هل نجح «ستاتز»؟.. المسألة أكثر تعقيدًا

إن مهمة العلاج النفسي تتمركز حول نقل المريض بمعاناته كما يتصوَّرها هو نفسه، من مستوىً إلى آخر، لا يكون ذلك المستوى جيدًا بالضرورة، بل قد يكون مُوغلًا في السُّوء، لكنه وفي الوقت ذاته يُسهم بشكلٍ أساسي في إعادة ترتيب تلك الذات المعذَّبة، بهدف الوصول إلى حالةٍ من الانسجام الداخلي ولو بحدوده الدنيا. 

إنها إن صح التعبير؛ عَلاقة علاجية تجمع ذاتانِ ليستا متقابلتان ولا متضادتان، بل مندمجتين ومنصهرتين مع بعضهما، في مكانٍ وزمانٍ واحدٍ، والميزة التي تُضاف إلى كل ما سبق: «ذاكرة واحدة يُنظر لها بأربعِ أعين من جانب العميل والمعالج».

وتحقيقًا لما سبق نشرت منصة «نتفلكس» خلال شهر نوفمبر من العام 2022 فِلمًا وثائقيًّا عن المعالج والمحلل النفسي «ستاتز» (Stutz) ولَقِي هذا الفلم الوثائقي ردودَ فعلٍ واسعة في الداخل السعودي بين المختصين وغير المختصين، وهو ما يَكشف عن مؤشرات اجتماعيَّة هامة، علاوةً على الأسئلة المتبناة حاليَّا في الداخل؛ وإن كان الأمر يحتاج إلى تَفريغ كَافةِ مضامين ردود الأفعال تلك، باستخدام ما يُعرف بمنهج «تحليل المضمون»، الرائج في الدراسات النفسية والإنسانية لمعرفة الأزمات التي يُعاني منها المجتمع وقتيًّا ومآلاتها ثقافيًّا، ولأن ذلك ليس من صميم هذا المقال فلن يتطرق لها، بقدر ما سيــُـركز على طرح تساؤلٍ رئيس: 

كيف نجح «ستاتز» على مستوى الرَّواج والتفاعل؟ ولماذا أسس هو لنفسه منهجًا خاصًا به؟ وهل علم النفس يُعاني من أزمةٍ في فهم الإنسان أم صار علم النفس هو ذاته الأزمة التي تستعصي على فهم الإنسان؟ وهل القوانين التي وضعها علم النفس منطقية وعلميَّة في الأصل في بعض أجزائها؟.

ورغم أهمية السؤال السابق، إلا أن دَور الأسئلة الحقيقية ليس في تقديم إجابات مُقولبة وجاهزة ونتائج عاجلة، بل في صنع علامات استفهام جديدة وتفجيريَّة على المستوى الإشكالي وتغوص نحو العمق لا نحو الإجابة بوصفها سطحًا لا عُمقًا.

قبل البدء: أسئلة السينما هي أسئلة الإنسان نفسه

يقول «إدموند هوسرل»: «إن السينما تكمن قُدرتها الأساسيَّة في كونها تَنقُلنا من قضية الاشتباك المباشر مع الحياة وقضاياها وموضوعاتها، إلى موقفٍ آخر يتمثَّل في المُشاهدة من بعيد مع تقديم التجربة ذاتها وتقريبها إلينا بحدودها القصوى ليحضر التأمل فقط وليغيب الانخراط والاشتباك المباشر مع الحدث والذي يمنعنا في غالب الأمر من ممارسة التأمل». 

لا يُمكن إنكار أن دَور السينما هو دور الإنسان نفسه، ذلك الإنسان الذي يعيش السينما متأملًا لأنه يرى أسئلته مطروحةً ضمنها فهو موضوعًا لها، وهي كذلك بالنسبة له أيضًا. ولا أعني هنا «السينما» التي لا تُقدِّم سوى «مسدس وفتاة جميلة تعود إلى حبيبها في نهاية الفيلم». بل تلك الأفلام التي تهزك من خلال عينيك، تمنعك من النوم، تُشعل أوجاعك القديمة، تعيد تفسير «الجوع/ الموت/ الحب/ الفرح» من جديد، بعد ربط أجزائه الدقيقة مع بعضها البعض، إذ يحكي أحد المخرجين أنه كان بصدد تصوير «لفيلم» لكن لم يستطع إكماله، ليس بسبب نقص التمويل، ولا نقص الكوادر ولا المواقع المختارة، بل بسبب عدم عثوره على وجهٍ يحمل ملامحَ معينة تتناسبُ مع أحد الأدوار، توقف هذا المخرج لقرابة سنتين عن إكمال التصوير، وفي إحدى رحلاته لـــ «إيطاليا» استأجر فُندق للإقامة وفي ثاني يوم من زيارته تلك، توجَّه لأحد المطاعم الشعبية المختصة بتقديم «البيتزا»، ووجد نادلًا بذات الطول الذي كان يتخيله، وبذات الملامح التي كان يتصورها والتي تستطيع أن تعكس أسئلة المشهد بطريقة إيحائيَّة غير مباشرة، حينها صرخ: 

-«لقد وجدتك أخيرًا… لم أعد أريد البيتزا».

بعيدًا عن «ستاتز».... بداية الأزمة والسفر نحو الجذور:

قبل الدخول مع الفلم الوثائقي «ستاتز» في جدلٍ، أو خوضِ نقاشٍ معه، فمن الضروري السفر نحو بداية الأزمة والوقوف على جذرها الأساسي، إذ شكَّل ذلك ارتداداتٍ مرعبة على العلوم الإنسانية ككل بما فيها «علم النفس (بل هو أهمها)»، فخِلال القرن المنصرم عاشَ الإنسان تحولاتٍ مُفزعة كانت جميعها تَطرح سؤالًا مركزيًا مفاده: «أيها الإنسان إذ كنت لم تعد مركزًا للكون، فما هو دَورُك فيه؟» وهو سؤالٌ يعتقد الجميع بأنهُ السبب الأساسي في تحريك الفكر البشري وبثِّ روح التجديد فيه، لكن المسألة ليست كذلك على الإطلاق بل هو سؤالٌ طرحهُ الفلاسفة بسبب ما أحدثهُ «علم الفلك» من ثورات وتحديدًا «الثورة الكوبرنيكيَّة» في القرن «السادس عشر» وكان لذلك كما أسلفنا ارتدادات على الإنسان نفسه، بل هي ذاتها من صنعت تساؤلاتٍ المفكرين والفلاسفة حول الدين والأخلاق ومأزق الوجود ودور الإنسان في هذه الحياة ومعناه وتجربته، وهي الموضوعات الأبرز في علم النفس ما لم تكن هي الأساس.

إن أُطروحاتٍ كثيرة تفتقد للمِّ شمل هذه المأساة وتفاصيلها الدقيقة وسياقاتها التاريخيَّة، إلا أنه مؤخرًا صدر عن «دار أدب» كتابٌ هامٌ بعنوان «الحداثة ومركزيَّة الرؤية العلميَّة» والتي كانت في الأصل أطروحةً للدكتوراه، وبذل فيه المؤلف، د. محسن المحمدي جُهدًا هائلًا ونوعيًّا سادًا بذلك تلك الفجوة، إذ أصبح الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما «الحقيقة أم الأمان الوجودي؟» مع التركيز على مسببات هذا السؤال والدوافع التي أخرجته، فالكون الذي كان مكشوفًا بالنسبة للإنسان بسبب الرؤية الدينية لم يعد كذلك، وهو السبب ذاته الذي جَعَلَ الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال بجلالةِ قدره يصرخ قائلًا: «إن الصمت الأبدي لهذا الفضاء اللامتناهي يُرعبني».

كل ذلك حدث كنتيجةٍ حتمية للثورة الكوبرنيكيَّة وما أسفرت عنه من نتائجَ وليس بسبب تأملات أولئك الفلاسفة والمفكرين، إذ هم مجرد نتائج وليسوا مقدمات! ليقوموا بعد ذلك بمحاولةٍ جادة لإنقاذ الإنسان من فقدانه لقداستِه ومركزيته وطرحِ سؤال «تكوين الأشياء» بدلًا من سؤال «خلق الأشياء» فالفرقُ كبير ونوعي ومختلف الغاية والوجهة. 

وهذا التحول في السؤال (أي سؤال التكوين بدلًا من الخلق) الذي صعد بسبب «الرؤية العلمية»، جَعَلَ فلاسفة كبار من خلال أطرُوحاتهم يُحاولون نقد الرؤية العلمية للأشياء والتشكيك فيها، بهدف حماية الإنسان وجهازه النفسي ومعناه في الوجود، منهم: إيريك فروم وهايدغر وماركيوز وطه عبد الرحمن وآخرون.

 فهايدغر مثلًا يؤكد أن الحداثة العلميَّة ورطتنا في طريق واحد هو طريق العقل الأداتي الحسابي، وجعلتنا نعتقد بأن ذلك هو الفكر، لِتُهمل بذلك الطريق الثاني الأصيل فينا وهو التأمل، ولهذا تم نسيان الوجود واستبداله بالموجود والاعتقاد بأن الموجود هو الوجود أصلًا لتبرز أزمة «المعنى» التي ستجعل هايدغر نفسه يُعبِّر عن ألمه عبر مجلة «دير شبيغل الألمانية» عام 1976 بقوله: «الله وحده من يستطيع إنقاذنا من الوضع الذي وصلت إليه البشريَّة». 

 أما «ماركيوز» أحد المؤسسين الأوائل للمدرسة الفرنكفورتيَّة فكذَّب وعود «العلم» بالرفاه والنجاة وتقديم الخلاص للبشريَّة، فالحضارة الحديثة ساهمت في دمارنا تحت مفاهيم من قبيل: «الحُرية/ التقدم/ النظرة العلميَّة الصارمة» وإن وفرت رخاءً وازدهارًا لم تعهده البشريَّة من قبل إلا أنها حملت بداخلها أمراضًا مزمنة  كـــ «الاغتراب والنظرة الاستهلاكيَّة للإنسان، ضياع مكانة الفرد.... إلخ». ولهذا تحديدًا يجب أن نستفيد من كل هذه الممكنات العلميَّة لنصنعَ لنا حضارة «إيروسيَّة»، تلك الحضارة التي تُطلق العنان للحب والخيال على حساب العقل مع عدم الاستغناء عنه، حينها سيصبح الإنسان كُلي الجوانب وليس أُحاديها، وسيُعطي ذلك للإنسان  فرصةً كي يستمتع بالحياة ويستثمر طاقاته الغريزيَّة الكامنة والحيويَّة، لأن الآلات باتت تقوم بمهمة العمل الشاق بدلًا من البشر.

 الحال نفسه مع «فروم» الذي أشار إلى أن «الرؤية العلميَّة» قادت الإنسان إلى «الأنانية الكاملة/ اللذة القصوى» والاعتقاد بأنهما مصدرانِ أساسيَّان لسعادة البشريَّة، وإذ بهما يؤديان بنا نحو مزيد من الرغبة في التملك والتوحش الذي يقودنا في نهاية الأمر إلى الحرب والقتل والتدمير والصراع بين طبقات المجتمع، وجعلنا نمتلئ من الداخل بالملل الوجودي، فهكذا قال فروم :«إن الناس لم يعودوا سُعداء ليس لأنهم لا يملكون أو لا يحصلون على الأشياء، بل لأن الملل يخترق حياتهم» ما يعني أن علينا كجنسٍ بشري البحث عن تحقيق ذواتنا و كينونتنا بعيدًا عن التملك وتحقيق الرغبات، إذ سنصبح خاسرين حين نربح العالم ونخسر أنفسنا لا العكس.

لكن كل هذه الانتقادات ووفقًا لأطروحة «المحمدي» هي نفسها وقعت في مأزق العلميَّة، بمعنى أنها انتقدت «العلم» بأسلوب «علمي» دفاعًا عن الإنسان وشعوره وهواجسه المقلقة، ما يعني أن العلم في نهاية المطاف «يمكر بنا» وبأن أدواته ستسمر في العيش دونما توقف وستقتحم كافة المجالات.

العَودة إلى ستاتز واستيعاب الـــ «مكر» العلمي:

تكمُن قوة «ستاتز» في استيعابه لكل هذا «المكر العلمي»، وكل هذا الصراع الفكري، لقد استطاع أن يصنع مزيجه الخاص ما بين الرؤية العلميَّة في تخصصه علم النفس، والرؤية الروحيَّة والأخلاقية لوجود حالة من العَجز يُعاني منها هذا التخصص.

إنهُ العجوز المريض الذي كانَ طفلًا لأبوين مُلحدين، ورغم ذلك كانوا بحاجة للإيمان من خلاله، أي الإيمان به، وبسبب ذلك أصبح هو نفسه مؤمنًا بإيمانهم، ما صنع لديهِ قُدرةً على استيعاب المنظومة الإيمانية منذ الصغر ودورها التربوي والعلاجي.

إنه الناقد لفكرة أنَّ على المعالج النفسي أن يستمع للمريض ولا يُقرر عنه، ليستبدلها بفكرة «الآمر على المريض» لأن في ذلك استنهاض أولي وبشكلٍ إجباري لمفهوم «الإرادة» بدلًا من استنفاد الوقت والسنوات والدوران في حلقاتٍ مفرغةٍ لا تنتهي تحت مسمى «التداعي الحُر».

إنه مقدِّم الوعود لكل مريض يزوره بأنه سيصبح جيدًا لأن ذلك يُعيد إحياء «الأمل» بداخله، فالعلاقة بين «الأمل/ الإرادة/ الإيمان» هي علاقة مترابطة ومتشابكة فلا يمكن الاعتماد على واحدٍ دونما آخر، فمن خلال تعزيز الأمل تُحبط وتَتَقلص فكرة «اليأس» أو تتم محاصرتها على أقل تقدير، وفكرة اليأس والإحباط والعجز هي التي يتغذى عليها «الاكتئاب» في تكوينه الأولي ليتحول المجال الانفعالي والشعوري للمريض في رؤيته لنفسه «متدني القيمة/ مُؤنبًا للضمير/ فاقدًا للمتعة» وحزينًا كطفلٍ ضائع في مدينةٍ أكلتها الحرب وهي الأعراض الحاضرة والثابتة لدى كافة المصابين به وفقًا للدليل التشخيصي لمرضى الاكتئاب. 

كما أن ستاتز ومن خلال «الإيمان» وتقوية منظومته كذلك يُشعِر العميل (أي المريض) بأنه كائن محصَّن أمام المستقبل المجهول والذي يعدُّ هو الثيمة والمعطى المركزي الذي يتغذى من خلاله مرض «القلق».

إن هذا العجوز الوسيم «ستاتز» ومن خلال الأمر الذي يُطلقه لكل مريض يؤسس إدراكيًّا لفكرة «التابع/ المتبوع» والتي تلعب دورًا هامًا في استمرار العلاج والخضوع له كمفهوم، كما أنهُ من خلال هذه الثنائيَّة يخلق حالة تعويضيَّة لدى المريض في حال كان يُعاني من اضطراب في مفهوم «الأب» أو في مفهومي «الصداقة/ الأخوة» وهي إحدى المقومات المهمة للصحة النفسية.

«التصوير» كــــحالة حصار:

الأمر الآخر الذي فعله «ستاتز» ويستوجب الوقوف عليه مليًّا هو استخدامه لــــ «سُلطة الصورة»، ففي إحدى الجلسات العلاجيَّة وقبل أن يقوم المريض بالدخول إليه وهو غارقٌ في حالة اكتئابيَّة مأساوية، أعني الممثل والكوميدي وصانع الأفلام «جونا هيل»، والذي كان يُعاني كذلك بما يُعرف إكلينيكيًا بـــ «مقاومة العلاج الدوائي»، طَلَبَ منه «ستاتز» أن يُخرج هاتفه ويقوم بتصوير نفسه مع الاحتفاظ بالصورة لوقتٍ معلوم وهو ما فعله المريض فعًلا، وبعد مرورِ جزء يسير من الزمن، أمره بالتقاط صورة أخرى له بعد أن ابتسم المريض من تلقاء نفسه، وهو ما جعلني أطرح تساؤلًا هامًا خلال المشاهدة: 

هل هذا الفعل عفوي من جانب المعالِج أم أنه يكشف عن حُمولةٍ متفجرة مِن الدلالات الهامة وغير تلك التي ذكرها في الفيلم؟.

 إجابةً على ذلك يجب أن نعود إلى «سوزان سونتاغ»، إذ تُعد من الشخصيات البارزة والتي أسست نظريًا لمفهوم «الصورة» وتقول في كتابها «حول الفوتوغراف» ما نصه: «عندما نُصور فإننا نستولي على الشيء المصور، هذا يعني أننا نضع أنفسنا في علاقة معينة مع العالم، تشبه المعرفة وبالتالي السُّلطة». وإن كان التصوير هو الفعل الأكثر غدرًا كما يقول الباحث خالد القعيب في مقالته المنشورة «بـــالرياض» باعتبارهِ رغبةً ملحةً في تجميد لحظة ما على حساب لحظات أُخرى قد تكون أكثر أهميَّة، إلا أنها في السياق الذي قام به «ستانز» نستطيع وصفها بأنها بالفعل الأكثر وفاءً، إنهُ يريد محاصرة الحالة الاكتئابيَّة زمنيًا للمريض وباستخدام أكثر الأدوات رواجًا في العصر الحديث لممارسة سُلطتها من خلال التأكيد على عدم «ثبوت الحالة الشعورية التي تحتل المريض» شريطة إجراء مقارنة معها بصورة أُخرى لتصبح بذلك الفعل «الأكثر علاجًا»!.

ليس دفاعًا عنه... بل دفاعًا عنا:

خلال الفترة الماضية كان جزءٌ أساسيًّا من مرحلة «ما بعد المشاهدة» هو معرفة ردود الفعل غير الانطباعية؛ بهدف جمع أكبرُ قدرًا من التأويل والتفاعل معه على مستوى الداخل فقط، تحقيقًا لغايات عدة أبرزها: معرفة الانتقادات التي وُجهت له، والأفكار التي انطلقت من خلالها. ليس من الجميع وإنما من المتخصصين فقط، وحقيقة الأمر أنني لم أجد نقدًا إلا ما كتبه أحد المعالجين النفسيين الموسوعيين في تخصصه عبر سلسلةٍ من التغريدات، لكنهُ انتقادٌ يستوجب الدخول معه في حالة نقاشيَّة وجدليَّة، وتتكون هذه الانتقادات من ثلاث أفكار رئيسة لها مبرراتها أبرزها: 

  • أن العَلاقة مربكة بين الطرفين لأنها منكشفة بطريقةٍ غير تخصصية.
  • أن التعامل الحذر في العملية العلاجية هو الأكثر أخلاقية في مجال علم النفس لأن أول مبدأ في كل هذه العملية هو دفع الضرر.
  • ثالثا وآخر هذه الملاحظات، أنَّ الغرب سيظل هو السبَّاق لتحطيم الأُطر والتعليمات التخصصية لخلق مساحات إبداعيَّة وحدود أُخرى.

 ويمكن الرد عليها كافة رغم مشروعيتها في أن العلاج النفسي بحدِّ ذاته يقوم على الانكشاف بل هو مصيره الحتمي، وصحيحٌ أن هذا الانكشاف قد يؤثر على العلاج نفسه وذلك من خلال تسببه لانزياح في نوعية العلاقة وتأسيس أشكال مختلفة من المقاومات فعلى سبيل المثال: حين تكون المعالِجة «امرأة» والمريض أو العميل «رجلًا»، فإنهُ في مرحلة ما سيشعُر بالحب تجاهها، كشكلٍ من أشكال المقاومة غير الواعية ولوجود التناقض الجندري في العلاج (ذكر/ امرأة) وهو ما سيُعزز الاحتمالية، لكنه قد يُعبِّر في الوقت ذاته عن سريان العملية العلاجية بطريقة صحيحة، لأن هذا الشعور وهذا الحدث هو تطور انفعالي وتفاعلي صحي، شريطة عدم الذهاب معه وتصديقه! إن هذا الانزياح في نوعية العَلاقة ليسَ حِكرًا على المريض بل قد تشعر به المعالجة أيضًا تحت ذريعة الشفقة والرغبة في إنقاذ المريض وقد يُحركه مفهوم «الأمومة» ويعزز منه، وهو المفهوم الحاضر طبيعيًّا وثقافيًّا فيها ودون وعيٍّ بكافة طُرق اشتغاله بدواخلها.

 إلا أن العلاقة العلاجية بين (ذكر/ ذكر) من الممكن دَفعُها نحو مزيدٍ من الانكشافِية للتطابق الجندري ولصعوبةِ حدوث هذا الأمر، وفي حالة حدوثه (أي الحب) فإنه يأخذ الطابع الأبوي أو الصداقة الحميمية، وهذا يُعد أُفقًا ممكنًا للاستثمار وصولًا إلى التشافي، لأن الحب في هذه المواضع لا يأخذ طابع الإغواء والإغراء والاشتهاء إلا نادرًا وفي حال كانَ أحدهما يُعاني من اضطراب الهُوية الجنسية. إنهُ «حبٌ» يأخذ طابع «الطمأنينة» التي  تخلق حالة من «التسليم والانصياع والاتباع والذوبان الواعي في الآخر وليس غير الواعي كما هو الحال في الإغواء».

 كما أن الانتقاد المتضمن في أحدِ أجزائه أن «الانكشاف» مرفوض، لأن مبدأ «دفع الضرر» هو الأساس في العلاج النفسي ويحتاج إلى مناقشةٍ من نوعٍ آخر، فما هو «دفع الضرر الأكثر منفعةً»؟ أليس إِبقاء الألم والتعاسة للمريض هو الأكثر ضررًا من إبقاءِ قانون مهني متهالك في العملية العلاجية، أو الدفاع عنه؟ خاصةً في ظل إمكانية استثمار الانكشاف نفسه لدفع الضرر وتحقيق الغاية الأخلاقية العظمى من العلاج والتي هي رفاه الإنسان من خلال تشافيه!.

  كما أن التأكيد على أن الغرب هو المخوَّل في خرق القوانين وتجاوزها ولو بشكلٍ إبداعي ما هو إلا امتداد لحالة النكوص والانهزامية الثقافية التي نشعر بها عربيًّا، وشكلاً من أشكال بقاء هذه العقدة فينا على مستوى العقل الجمعي وإن أخذت طابعًا تخصصيًّا في ظاهرها.

لقد أطلتْ لكن: هل الكارثة قادمة؟

الدخول في نقاشٍ مع «ستاتز» من خلال هذا الفيلم الوثائقي الذي صدر عبر «نتفلكس» واستعراض مهاراته لا يعني بالضرورة التسليم بما فعله جملةً وتفصيلًا لكنه يُعد بوابةً ضروريَّة، ليس فقط لتقديم رؤية شمولية عن علاقة الفلك والثورة الكوبرنيكية والارتدادات التي فعلها على الفكر الإنساني الذي يحتك مع تخصص «علم النفس»، وليس كذلك في قدرته كمعالجٍ على استيعاب كافة هذه المفارقات وتوظيف كل جزءٍ منها رغم تناقضاتها الصارخة! إنهُ نقاش يجب أن يمتدَّ لما هو أبعد، أن يكون بوابةً مهمة لاستشراف أزمات الإنسان الآتية وإمكانية أن تكون الكارثة القادمة خليجيًّا، وسعوديًّا بالخصوص هي ذات علاقة وثيقة بـــ «الصحة النفسية» على مستوى انتشار المرض النفسي وارتفاعها إحصائيًّا وهو ما قد يستوجب إنشاء مادة تعليمية لها حصصًا أسبوعيَّة بعنوان «الصحة النفسية» لتكونَ جدارًا صادًا أمام هذا الطوفان القادم وفقًا لعددٍ من المؤشرات، وتكون تلك المادة إجراءً استباقيًّا أمام نبوءات واستشرافات تؤكد اجتياح «الاكتئاب/ القلق/ الرهاب... إلخ» للعالم العربي والمملكة. لكي نُنشيء جيلًا قادمًا على وعيٍ بذاته وجهازه النفسي أمام تعاظم التحديات المستقبلية وهيمنة التقنيَّة والذكاء الاصطناعي وبزوغ ما يُسمى بالفردانيَّة والاغتراب.

إن الأمر المحزن لي ولـــ «ستاتز» هو أن العمليَّة التعليميَّة لدينا عربيًا وسعوديًّا يدخل من ضمن ركائزها «الطالب/ المدرس» ويشكِّل الجهاز النفسي لكليهم النسبة الأعلى من تكوينه ونموه، ورغم ذلك لا وجود إطلاقًا لمادةٍ تستوعب هذه النسبة وهذا التكوين سوى ما يدخل ضمن الأشياء العموميَّة كالإرشاد الطلابي والتفكير الناقد أو النشاطات الصفية التي تقوم على فكرة «أطلق الأسد الذي بداخلك/ كُن شجاعًا/ لا تخف/ لا تخجل»، أو على فكرة «تحدَّث أنا أستمِع لك وكل شيءٍ سيصبح جميلًا». 

ختامًا؛ شكرًا لـــ «ستاتز» الذي فتح كل هذه الآفاق وهذه البوابات، رغم عدم قدرتي على الجزم بنجاحه فالمسألة وبكل تأكيدٍ هي أكثر تعقيدًا مما نتصور.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى