«من خلال الصور الثابتة والمتحركة نستطيع إيصال ونشر مفاهيم الثورة إلى الجماهير والحفاظ على استمراريتها».
سطر الشهيد هاني جوهرية في النشرة الأولى لمؤسسة السينما الفلسطينية تلك العبارة التي أوضحت بشكل كافٍ عن أفكاره التي ساهمت في إنشاء قسم التصوير الفوتوغرافي والسينما فيما بعد، وهو القسم التابع للشق الإعلامي لحركة فتح؛ ذلك لأنه وكما ورد في نفس النشرة، كان الهدف من إنشاء قسم التصوير الفوتوغرافي حينذاك هو الحاجة لتأسيس أرشيف خاص بالشهداء يحوي أيضًا مواد ووثائق أخرى تتعلق بالثورة.
البدايات وتبلور الأفكار:
يذكر هاني في تلك النشرة أن الفضل في إنشاء هذا القسم يرجع إلى «إحدى الأخوات» والتي لم يرد اسمها في النشرة، لكنها كانت المصورة الفلسطينية سلافة جاد الله–وهي أول امرأة تخرجت من المعهد العالي للسينما بالقاهرة. اكتفى هاني بالإشارة إلى مجهوداتها في تصوير المواد الخاصة بالثورة في منزلها وتسخيرها آلات التصوير وبعض الأجهزة الأخرى من أجل القضية، ومتابعة جميع مراحل العمل بنفسها، وظلت تعمل بالطريقة تلك حتى وقوع معركة الكرامة في 21 آذار 1968، وهي المعركة التي انتصر فيها الفدائيون والجيش الأردني على الاحتلال الإسرائيلي، وكانت هذه النقطة المحورية المُحوّلة لاتجاه مؤسسة السينما الفلسطينية من العمل بشكل ارتجالي إلى وضع أهداف عامة تسير عليها المؤسسة؛ نظرًا للحاجة إلى الصورة الفوتوغرافية والسينمائية التي من خلالها يستطيعون وتستطيع الثورة قول ما تريده، وعليه–كما ذكر هاني–كانت الأهداف الثلاثة الرئيسة المتفق عليها كالآتي: هدف تسجيلي وثائقي، وهدف إعلامي، وهدف صحفي.
تطرقت مناقشتهم حينذاك إلى موضوع السينما، إلا أنها لم تكن ضمن الأولويات في ذلك الوقت؛ نظرًا لعدم توفر آلة تصوير سينمائي. وعليه، انصب التركيز على تحقيق ما أمكن في الجانب الفوتوغرافي، الذي صارت له الأولوية. وقد ذَكر هاني حصولهم على مكان للعمل، وأشار إلى أنه كان «مطبخًا» في أحد المنازل، وقد كان يحتوي على جميع الأجهزة، وقاموا بتحويله فيما بعد إلى معمل للطبخ والتحميض والتصوير. وبالرغم من فقر الإمكانات المتاحة لديهم واعتمادهم على الأجهزة البدائية–إذ كانوا يعملون بواسطة كاميرا بسيطة جدًا وجهاز تنشيف بدائي يعمل على «وابور الكاز»–إلا أن حماسهم كان محفزًا بشكل كافٍ ليمكنهم من إتمام العمل على أكمل وجه، فما ذكره هاني كان كافيًا لإيضاح تلك النقطة المهمة: «كان يكفينا آنذاك أن نرى صور مقاتلينا تتوزع على الصحافة وأصدقاء الثورة فتمتلئ قلوبنا بالرضى وكأننا حققنا شيئًا عظيمًا».
آلة تصوير وأفلام تُعرض تحت الأرض:
في أواخر عام 1969، استطاعوا الحصول على آلة تصوير سينمائي متطورة ومميزة مقارنة بالزمن والمنطقة، كما حصلوا على بعض الأجهزة الإضافية لتسهيل عملية التسجيل وتسجيل الصوت على وجه الخصوص. تزامنًا مع مشروع روجرز، قام القسم بإنتاج فيلمه الأول بعنوان "لا.. للحل السلمي"، وكان الفيلم رسالةَ رفض للمشاريعِ الاستسلامية في ذلك الحين. وقد ذكر هاني تفاصيلَ العرض الأول للفيلم، قائلًا إنه كان يُعرض في ملجإٍ تحت الأرض، على أرضٍ مليئة بالرمل والتراب، وكان جميعُ الحاضرين واقفين على الحجارة، يتابعون اللقطات باهتمامٍ بالغ، رغم أن الفيلم كان في كثير من جوانبه دون المستوى –هكذا وصفه هاني– لأسباب عديدة، منها التعجل في إنتاجه.
هاني…من هواية التصوير إلى الفن لخدمة النضال:
يتساءل بعض الناس: من أين بدأت رحلة هاني جوهرية في مجال التصوير الفوتوغرافي والسينمائي؟ وكيف بدأ طريقه للنضال باستخدام الكاميرا؟
وثقت خديجة حباشنة في كتابها "فرسان السينما" –الذي يحاكي روح الأفلام الوثائقية في طريقة سرده للأحداث– لحظاتٍ عديدةٍ وهوامش من سيرة هاني جوهرية ولقائه بسلافة جاد الله ومصطفى أبو علي وانضمامهم جميعًا إلى حركة فتح؛ ليقوموا بتأسيس وحدة السينما والتصوير التابعة للحركة، والتي كانت في البداية تُسمى "وحدة أفلام فلسطين"، وفيما بعد أُطلق عليها "مؤسسة السينما الفلسطينية".
هاني، الذي كان يهوى التصوير بالكاميرا القديمة التي كانت تعمل بالمنفاخ في طفولته، كان قد أنهى دراسته الثانوية بمدرسة المطران عام 1957 بالقدس، ومن ثم عمل كمسؤول بقسم المرئي والمسموع في دار المعلمات في رام الله، حتى ترك هذا العمل واتجه إلى مصر عام 1962-1963 لدراسة التصوير السينمائي بالمعهد العالي للسينما.
وفي عام 1964، أخبر والد هاني، فخري جوهرية، ابنه عن إعلان وزارة الإعلام الأردنية عن منحة لدراسة السينما في لندن. عندما علم هاني بهذا الأمر، كان قد ترك الدراسة بمعهد السينما بعد أن أنهى السنة الدراسية الأولى، وتوجه إلى عمّان ليقدم طلبًا للحصول على المنحة، والتي حصل عليها بالفعل، وهكذا التحق بمعهد السينما في لندن، والذي تعرف فيه على زميله مصطفى أبو علي، قبل أن يعودا لاحقًا بعد التخرج للعمل في وزارة الإعلام الأردنية بقسم السينما، وهناك تعرف هاني إلى سلافة جاد الله، التي كانت تعمل مصورة سينمائية بنفس القسم.
كان عمل سلافة وهاني في وزارة الإعلام الأردنية يتمثل في تصوير الأحداث والنشاطات في الأردن، مثل تحركات الملك والحكومة والشخصيات المهمة في البلاد، والاحتفال بالمناسبات الوطنية، كما أنتجت الوزارة أيضًا بعض الأفلام الوثائقية من تصوير سلافة وهاني وهي: "الخروج"، و"الأرض المحروقة"، و"زهرة المدائن"، وفيلم "الحق الفلسطيني" من إخراج مصطفى أبو علي عام 1968، وفي عام 1969، صور هاني فيلم "شهادة الأطفال في زمن الحرب" من إخراج قيس الزبيدي وإنتاج مؤسسة السينما السورية ووحدة أفلام فلسطين، وفي نفس العام أيضًا تم تصوير فيلم "لا…للحل السلمي".
وفي عام 1970، تزامنًا مع وقوع أحداث أيلول الأسود، قام هاني بمرافقة مصطفي أبو علي لتصوير تلك الأحداث، واُستخدمت تلك اللقطات فيما بعد في فيلم "بالروح بالدم" الذي يدور حول أحداث أيلول. كانت تلك الأحداث فارقة في حياة هاني ومصطفى وسلافة، التي كانت تخضع للعلاج الطبيعي على إثر الأحداث التي أصابتها بالشلل النصفي. لم يستطع هاني الخروج من عمّان مع قوات الثورة، وظل هناك حتى تمكن من الالتحاق بقوات الثورة في بيروت أواخر عام 1975 مع زميله مصطفى، والتحق وقتها بوحدة الأفلام الفلسطينية التي كانت قد تطورت، حتى أصبحت تُعرف بمؤسسة السينما الفلسطينية. حضر هاني في بيروت في شهر أكتوبر من عام 1975 بعد تمكنه من الحصول على جواز سفر. وصفت خديجة حباشنة اللقاء بين هاني جوهرية ومصطفي أبو علي في بيتها، بعد أن تناولا الغداء، حيث سمعت مصطفى يقول:
«والله أهلًا بيك يا أبو الفخر، تأخرت علينا يا زلمة. بس هيك جيت والله جابك، كنت بحاجتك كتير، طلعت روحي وأنا لحالي بناطح. يا أخي إنت لازم تستلم إدارة المؤسسة من هون ورايح، وأنا بدي أكون مخرج وبس، يا أخي إنت بتتفاهم مع هالسياسيين أكثر مني».
- هاني: «أي لا يا شيخ بعد ما أسست كل هالشغل وصار عندنا مؤسسة محترمة، بدك إياني أنا أستلم الإدارة، هييك مدير قد حالك، لا يا أخي أنا أصلًا مصور سينما بس، مصور مش مدير».
- مصطفى: «بس مش كل ما سمعت بمعركة تنط تصور، صار عندنا عدد من المصورين للأخبار والتوثيق، إنت مصور سينمائي فنان، ودورك تصور أفلام روائية. عملنا والكل بيعمل أفلام وثائقية. صار لازم نعمل أفلام روائية».
كان الاثنان يريدان التفرغ للفن، وأن يتولى أحدهما مسؤولية الإدارة. لم يعيرا اهتمامًا كبيرًا للمسؤولية الإدارية، قدر اهتمامهما بتوظيف الفن لخدمة النضال والثورة.
استشهاد هاني واستشهاد الكاميرا:
لم تكتمل فرحة عودة هاني إلى مؤسسة السينما الفلسطينية في شكلها الحديث، بعدما كان يحلم بهذا التطور منذ كان عضوًا من الأعضاء المؤسسين لوحدة أفلام فلسطين، فقد أصابته شظية أسفرت عن مقتله بينما كان يصور إحدى المعارك في تلال عينطورة يوم 11/4/1976. كان استشهاده بعد عودته بفترة قصيرة مفجعًا لكل زملائه في المؤسسة، فضلًا عن كل من كان يعرفه.
نظرًا لتفانيه في العمل، ترك هاني بصمة واضحة على جميع العاملين في المؤسسة. استطاع بعد عودته أن يقنع سلافة جاد الله بالمجيء إلى بيروت للعمل معه في مؤسسة السينما. وضعا معًا نظامًا لإدارة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، وخطة لتدريب المصورين، كما تابعا الأحداث والنشاطات وتحركات القيادة، وساهم هاني في تطوير مهارات بعض المصورين العاملين في المؤسسة وبعض الإخوة من اليمن وإريتريا، وتمكن خلال فترة وجوده القصيرة من تصوير فيلم "على طريق النصر" من إخراج مصطفى أبو علي عام 1975، وفيلم "المفتاح" للمخرج الفلسطيني غالب شعت، من إنتاج مؤسسة صامد للإنتاج السينمائي عام 1976، الفيلم الذي أُنتج ليُعرض في مؤتمر الإسكان في كندا.
مصطفى أبو علي يتحدث عن استشهاد هاني تحت عنوان "شهيد السينما النضالية":
«في 9 نيسان 1976، يذهب هاني مرافقًا لوفد من قيادات حركة فتح إلى منطقة الجبل (عينطورة، الزعرور، صنين) وهي أعلى مناطق في لبنان، (كانت القوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية قد استولت عليها لأهمية الموقع في التأثير على القوى اليمينية)، وقد استولت عليها مع بدايات عام 1976 عندما كان ارتفاع الثلج على هذه الجبال يزيد عن عشرين (20سم)، في نيسان كان قد ذاب قدر كبير من الثلج وبقي أيضاً قدر آخر كبير منه، ولكن الجبل المرصع ببقع الثلج الناصع البياض تحت أشعة الشمس المشرقة وروح الثورة والتحدي عند المقاتلين سحرت هاني. وعندما عاد الوفد بعد تفقد الموقع الهام، ظل هاني في الجبل يتنقل من موقع إلى آخر مع كاميرا 16 ملم ويختار بدقة كل لقطة ويصورها والقصف اليميني لا يتوقف على المنطقة (هكذا أخبرني الزميل الذي رافق هاني) وهاني مصر على تسجيل كل شيء.
في 11 نيسان حوالي الساعة الثالثة من بعد الظهر، تسقط قذيفة على بعد نصف متر من هاني ... هل كانت الكاميرا تدور وقت سقوط القذيفة وهل سجل هانى لحظة استشهاده؟ ليس بالإمكان معرفة هذا، فقد استشهدت الكاميرا أيضًا وتلف الفيلم الذي بداخلها».
تعبر خديجة حباشنة عن تأثرها بالموقف في كتابها قائلة: «بقدر ما كانت فرحتنا كبيرة بعودة هاني جاءت فجيعتنا باستشهاده ونحن نعلق عليه آمالًا كبيرة، وخاصة صديقه مصطفى الذي بدأ منذ عام 1973 يشعر بأنه استهلك طاقته في إخراج الأفلام الوثائقية. ويخطط للانطلاق نحو الفيلم الروائي. كان هاني المعادل الروحي لمصطفى في عمله الفني، فهو الإنسان الذي خلق ليكون مصورًا بشفافية إحساسه للقطة المناسبة والمعبرة عن الفكرة أو المفهوم المراد التعبير عنه».
كان آخر ما تركه السينمائي المناضل هاني جوهرية فصلاً من كتاب كان يعدِّه حول التصوير السينمائي ليكون دليلاً للمصور السينمائي المناضل، قبل أن يستشهد ليصبح أول مصور سينمائي يستشهد في أرض المعركة منذ الحرب العالمية الثانية.