«اللغة هي أساس الحضارة، هي كالمادة اللاصقة التي تحافظ على ارتباط البشر، هي أول سلاح أُشهر في النزاعات».
جملة قيلت على لسان إحدى الشخصيات مع نهاية الثلث الأول من السيناريو، تمهيدًا للانغماس في حل الحبكة في الجزء الأكبر من الفيلم، وهي تُعد اقتباسًا من أحد مؤلَفات بطلة الفيلم -عالِمة اللغة "لويس"- كما تُعد أيضًا تمثيلًا مبكرًا لما يشغل الفيلم في أولى طبقاته الفلسفية، والتي استهلك مخرج الفيلم المدة الأكبر في صياغتها، وأبرز اهتمامه وإخلاصه لها أولًا بأن جعل فيها حل الحبكة الرئيسة، قبل أن يستغرق في ثلثه الأخير فيما هو أبعد من ذلك.
تنطلق قصة فيلم "Arrival" من شخصية لويس، التي يُستعان بها إثر هبوط كائنات فضائية على كوكب الأرض، والمسعى هنا هو استنتاج أسباب هبوط تلك الكائنات وتحليل دوافعها، ومع لويس تُصطحب شخصية العالِم "إيان" على يد الكولونيل "ويبر" ويصطدمون أيضًا بشخصية "هالبرن" وهو ممثل الشق السياسي للمعضلة. الفيلم ليس معنيًا بتجسيد مثلث اللغة والعلم والسياسة وتبنّي الطاقة المتوترة فيما بينهم فحسب، كما أنه ليس مشغولًا فقط بإبراز اختلاف الأولويات بين ثلاثتهم واختلاف أعينهم ورؤيتهم، بل هو منحاز بوضوح من بعد ذلك للغة، منحاز للتواصل الإنساني، للمحادثة.
لكل سيناريو طبقاته الخاصة، تبدأ بالأكثر وضوحًا وهي القصة ذاتها، أي أننا نخوض رحلة للوصول إلى نقطة محددة، نختلق عقدة و نشرع في حلها، ومن ثم هناك طبقة أقل وضوحًا وهي الخاصة بفلسفة الفيلم نفسها، وهي المحرك الحقيقي للقصة بأكملها، ربما تكون إشكالية معنى السعادة أو صراعًا أبديًا بين الخير والشر وغيرها من الصراعات الفلسفية التي تناولتها السينما على طول خطها، ولكن ما يثير اهتمامي حول فلسفة الفيلم هو أنها ليست أقل وضوحًا من القصة ذاتها، بل هي جزء لا يتجزأ من حل الحبكة، نسمعها على ألسنة الشخصيات وتتحرك معها الأحداث علنيًا، لا نعكس قصتنا على أفكار أبعد منها، بل نتعامل مع الأمر على السطح دون أن يكون ذلك مأخذًا على السيناريو، لأن القصة تحتمل ذلك.
تبدأ لويس في أداء مهمتها، ومن خلال سير العملية، يبدأ الفيلم في استعراض تصوراته عن اللغة التي تُعد أداة للتواصل باعتباره عملية تنطوي على مراحل مختلفة، تكون أولها ببساطة المبادرة، كما يشير لها "إيان" ساخرًا بأنها أشبه بتبادل القهوة، أو توفير مساحة آمنة لمن تحاول لويس التواصل معهم لإيصال الإيحاء الحقيقي من كل ذلك، وهي الرغبة في الحديث والتفاهم، ومن هنا يبدأ الجانب المعاكس في المشاركة وتبادل اللغة، حتى نجد أنفسنا نُقبل على مرحلة جديدة، وهي محاولة الاحتواء والاستيعاب، فنحن أمام لغة لا نفهمها، وندرك أن الجانب الآخر بالضرورة يشاركنا الارتباك نفسه. يحتاج الأمر إلى مجهود وطاقة أكثر ودقة أعلى، تبدأ فيها لويس في التعامل مع مجموعة من الرموز، لغة تشكل كلمات وعبارات، تحتاج لويس من خلالها إلى استنتاج نمط ما، وتأويل تلك الرموز واستيعاب سياقها حتى لا تقع في فخ تحميلها دلالة لا يقع بداخلها المعنى المقصود، وتنجح في ذلك، ولكن الساسة يكادون يدمرون الأمر.
لويس ليست ببطلة خارقة، ولكنها خلال الفيلم تصطدم بكثير من التحديات تتبنى من خلالها سلوكيات وصفات يُرسِّخ من خلالها الفيلم نُبل عملية التواصل تلك وما تنطوي عليه من تعقيدات، سواء أكانت تعقيدات العملية ذاتها من داخلها أم كانت معيقات خارجية لا تحمل نفس السمو في أغراضها، تعقيدات تحتاج لويس إلى جسارة وصدق وصبر من أجل أن تتخطاها، صفات إنسانية في النهاية لا أكثر.
فيلم "Arrival" يسعى أولًا إلى الاحتفاء بالتواصل البشري، و يقر بأهمية اللغة على صعيد اتساع الآفاق وباعتبارها أداتنا الأهم، ويؤكد على حاجتنا الملحة إلى ذلك التواصل، ليس فقط من أجل التطور والتحضر، ولكن قبل ذلك بكثير، من أجل البقاء، ومن هنا يتقابل فيلم "Arrival" مع فيلم "اشتباك" فقط على مستوى المضمون، بعيدًا عن أسلوب الطرح.
ربما لا يسمح الاختلاف بين فيلمي "Arrival" و"اشتباك" بالربط بين كل منهما، فالخيال العلمي يسمح لصناعه بتناول أفكار فلسفية شديدة التعقيد لما يتيحه من مساحة لتجسيدِ غير الملموس والتمرد على حدود لا يستطيع أن يتخطاها فيلم يُصنع على أرض الواقع، وهو ما أتاح لـ"Arrival" تناول أفكار فلسفية أبعد من فكرة التواصل، بل وأتاح له تناول أعمق فيما يخص المعضلة، ولكن "اشتباك" يُعد تمثيلًا أقرب لما يطرحه فيلم الخيال العلمي، فإن فيلم "اشتباك" -باختلاف أسلوب الطرح نتيجة بالتأكيد لاختلاف القصة ذاتها- يصيغ نفس الفكرة بوضوح أقل في سياق درامي أعقد، ويتحدى نفسه بمحدودية الزمان والمكان في أحداثه وارتباطها بأحداث حقيقية.
فيلم "اشتباك" ليس فيلمًا سياسيًا في ظني. الفيلم يحكي قصته متأثرًا بأحداث سياسية محورية أسهمت بالتأكيد في صناعة الحالة تلك، ولكنه لا يملك على مستوى الأفكار خطابًا سياسيًا مشغولًا بالصراع القائم وقتها؛ هو مجرد فيلم درامي يحكي عن مجموعة من المواطنين يجدون أنفسهم في سيارة ترحيلات، بعضهم ينتمي إلى تيار "الإخوان" السياسي، وبعضهم يجد نفسه عن طريق الخطأ في السيارة نفسها رغم أن خروجهم من منازلهم كان في الأساس تضامنًا مع الأمن، ومعهم صحفيان مهتمان بتغطية الحدث، والفيلم ليس مشغولًا بتجسيد القوى السياسية داخل الصراع من خلال دراسة سلوكيات مؤيديهم وعكسها على ما هو أكبر من ذلك، لكنه يهتم برصد التفاعل الحقيقي بين كل تلك الشخصيات، ودراسة طبيعة علاقاتها وتطورات تلك العلاقات بتطورات الموقف نفسه وتباين مستوى خطورته، ودراسة قدرة الشخصيات على التواصل. الفيلم لا يبحث عن تمثيل للتيارات السياسية بقدر ما يبحث عن تمثيل يشمل أنماطًا مختلفة من المجتمع المصري، فكرة مكررة لكنها في فيلمنا تحمل ضرورة فيما يتبناه من أفكار حول التواصل، ويُدعم ذلك بتصميم جيد لكل شخصية على حدة.
لم يقع السيناريو في فخ كتابة شخصيات كرتونية بداعي التمثيل، ولا تُعد الأداة الأهم في تصميم الشخصيات أنها شخصيات ذات خلفيات استثنائية، بل على العكس تمامًا، ففي رأيي، الفيلم ليس مضطرًا لإرساء خلفيات للشخصيات لأنه محدود بسياق زمني، لكنه مطالب بتقديم طباع وغرائز تبرر سلوكياتهم وتشكل دوافع مفهومة.
فيلمنا يشتبك بجرأة مع الواقع، وعلى أساسه نجد طبقتنا الفلسفية ليست بذاك الوضوح، فنحن أمام حبكة حلها في ذاته لا يتمثل في حل الصراع الفلسفي، أو بمعنى أصح، ما يحاول الفيلم طرحه على مستوى الأفكار ليس على السطح وإن كان تأويل رموزه ليس بتحدٍ صعب، فنحن في أولى طبقات قصتنا مشغولون بمصير تلك السيارة: متى يخرج هؤلاء؟ وكيف؟ هل سيخرجون من الأساس؟ تلك هي الحبكة، ونشعر باقتراب حل العقدة في لحظة وابتعاده في لحظات، والأهم خلال كل تسلسل وما يليه هو تفاعُل المواطنين داخل السيارة، بعضهم مع بعض، ومع ما يدور في الخارج. الفيلم يدرك جيدًا طبيعة العلاقات شديدة الخصوصية بين زوجين وطفلهما، وصديقين كهلين وآخرين في شبابهما، وطبيعة علاقة يجتمع فيها الأشخاص فقط تحت وطأة انتماء سياسي، وطبيعة علاقة يتشارك فيها اثنان البراءة والطفولة، وأخرى تكون الشراكة فيها الهزيمة، ويحرك الفيلم كلَ تلك الطاقة والمشاعر بديناميكية جذابة مع الوقت، بالحوار والصورة والحدث، ولم يخفق في إخلاصه لطبائع الشخصيات التي بناها في سبيل خلق لحظة مسرحية تضر بالطعم والإيقاع، بل تمسّك بتلك الطبائع حتى النهاية، وفكرته عن التواصل تنمو وحيدة، سواء أكان يبحث عنها أم -للأسف- يُرثى لفقدانها.
فيلم "اشتباك" يبحث عن شيء مشترك غير الخوف وغريزة البقاء، يجد الهزيمة في لقطات والفن في أخرى. لم يختلق الفيلم تلك اللحظات الدافئة التي ألِف فيها من في السيارة بعضهم بعضًا بسذاجة زائفة، ولكنه سبقها وتبعها بحالة الذعر والاحتقان الأقرب للواقع والتي تتزايد، ولم يتغاضَ عن الفكرة الأهم، من خلال تسلسل النهاية. من ذا الذي يمتلك القدرة على خلق تلك الحالة من التواصل البشري، حين تكون تلك السيارة شديدة الضيق والازدحام، والطقس شديد الحرارة، والأنفاس تستحيل؟ والسؤال هنا ليس: هل لديك الرغبة في المبادرة؟ وهل لديك القدرة على الاستيعاب والتفهم؟ ولكنه يضعنا أمام سؤال حزين بعض الشيء وأقرب للواقع، سؤال ربما يبدو فيه شيء من السخرية والهزل، لكنه ليس كذلك، بل هو للأسف سؤال جاد: هل تسمعني؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش