هل كانوا ذكوريين في «كان»؟ عن النسوية والمهرجان

١٥ مايو ٢٠٢٥

على مدار أكثر من سبعين عامًا، حافظ مهرجان كان السينمائي على موقعه في قمَّة الهرم السينمائي العالمي، ليس فقط كواجهةٍ فنيَّةٍ راقية، وإنَّما كمساحةٍ تمنحُ الأفلام شرعيتها الدولية وتفتحُ أمام صانعيها أبواب المجد السينمائي. على سجادته الحمراء تُصنع الأساطير، تُولدُ الكلاسيكيَّات، وتُخلَّد أسماء في ذاكرة الفن السابع. 

ولكن خلفَ هذا البريق، يطفو سؤالٌ لا يشيخ: لماذا ما تزالُ المرأة غائبةً عن قمَّةِ هذا المجد؟ لماذا تظلُّ المشاركة النسائيَّة في المسابقةِ الرسميَّة خجولة ومحدودة، وكأنَّ الإبداع حكرٌ على الرجال؟

في زمن يُرفع فيه شعارُ المساواة وتُكسَر فيه الصور النمطيَّة، ما تزالُ جائزة السعفةِ الذهبيَّة، في معظم دوراتها، تُمنحُ لمخرجٍ لا لمخرجة، وتفتحُ ذراعيها لأفلامِ الرجال، تاركةً المرأة على هامشِ المنافسة. فهل السبب في ذلك يعودُ لضعفِ الإنتاج النسائي؟ أم أنَّ المهرجان نفسه، بمؤسَّساته ومعاييره، ما زالت بوَّابته محروسةً بعينٍ ذكوريَّة؟

منذ تأسيس مهرجان كان عام 1946 وحتى اليوم، ظلَّ حضورُ المرأة في المسابقة الرسميَّة باهتًا مقارنةً بزملائها الرجال. فعلى امتداد ما يقربُ من ثمانية عقود، لم تُمنَح السعفة الذهبيَّة لمُخرجاتٍ سوى ثلاث مرَّاتٍ فقط: الأولى عام 1993 للمُخرجة النيوزيلنديَّة جين كامبيون عن فيلم «البيانو» (The Piano - 1993)، والثانية بعد 28 عامًا، عام 2021، للفرنسيَّة جوليا دوكورنو عن فيلم «تيتان» (Titane - 2021) أمَّا الثالثة فكانت من نصيب جوستين ترييه عام 2023 عن فيلمها «تشريح السقوط» (Anatomy of a Fall - 2023). لكنَّ فوز ترييه لم يكن تتويجًا فنيًا فحسب، بل مثَّل حدثًا سياسيًّا وثقافيًّا بامتياز، خاصَّة بعد خطابها الجريء خلال تسلُّم الجائزة، حيث انتقدَت فيه الحكومة الفرنسيَّة بشكلٍ صريح. بذلك، مثَّل فوزها حدثًا مزدوج الدلالة: انتصارٌ لفيلمٍ معقَّدٍ في بنائه السردي، ولصوتٍ نسائيٍّ غير قابلٍ للاحتواء ضمن الصيغة "الزخرفيَّة" المعتادة. من حيث الشكل والمضمون، قدَّم «تشريح السقوط» نموذجًا لسينما نسائيَّة فكريَّةٍ تتحدَّى السرديَّات القانونيَّة والأخلاقيَّة من منظورٍ نسائيٍّ معقَّد، دون الوقوع في النمطيَّة أو المباشرة. من الممكن اعتبار فوز ترييه مؤشرًا على تحوُّلٍ ممكنٍ في ذائقة المهرجان، إلا أن هذا الفوز، بالنظر إلى تاريخه، يبقى استثناءً لا يعكسُ تحوُّلًا مؤسَّساتيًا راسخًا بعد.

من بين مئات الأفلام التي ترشحت للمسابقة الرسمية منذ انطلاقتها، لم تتجاوز نسبة الأعمال الموقَّعة بأسماء نسائيَّة 5%. فعلى سبيل المثال، في دورة عام 2012، خلت قائمة المتنافسين على السعفة الذهبيَّة من أيِّ اسمٍ نسائي. وحتى في السنوات التي ارتفعت فيها الأصوات المطالِبَة بالمساواة، مثل 2018 و2023، لم يتجاوز عدد المخرجات المشاركات ثلاث أو أربع، مقابل أكثر من 15 رجلًا. لكن هل هذا الغيابُ العدديُّ محضُ صدفة؟ أم أنَّه يعكس منظومةً متجذِّرةً من التحيُّزات، تجعل الطريق إلى المسابقة الرسميَّة أكثرَ وعورةً أمام المرأة؟

بعد حركة #MeToo في 2017، بدأ مهرجان كان في مراجعة تمثيل المرأة، لا سيَّما في المسابقة الرسمية. وقد اتُّخِذَت خطواتٌ رمزيَّةٌ، مثل توقيع "ميثاق المساواة" عام 2018 وزيادة تمثيل النساء في لجان التحكيم، بما في ذلك رئاسة الممثِّلة كيت بلانشيت للجنة التحكيم في الدورة 71 من المهرجان عام 2018. رغم هذه التحسينات، ظلَّت الأرقامُ متواضعة: في 2019 و2021، لم يتجاوز عدد أفلام المخرجات 4 من أصل 21 فيلمًا مشاركًا. ورغم بعضِ مظاهر التحسُّن، ما يزال الحضور النسائي بعيدًا عن تحقيق المساواة، ما يطرح تساؤلاتٍ حقيقيَّةً حول مدى جدِّية التزام المهرجان بإحداث تغييرٍ فعلي.

تتكرَّر تصريحات منظِّمي مهرجان كان، مثل تييري فريمو، بأنَّ الاختيار يعتمد على "الجودة لا الجندر"، في محاولةٍ لتبريرِ قلَّة تمثيل المرأة. غير أنَّ هذا الادعاء بالحياد الفني يُخفي في طيَّاته تحيُّزًا ذكوريًا في تعريف "الجودة" ومعايير تقييمها، ممَّا يؤدي عمليًا إلى إعادة إنتاج إقصاء النساء من مواقع التقدير والاعتراف. إنَّ التشبُّث بمبدأ "الجودة أوَّلًا" يتجاهلُ العوائق البنيويَّة التي تواجه المُخرِجات، ويُكرِّس الفجوة التمثيليَّة بدلًا من معالجتها، ممَّا يجعل الحياد المزعوم أداة للحفاظ على النظامِ القائم.

على مدار سنوات، لم تلزَم المخرجات بالصمتِ إزاء الإقصاء المنهجي من المسابقة الرسميَّة في مهرجان كان، بل عبَّرن عن احتجاجهنَّ بأساليب مباشرة وصريحة. من أبرز هذه المبادرات هي الرسالة المفتوحة التي نُشرت في صحيفة لوموند عام 2012 ووقَّعتها مجموعةٌ من المخرجات الفرنسيَّات، من بينهنَّ فاني كوتنسون وفيرجيني ديبانت. حملت الرسالة سخريةً لاذعةً من اختيار 22 فيلمًا من إخراجِ رجال، وممَّا جاء فيها: «يحبُّ الرجال العمق في المرأة، لكن فقط عندما يتعلَّق الأمر بفتحاتِ الصدر».

تُعبِّر هذه الرسائل عن رفضٍ متزايدٍ لتكريس نموذجٍ ذكوريٍّ في تقييم السينما، نموذجٌ غالبًا ما يستبعدُ الأعمال النسائيَّة حتى وإن نالت تقديرًا نقديًّا عالميًّا. فمخرجاتٌ بارزاتٌ مثل آغنيس ڤاردا، التي تُعد من روَّاد الموجة الفرنسيَّة الجديدة، لم تُمنَح السعفة الذهبية سوى تكريمًا لها، في حين لم تدخل أعمال كلير دوني ونعومي كاواسي المسابقة الرسميَّة إلا نادرًا رغم حضورهنَّ المستمر في المشهد السينمائيِّ العالمي.

هل السعفة الذهبية مرتهنة بمعايير ذكورية؟ 

يُثير تاريخ مهرجان كان التساؤلات حول المعايير الجماليَّة والفكريَّة التي تحدِّد "الاستحقاق" السينمائي، حيث يبرزُ انحيازٌ واضحٌ نحو الأفلام التي تحملُ طابعًا ذكوريًّا، خاصَّةً في السعفة الذهبيَّة التي غالبًا ما ارتبطت بموضوعاتٍ مثل الحرب والعنف. هذا التوجُّه يعكسُ تصورًا معياريًّا يرى أنَّ "الجديَّة" السينمائيَّة تتحقَّق فقط من خلال التجربة الذكوريَّة، بينما يتمُّ تصنيف السينما النسائيَّة كـ"عاطفيَّة" أو "هامشيَّة"، رغم تناولها موضوعاتٍ اجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ على نحوٍ جريء. هذا التحيُّز يُعيد إنتاجَ فكرةِ أنَّ السينما الحقيقيَّة تُصنَعُ في فضاءٍ ذكوري، ممَّا يستدعي إعادة النظر في المفاهيم الفنيَّة والاعتراف بالتعدُّدية.

مشاركة المرأة في لجان التحكيم

رغم أن مشاركة المرأة في لجان تحكيم مهرجان كان، خاصة في مواقع قيادية، شكّلت خطوة رمزية نحو تمثيل أكثر شمولًا، إلا أن الأسئلة لا تزال قائمة حول ما إذا كان هذا الحضور قد أفضى إلى تغييرات بنيوية حقيقية في معايير التقييم والاختيار. تولّت أسماء بارزة مثل جين كامبيون (Jane Campion) عام (2022)، جوليا دوكورنو (Julia Ducournau) عام 2021، وكاترين دونوف (2019) رئاسة أو عضوية لجان التحكيم، وقد فُسّر ذلك كنوع من الاعتراف المتأخر بسلطة الرؤية النسائية. 

ومع ذلك، تُظهر نتائج الدورات التي شاركت فيها هؤلاء المخرجات أو الممثلات أن القرارات ظلت متماشية إلى حد كبير مع الذوق الذكوري التقليدي. على سبيل المثال، لم يؤدِّ وجود كامبيون على رأس لجنة التحكيم إلى منح الجائزة لفيلم نسائي بوضوح، بل ظلّت الأعمال الفائزة تدور في فلك السرديات المعهودة. وبالمثل، لم يُترجم حضور كاترين دونوف (Catherine Deneuve ) إلى دعم واضح لأفلام تحمل توقيعًا نسائيًا من حيث الموضوع أو الإخراج.

إن هذا التناقض يعكس ما يمكن تسميته بـ"التزيين الرمزي" (tokenism)، حيث يُدرج العنصر النسائي كدليل على التقدم، دون أن تُراجع فعليًا الهياكل التي تنتج التحيز. فوجود نساء في لجان التحكيم لا يُفضي بالضرورة إلى قرارات نسوية، إذا لم تكن هناك إرادة واعية لتحدي المفاهيم السائدة حول "القيمة السينمائية". وبذلك، يظل التغيير الممكن رهينًا بإعادة النظر في المنطق المؤسساتي الذي يحكم المهرجان، لا بمجرد تنويع الديكور الخارجي.

ختامًا، يظل مهرجان كان السينمائي أحد أبرز منصات التقدير الفني عالميًا، لكن تاريخه يكشف عن انحيازات بنيوية تُقصي المرأة وتُعزز من هيمنة السينما الذكورية. ورغم بعض التحولات الرمزية، لا يزال الطريق نحو المساواة الفعلية طويلًا. يتطلب المستقبل إعادة تقييم المعايير الجمالية والفكرية التي تحدد "الاستحقاق" السينمائي، بحيث يُعترف بالسينما النسائية كجزء أساسي من المشهد الفني العالمي، لا كاستثناء.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى