبكى عليه، كصورة مثالية لم تعد ممكنة.

في هوبال، يَظهر "الجد"، الأب الصحراوي العازف عن الحداثة، كقوّةٍ أبويةٍ مطلقة، يُخضع أبناءه لقِيَم الصمت والطاعة والعزلة. يعيش مع أسرته على هامش المدينة، في صحراء بدائية، ويرفض الانتقال إلى القرية الحديثة. يُمارس سلطته عبر ما يشبه الطقس أو الطوطم، حيث يتحوّل البيت إلى حصنٍ، والتقاليد إلى عقيدة. أما في Yellowstone، فإن "جون داتن" مالك لأرض يتزَعَّم عائلة تحمي مزرعتها من التوسع العمراني، والسكان الأصليين، ورجال الأعمال. سلطته ليست فقط قانونية أو عائلية، بل أسطورية، تُمثل صمود القيم الريفية في وجه الليبرالية الحديثة. كلا الشخصيتين تشكّلان صورة الأب الحامي والقامع معًا، الذي يقف بين العائلة والتاريخ، بين الأرض والخطر.

الصحراء في هوبال ليست فقط فضاءً جغرافيًا، بل امتدادًا نفسيًا لحالة الانفصال عن الزمن الحديث. إنها رمز للنقاء والبساطة، لكنها أيضًا عزلٌ وانقطاع. وهي تمثّل في الفيلم بيئة تأبى التغيير، وتُبقي العائلة في طورٍ "ما قبل اجتماعي- pre-social". وفي Yellowstone، تشكّل المزارع والجبال فضاءً آخر للهوية: الأرض هنا هي جذر الانتماء ومصدر الشرعية. لكنها في الوقت نفسه هدفٌ للتهديد الدائم، من الدولة، ومن الاقتصاد النيوليبرالي. البيئة في كلا العملين لا تحكي فقط المكان، بل تُجسّد الصراع الوجودي حول من نحن، ومن يحق له البقاء.

في هوبال تمجيدٌ لنمط عيشٍ قديمٍ يستند إلى منظومة من القيم: الشرف، العمل اليدوي، الرجولة، الولاء، الأرض، والعائلة. هذا النمط لا يُستعاد بوصفه خلفية تاريخية، بل يُستدعى كبديل رمزي لنمط الحياة المعاصرة الذي يُنظر إليه باعتباره مائعًا، سريعًا، فاقدًا للجذور.  من هنا في هوبال، يتمركز هذا النمط حول الانضباط، التقشف، ومركزية السلطة الأبوية. اللافت أن الفيلم لا يعيد إنتاج هذه القيم بسخرية أو نقد، بل يقدمها في ثوبٍ ملحمي، أشبه بالأيقونة، رغم النهايات المؤلمة التي تلوّح بعجز هذا النموذج عن مواكبة العصر. في المقابل، في Yellowstone، يُحتفى بالقيم الريفية كدرع ضد "المد الحضاري" الذي يسلب المعنى من الحياة. الأرض هنا ليست فقط مصدر رزق، بل هي أصل الهوية وأقصى درجات الالتزام الأخلاقي. ويبدو أن كل تهديد للتقاليد هو تهديد للكينونة ذاتها.

تاريخيًا، لعبت أفلام الويسترن دورًا في تشكيل المخيلة الأمريكية حول الفرد البطولي، المغامر، الذي يفرض القانون على الفوضى. لكنها مع الوقت تحوّلت إلى سردية جمعية عن التمسك بالقيم القديمة، خاصة في مواجهة "انهيار النظام الأخلاقي الحديث". في السياق السعودي، يمكن النظر إلى هوبال وخيوط المعازيب كإنتاج موازٍ للويسترن، حيث يُعاد تمثيل القرية أو الصحراء كفضاء أصيل، غير ملوث، في مقابل المدينة الحديثة التي لا تُمنح إلا ملامح التهديد أو الانفصال. هكذا تتحول "دراما الحنين" إلى ويسترن محلي، لكنه يحتفظ بنفس البنية: بطء الزمن، سطوة الأب، قداسة الأرض، ووحدة المصير.

بالعودة إلى التساؤل: أهي نوستالجيا مقاومة تتمثّل بمقاومة خفية لتحوّلات سريعة تعيشها السعودية، أم نوستالجيا مكّرسة تحاول ترسيخ وتأكيد الوجود الحالي عبر تكريسٍ لسياق تاريخي ثقافي غني؟ النوستالجيا تُعرّف، في أبسط صورها، بوصفها حنينًا إلى الماضي. غير أن هذا الحنين لا يُفهم فقط كموقفٍ شعوريٍّ، بل بوصفه بنيةً رمزيةً وثقافيةً ونفسية تنتج في سياقات القلق والانقطاع، والتي عبَّر عنها جيمسون باعتبارها آلية رمزية تُعيد بناء الماضي في صورة مثالية للتعويض عن قلق الحاضر. قلق من يعرف أنه يسير في طريق لا رجعة فيه. كمن يغادر بيته الصغير، حتى وإن كان ينتقل لبيت أجمل إلا أنه لا يستطيع منع نفسه من الإلتفات بنظرة حنين لمكان يعرف أن عليه تجاوزه  وإلى  الأبد، لأن الزمن تجاوزه. أم لعل النوستالجيا هنا هي حالة من تأكيد الوجود، عبر تأكيدٍ لوجود ماضٍ مليء بالحَكايا والناس والمكان. فإن كان عبدالرحمن منيف قد كتب روايته عن السعودية، كغريب عنها، ليصفها بـ "مدن ملح"، فهي تذوب، لا أصل ترتكز عليه. بهذا تكون "دراما الحنين" ماهي إلا رد على محيط لا يَرى في هذا المكان إلا مدن رملٍ تنثرها الرياح، وكأن صدفة البترول وحدها جعلت من هذه الرمال مدنا، بلا جذور كما الفطر الصحراوي. هذه الأعمال تقول: بل إن الناس والمكان هنا دائمون، لأن لها أصلًا يغوص في خيام الصحراء وبيوت الطين.

نوستالجيا الذاكرة واللاوعي في المخيلة السعودية

هوبال، شارع الأعشى، خيوط المعازيب ليست سرديات توثيقية فحسب، بل هي مرويات نفسية رمزية تحفر عميقًا في الذاكرة الجمعية، وتعيد استدعاء صور الماضي الجماعي كما لو كانت أسطورة تتجدّد. هي مرويات رمزية تتجاوز التوثيق التاريخي، نحو إعادة إنتاج أسطورة الهوية والذات. جماهيريتها وفقًا للتحليل النفسي تكشف عن تعلّق بالماضي، ليس لكونه مجرد حنين ثقافي، بل بوصفه فعلا لاشعوريا يتداخل فيه الرمز، والأب، والهوية، والأسطورة. هذه الأعمال تستحضر الماضي وتقوم بإعادة تشكيل بيئة تقليدية ذات طابع عمراني واجتماعي معين: بيوت طينية، أزقة ضيقة، مجتمعات صغيرة متماسكة، وعلاقات تدار بقيم الشرف والسلطة الأبوية والانتماء القبلي أو المحلي. هذه الملامح لا تقدم كخلفية تصويرية فقط، بل كوحدة دلالية رئيسية، تحمل في طياتها خطابًا مشحونًا حول ما يجب أن نتذكره، أو بالأحرى، ما نرغب في استعادته. فالتعلّق بالماضي هنا في جوهره هو تعليق للحاضر، ومحاولة للعودة إلى سلطة كان يُنظر إليها كمصدر للأمان.

الرمز في التحليل النفسي، ليس تعبيرًا عن شيء، بل تعويضٌ عن فقد. كل هذا التمجيد الرمزي للماضي هو، بشكل ما، محاولةٌ لاشعوريةٌ لملء فراغ الحاضر، أو ما يسميه يونغ بـ"الفراغ الروحي للمجتمعات الحديثة". إن الاسترجاع المتكرر لشخصيات الماضي البطولية، رغم هشاشتها أحيانًا، هو محاولة لاستعادة مركز مفقود، أو أبٍ غائب، أو معنى لم يعد واضحًا. تمامًا كما تُنتَج الأسطورة لتفسير العالم، تُنتَج "دراما الحنين" لتفسير التحوّلات الثقافية والاجتماعية التي تَحرم الهوية من ثباتها.

في خيوط المعازيب، تُستعاد صورة "المعزب" كرجل حكيم، صارم، يتصدر مشهد القيادة، محاطًا بمجتمع يتحرك وفق تقاليد راسخة. وفي شارع الأعشى، يتخذ الماضي هيئةً شاعريةً أكثر، حيث تُستعاد مرحلة الطفولة والمراهقة في حي شعبي تحكمه الألفة، رغم البؤس المادي. أما هوبال، فيحمل بعدًا رمزيًا أعمق، حيث تُصوّر الأسرة السعودية في عزلة طوعية داخل الصحراء، خاضعة لسلطة أبٍ يرفض الحداثة. هنا، يصبح "الطين" ليس مجرد بيئة، بل مجازًا للهوية الثابتة، والزمان المحنط، والإنتماء المتماهي مع الإنغلاق.

في التحليل الفرويدي، يُنظر إلى العلاقة بالأب بوصفها مركز التكوين النفسي. الأب هو المشرّع، الحامي، وأحيانًا القامع، وهو الذي تتحدّد الهوية عبر التماهي معه أو التمرد عليه. كل من الأعمال الثلاثة المذكورة تعيد صياغة هذه العلاقة، ولكن لا بهدف التحرر منها، بل لتثبيتها وإعادة تمجيدها. في هوبال، يُصوَّر الأب بصفته "الجد"، حارس القيم، لكن أيضًا كمنفصل عن الواقع، ورافض للتغير. في هذا السياق، يمكن اعتبار الفيلم تمثيلًا للصراع الأوديبي المؤجل: الرغبة في التحرر من سلطة الأب، والخوف من فقدان الحماية الأبوية في آنٍ معًا.

كارل يونغ طرح مفهوم اللاوعي الجمعي، كمستودع للرموز والأساطير المشتركة بين البشر. في هذا الإطار، يمكن قراءة شخصيات مثل "المعزب"، "الشيخ"، "الجد" و"المرأة الصابرة" كأمثولات نفسية تمثّل صورًا بدئية تسكن الذاكرة الجماعية السعودية. ففي هوبال، الأب المعزول مع عائلته في الصحراء يمثل صورة "الحكيم/الحامي"، الذي يحمي أسرته من "الفساد"، بينما الصحراء تؤدي دور "اللاوعي الغامض"، حيث تُختبر القيم، وتُصفّى النوايا. وفي شارع الأعشى، "الشارع" نفسه قد يُرى كرمز للعبور من اللاوعي إلى الوعي، من الهوية القديمة إلى التحوّل، بينما شخصية البطلة ترمز إلى "الأنيموس"*، القوة الأنثوية المُحرِّكة في اللاوعي الذكوري. هذه الشخصيات هي صورةٌ بدئيةٌ تتكرر عبر الأزمنة بوصفها رمزًا للحكمة والقيادة والتضحية، لكنها قد تتحول أيضًا إلى رمز للجمود والهيمنة. "دراما الحنين" تقدم لنا هذه الصورة في تكرار مشهدي شبه أسطوري، حيث يُعاد إنتاج الأب في كل حيٍّ وبيت وقرية وخيمة. بهذا المعنى، يمكن اعتبار هذه الأعمال تمارين لاشعورية في التماهي مع الماضي، تُصاغ بلغةِ الصورةِ والرمز والحكاية. وهي بذلك تُقدِّم للمشاهد السعودي صورةً مألوفة، لكنها مشبعة بتوترات التحول، حيث يُعاد إنتاج "الذات" لا كحقيقة، بل كحلم لم يكتمل.

"دراما الحنين" ليست فقط تعبيرًا عن النوستالجيا، بل إنتاجٌ لها، واشتغالٌ دائم على حراسة "الهوية" في لحظة تشظٍّ ثقافي، عبر إعادة رسم الأب، والطين، والحي، كجدران لا تحمي فقط من التغير، بل تمنع التفكير فيما بعده.  فهي تتناول ما "كان"، وكأنه ما "ينبغي أن يكون"، وتقدم الماضي لا كواقع، بل كنموذجٍ هوويٍ مثالي. وهذا ما يجعل هذه الأعمال أقرب إلى الحلم الجمعي، حلم يسكن اللاوعي الثقافي، ويعيد تمثيل الذات عبر قصة نعرف نهايتها مسبقًا، لكنها تمنحنا الطمأنينة. فحضور الرموز: البيت الطيني، الأب، الصحراء، السوق، الخيمة، الخوف من المدينة، ليس مجرد نوستالجيا بريئة، بل هو ميكانيزم نفسي للتعامل مع فقد الهوية، والانفصال عن الجماعة، وقلق التغير الاجتماعي.

من هنا، يصبح من المهم التوقف عند هذه الحالة، لا تحليلًا فقط، بل لتعريفها وإيجاد مصطلح مناسب لها. أهي "دراما النوستالجيا" التي تعتاش على خيالات الحنين، أم "دراما المكان الأول" الذي تسعى لاستعادته؟ أم "دراما الذاكرة" التي تحاول رسم ملامحها؟ أم هي "دراما التراب والريح" التي تحاول إلتقاط بعض منها؟ بوجهة نظري، لعلّ المصطلح المناسب هنا هو "دراما الطَلَلِيّة" أي دراما تنزع نحو الوقوف على الأطلال وتَذكُّر الماضي. وبهذا تكون الدراما السعودية في أحد أشكالها ليست إلا امتدادًا لحالة تسكن هذا المكان وناسه منذ الآف السنين بالوقوف على الأطلال بقصائد خالدة تنوح الغياب. وكأن هذه الأرض وناسها  تلبَّستهم حالة طللٍ دائم على ماض لن يعود.

*** 

* يمثل الجانب الذكوري في النفس الأنثوية، وفقًا ليونج.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى