هل نحن مضطربون حقًا؟ العلاقات المُعقَّدة في السينما

منذ نشأتها، نهلت الأفلام السينمائيَّة من علم النفس الشيء الكثير؛ نظرًا لما يضعه بين يدي المُهتم من حالاتٍ إنسانيَّةٍ زاخرةٍ بالتناقض والتعقيد، وهما عنصرين من العناصر التي يمكن للكاتب والمخرج في الآن نفسه توظيفهما لإثراء الفيلم ومحاكاة الحياة اليوميَّة، ما يجعلها مادَّةً قابلةً للتفاعل والتأثير، وتلك غاية الفنِّ في نهاية المطاف. لقد ساهمت بعض الأفلام في تعرية عددٍ من المفاهيم الرائجة عبر عرضٍ مرئيٍّ دراميٍّ يضع الحقيقة على المقصلة، وذلك من جميع الجهات ومن عدة زوايا بوضوحٍ تام، ما يفقدها حيل المراوغة وتزييف الحقائق، وهو ما يلجأ إليه المرضى النفسيين لإنكار الحقيقة الظاهرة للجميع، باستثنائهم هم.

من ذلك مصطلح "complex relationship - علاقة مُعقدة" والذي ساهم رواجه في ارتكاب جنايةٍ على المستوى المعرفي من جهة، وعلى المستوى التواصلي - الاتصالي بين المكوِّنات البشريَّة من جهة أخرى، بسبب تحريفه الجوهري لمرض "الاضطراب العاطفي"، والذي يندرج تحت أمراض الاكتئاب، وله درجاتٌ متفاوتةٌ بحسب كلِّ حالة على حِدة. إذ بات المصطلح يُقدَّم بصفته الجواب المثالي لتبرير ارتكاب مجموعةٍ من الأفعال التي تكشف سوءًا فاضحًا في فهم مكامن الشعور، والتي تتمظهر عاطفيًا من خلال التعلُّق المرضي، الحنين المفرط، توهم الأمل. يهرب هؤلاء – كما سنستعرض في عددٍ من الأفلام – عن مواجهة الحقيقة، ومعالجة هذا المرض باختلاق حجَّة التعقيد للاستمرار في هذه الدوَّامة. وقد يكون ذلك مقبولًا – وأقول ذلك تجاوزًا – لو انحسر ضررُ هذه الحالة على المريض نفسه، بينما في أغلب الحالات يكون متعديًا لطرفٍ آخر، بحيث يطال الشريك الذي صنع هذا الاضطراب بشكلٍ مباشر، أو ضحيَّة خارجيَّة يتم التعامل معها بوصفها جسرًا للعبور.

لا يمكن الحديث عن تجسيد الاضطراب العاطفي سينمائيًّا دون ذكر فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» (Eternal Sunshine of the Spotless Mind - 2004) الشهير، من إخراج ميشيل غوندري والذي اشترك في بطولته الفنَّان المُعجزة جيم كاري وفاتنة تايتانيك كيت وينسليت، حيث يأخذك إلى دهاليز فوضويَّة لعملية تطهيرِ الذاكرة طبيًا، بهدف محو ذاكرة شخصٍ بعينه بعدما نفدت كافَّة الوسائل في تجاوزه. إلا أنَّ هذا التدخُّل يفشل في مهمته عندما يلتقي الطرفان بعد محو ذاكرتهما صدفةً ويميلان مجدَّدًا إلى بعضهما البعض، تمامًا كما في سيرتهما الأولى. المفارقة في هذا الفيلم الأيقونة هي الذهاب إلى أبعد نقطةٍ في معالجة الاضطراب العاطفي عبر استئصال الذاكرة برمَّتها، وهي معالجةٌ فريدةٌ كسرت قواعد عدَّة في المعطى والنتيجة، نظرًا لكون العلاقة المستوفية لكامل صفات الاضطراب ما من سبيلٍ لنسيانها إلا باللجوء إلى المعالجة النفسيَّة، بحكم أنَّ الذاكرة غير المتسلِّحة سرعان ما تعود للوقوع في ذات الفخ حتى لو تمَّ العبث بها طبيًّا.

من بيئةٍ اجتماعيَّةٍ أخرى، وتجربةٍ سينمائيَّةٍ مختلفة، يستوقفنا عربيًا فيلم «الهوى سلطان» (2024) (إخراج هبة يُسري وبطولة منة شلبي، أحمد داود وسوسن بدر«6 أيام - عملت إيه فينا السنين» (إخراج كريم شعبان وبطولة أحمد مالك وآية سماحة).

يحكي الفيلم الأول حكاية شابٍّ وفتاةٍ يعرفان بعضهما بعضًا منذ الصغر وبينهما من التفاهم والقرب الشيء الكثير، وبعد التمحيص والتفكير يجدان أن علاقتهما هذه تعوِّقُ مواصلتهما للحياة، فيقرِّرا البحث عن شركاء والعمل على الارتباط بهم. تُظهر المفارقات الكثيرة غيرة كلاهما على الآخر، وصولًا إلى الالتقاء خلسةً وبالخفاء، انتهاءًا بالبوح عن مشاعرهما لبعضهما البعض، ما يتسبَّب في دمار مشاريع الزواج وأذيَّة الأطراف الأخرى، ويمتدُّ هذا الدمار إلى التواصل بينهما. وفي لحظة ختاميَّةٍ يعودا من جديد ولكن هذه المرَّة من أجل أن يرتبطا ببعضهما، فيُسدَل الستار على البطلة وهي ترتدي فستانًا أبيض، فيما البطل يقف بجوارها ببدلته السوداء بكاملِ أناقته.

نجد أن فيلم «الهوى سلطان» قد جسَّد الاضطراب العاطفي بحذافيره، فنحن أمام شخصانِ يفشلان في تحديدِ مشاعرهما والإطار الذي يحكم العلاقة القائمة بينهما، وبدلًا من مواجهة هذا التعقيد ومعالجة أسبابه، نراهما يذهبان إلى مزيدٍ من العبث عبر إشراك أطرافٍ أخرى في هذه الدوامة، دون اكتراثٍ لأثر ذلك عليهم وعلى مشاعرهم، إذ انصبَّ اهتمامهما على تلبية رغباتهما واختيار ما يناسبهما فقط. الفيلم يضعك أمام أحد أعراض هذا المرض، ألا وهو التعلُّق المرضي، فهما متعلِّقان ببعضهما دون فهمِ سبب ذلك أو حدوده، وأمام هذا التعقيد يتسبَّبان في كارثةٍ لضحايا آخرين لرغبتهما في الهروب إلى الأمام، حتى لو كانت المسافة التي تفصلهما عن الارتطام بالجدار هي بضع أمتار.

أمَّا الفيلم الآخر «6 أيام - عملت إيه فينا السنين» فيتقاطع نسبيًا مع الفيلم السابق، إلا أنَّه استوحى من ثلاثيَّة ريتشارد لينكليتر «قبل» (Before) [«قبل الشروق» (Before Sunrise - 1995)، «قبل الغروب» (Before Sunset - 2004)، و«قبل منتصف الليل» (Before Midnight - 2013)] إطارًا مكثَّفًا لحياكة حبكته، إذ نجد شابًا وفتاةً تجمعها قصَّة حبٍّ وهما على مقاعد الدراسة ثمَّ تفرِّق بينهما الأيام دون سابق إنذار، وبعد بضع سنين يلتقيان صدفةً في أحد المراكز التجاريَّة، وابتهاجًا بهذه الصدفة يقرِّران ضرب موعدٍ ثابتٍ في ذات التاريخ من كلِّ عامٍ بصفتهما صديقان يودَّان الاطمئنان على بعضهما بشكلٍ مستمر. فشلت الخطَّة، ولم يحدث اللقاء السنوي بينهما سوى بشكلٍ متقطِّع، وفي هذه اللقاءات كانا يتشاركان التغيرات التي تشهدها حياتهما، وظلَّ السؤال عن الارتباط حاضرًا ومحوريًا، وعندما اكتشف الشاب ارتباطها برجلٍ ثريٍّ طاش عقله، واحتد موقفه أكثر حينما علِم بتعنيفه لها، فقرَّر حظرها من كافَّة وسائل التواصل الاجتماعي.

وبعد سنواتٍ من عدم اللقاء تزوره في منزل عائلته طلبًا للنجدة من الجحيم الذي تعيش به، فتجده يستقبل المعزين في وفاة والده، وقد بات الآن متزوِّجًا ولديه طفل، وهنا تنعكس الأدوار، فيطيش عقلها وتصارحه في الشارع بأنَّهما تأخَّرا كثيرًا، وكان من الأولى أن يرتبطا منذ اللقاء الأول، والسبب؟ أنَّها تحبه. عندئذٍ يحضنها والدموع تنهمرُ من عينيه، ثمَّ يذهبُ كلُّ واحدٍ منهما في حالِ سبيله. بعدها بعدَّة أعوام، وبعد اتِّخاذها قرارًا بتجميدِ بويضاتها، تكتشف مصادفةً عبر هاتفها الجوال أنَّه التاريخ الموعود للِّقاء السنوي المُهمَل بينهما، فتتَّصل به من رقم غريبٍ، ليردَّ عليها مستهجنًا هذه المبادرة، والتي تكتشف فيها انفصالَه عن زوجته، ويشرح لها سبب استهجانه بأنَّ التواصل بينهما بلا فائدة، ويبدو طفوليًّا. تأتي النهاية بأن يلتقيا في اليوم ذاته، في قاعة السينما ودون تخطيط مسبق، وهناك يبتسمان فور رؤيتهما لبعضهما بعضًا ويقرِّران الجلوس متجاورَين، كما كانا في حقبة الطفولة الغابرة، وتكون المصادفة هي مشاهدتهما لفيلم «الهوى سلطان».

لعلَّ اختيار المخرج كريم شعبان لهذا الفيلم تحديدًا هي الرسالة غير المباشرة للنهاية السعيدة التي تنتظرهما، لكنَّها في الوقت نفسه تُثبِت معطى موضوعي أكثر عمقًا، وهو أنَّهما يجدا نفسيهما في ذات الدوامة التي يشاهدانها على الشاشة، فهما مصابان بالاضطراب العاطفي المتمثِّل في الحنين المفرط، والذي يتمظهر في مواربة أبواب الماضي لعودةٍ قد تأتي يومًا ما، رغم الارتباط واختلاف مسارات الحياة. الفيلم يجعلك مذهولًا من الطاقة السلبية التي يمتلكانها في استنزاف ذواتهما، والتهرُّب الواضح من البوحِ في المشاعر وتحديد الأهداف رغمّ وفرة الفرص، أي هما لم ينجحا في إتمام علاقتهما ولا معالجة مشاعرهما بالطرق السليمة.

أمام هذه النماذج المتعددة، يأتي نموذج الفيلم الكوري «حيواتٌ سابقة» (Past Lives - 2023)، من إخراج سيلين سونغ، من بيئةٍ وتجربةٍ سينمائيَّةٍ مغايرة تمامًا، فبينما نحن نشاهد في الأفلام السابق ذكرها صراعًا يتأرجحُ بين المضطربين ومشاعرهما، يأتي هذا الفيلم ليُبرز دور الضحيَّة ومقدار الأذى الذي يقع عليه. نحنُ أمام شابٍّ وفتاةٍ يتعلَّقان ببعضهما منذ الصغر، وفي لحظةٍ مباغتةٍ يتغيَّر مسارهما ويصبح كلٌّ واحدٍ منهما في بلد، فهو يستكملُ حياته في كوريا الجنوبيَّة، بينما هي ذهبت إلى الولايات المتَّحدة لمطاردةِ حلمِ تحقيقِ جائزة نوبل للآداب، وبين ذهابها إلى أقاصي الدنيا وبين سعيها نحو الجائزة، تفتحُ الباب بين فترة وأخرى للتواصل مع هذا الشاب بصفته صديقًا، بينما مشاعرهما الظاهرة قبل الباطنة لا تصبُّ في هذه الخانة، تمامًا كما حدث في حكايات الأفلام السابق ذكرها. اللافت أنَّه في طريقها نحو المجد المنشود، كانت بحاجةٍ لجسر يهبها تذكرة عبورٍ للمجتمع الجديد، وتحديدًا الحصول على الإقامة، فوقع اختيارها على كاتبٍ يحمل الجنسية الأمريكيَّة وجمعها به أحدُ معتزلات الكتابة، فيستلطفان بعضهما ويقرِّران الزواج والسير نحو الإنجازات سويًّا.

يُظهِر الفيلم حبَّه الجم لها، وذلك من خلال دعمه المتواصل وتذليل الصعاب لتحقيق طموحها، والاهتمام بتفاصيل صغيرةٍ لم تلتفت لها، أهمَّها محاولاته المتكررة لتعلُّم اللغة الكورية. بل إنَّ الزوج لم يبدِ أيَّ امتعاضٍ عندما حكت له عن تواصلها مؤخَّرًا مع حبيبها السابق، وأنَّ الأخير عازمٌ على زيارة أمريكا لأسباب مهنيَّة، وأنَّها ستقوم باستقباله حال وصوله. سرعان ما أخذ يلحظ تغيُّر مشاعرها تجاهه، وكيف بدت تتحدَّث عن القادم من موطنها الأصلي بشيءٍ من الإسهاب الملحوظ، وانصب اهتمامها على اللقاء به وقضاء وقتٍ طويلٍ معه، مع تردُّدها الواضح في الاستجابة إلى رغبة الزوج في تدبير لقاءٍ بينهما. ذات ليلةٍ وهما على السرير سويَّة، بينما روحها تُحلق خارج المكان، ذكر لها الزوج رؤيته حلمًا غريبًا، إذ كان يمدُّ يده لها كي يمنع وقوعَها في دوَّامةٍ سوداء إلَّا أنَّها كانت ترفضُ الاستجابة، هنا ظهر عليها الارتباك وقرَّرت على الفور الخلودَ إلى النوم.

بعد إلحاحه، زارهما الغريب في منزلهما قبل موعد إقلاع الطائرة بعدَّة ساعات، ولكن سرعان ما هربوا جميعًا إلى حانةٍ قريبة، وفي مشهدٍ يحاكي لوحة العشاء الأخير، جلس المضطربان بجوار بعضهما، فيما الزوج في أقصى طاولة البار ويدنو منهما على استحياء. تولَّت الفتاة وظيفة الترجمة بينهما، ولكن ما هي إلَّا دقائق حتى اندمجت مع الحبيب السابق في الحديث باللغة الكوريَّة، وظنًّا منهما بأنَّ الزوج غير مدركٍ لما يقولانه، أخذت تعاتبه لتفضيله فتاةً أخرى ما إن قطعت تواصلها معه عبر الفيسبوك، وأنَّها ما تزال تغار منها، فقام هو بدوره بذكر معاناته بسبب بُعدِها عنه، وأنه ما زال يكنُّ لها مشاعر لم تمت يومًا. يرجعُ الغريب إلى البيت لأخذ شطنته، ويقوم بتوديع الفتاة بالقرب من سيَّارة الأجرة، مكتفيًا بالمصافحة وعباراتٍ مقتضبة، ثمَّ يرحل. تتسمَّر في مكانها، وما إن يقتربُ منها زوجها حتى تحضنه وتنفجر باكية، ولا نعلم ما إن كانت تحتضنه كخيارٍ وحيدٍ تبكي في حضنه حسرةً منها على قصَّةٍ لم تكتمل، أم لتذكِّرها أنَّها باحت بمشاعرِها لرجلٍ آخر بجوار زوجها الذي ذكر لها يومًا ما أنَّه سيتعلَّم لغتها حبًّا بها.

نستخلص من هذا العرض أنَّ السينما – رغم تنوُّع البيئات الاجتماعيَّة والتجارب الفنيَّة – تشترك في المواضيع الإنسانيَّة وتقدِّمها بأسلوبٍ مختلفٍ حسب رؤيةِ الكاتب والمخرج، وأنَّ النماذج السابقة والدائرة في فلك الاضطراب العاطفي قد قدَّمت صفات هؤلاء المرضى بدقَّة، وأهمها الأنانيَّة، ضعف الشخصيَّة، اعتياد الكذب، ضعف الوازع الأخلاقي، غياب الهدف، محدودية الطموح. وهو ما يتطابق تمامًا مع ما يصل إليه العاملون في المجال النفسي عند تشخيص أصحابِ العلاقات المُعقَّدة في العيادات المُختصَّة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى