«هجرة»: نساء يعبرن الصحراء بحثًا عن المغفرة

December 9, 2025

أعرف شهد أمين منذ سنوات، ومن خلال حديثنا في أروقة المهرجانات عن السينما والأفلام أستطيع أن أخمّن شكل أفلامها، وفيلم «هجرة» هو صوتُ شهد أمين الذي طالما سمعناه عن أحلامها. وأنا هنا لست ناقدًا، بل مُخرجًا يُعيد إحياء متعة مشاهدة الفيلم بالكتابة عنه. فيلم شهد هو عملٌ يرتكز فيه السيناريو على دوافع شخصياته ورحلة تطهير مقدسة على أرض مباركة، ومسار تعبره النساء نحو النور، نراهُ بجلاءٍ في «هجرة».

شهد أمين هي إحدى أهم المخرجات السعوديات، تمتلك نهجًا سينمائيًا فريدًا في سرد حكاية المرأة السعودية المعاصرة، من وجهة نظر مخرجة تعبّر بصورٍ شعريةٍ عن أبطال حكايتها. تنطلقُ الصورة في افتتاحية فيلم «هجرة» بشعرٍ يلخّص العلاقة بين الشخصيات وموضوع الفيلم. ومن خلال تنظيف زجاج حافلة «باص» يُمحى الحاجز بيننا وبين الفيلم، فنغدو مستعدين لربطِ أحزمة المقاعد استعدادًا للانطلاق رفقة شخصيات الفيلم، في رحلة على طريق الحج. يأتي هذا المشهد معلنًا عن بداية هذه الرحلةِ في مشاهدة فيلم ينتمي إلى «سينما الطريق»، يتناول قصة نضوج (coming-of-age)، وصراعٍ بين الأجيال يقع بين «لبيك اللهم لبيك» وأغنية في سماعة أُذن. يكشفُ هذا التضاد عمّا تريده الشخصيات من العالم الخارجي. ينطلقُ بنا الفيلم في رحلةِ «ستي» ــ خيرية نظمي ــ المحمّلة بماضٍ قاسٍ وحلمٍ تقوده نجمة الشمال، تذهب للتطهّر والتكفير بأداءِ مناسكِ الحج برفقة حفيدتيها جنى وسارة؛ إلا أنّ هذه الرحلة الروحية للتطهّر لا تكفي في مجتمعٍ ذكوري، فالله وحده لا يكفي لتكفير ذنوبها، بل يتطلب الأمر وجود رجل. فالمرأة «الحرمة» هي الكائن الحي الثاني بعد الجمل في سمات الحقد وعدم النسيان كما زُعمَ. ومن هذه النكتة الساخرة ينطلقُ الفيلم الغارق في صورته الشعرية.

منذ البداية، اختارت سارة الهروبَ بوضع سماعة الأذن والاستماع إلى أغنية، مخالِفةً بذلك أوامرَ "ستي"، الجدة الغاضبة من جنى (لامار فيدان)، والواقعة بين صراعين يزيد من تأكيدِهما التاريخ (2001م) الظاهرُ في افتتاحية الفيلم. يأتي ذلك تمهيدًا لحقبةٍ تتقاطعُ فيها أجيالٌ ثلاث: جيلُ "ستي" الذي يمثّل القسوةَ والحب والإيمان، وجيلٌ أصغر منه متمردٌ يفضّل الموت في مسعاه للهروب والتغيير، أمّا جنى فتنتمي إلى جيلٍ يقعُ في مفترقِ طرقٍ بين جيلين يتصارعان.

إنها رحلةٌ نسائيةٌ من وجهة نظر كاتبة ومخرجة سعودية. أجادت في كتابةِ شخصيات الرجال من دون تحيّز، على نحو رائعٍ وواقعي، فرسمت أبعادَ شخصية السائق أحمد - التي جسّدها بإتقان نايف الظفيري- بكثافة، لتصبح من أجمل الشخصيات المكتوبة عن بطلٍ لديه رغباتٌ واحتياجات؛ فهو رجل مقاوم يواجه صراعًا من أجل البقاء. ومن خلاله ــ وبشكل رمزي ــ تقدّم لنا المخرجة أطروحة «النساء قوامون على الرجال». فرحلة المرأة لا تقوم إلا بهذا الرجل الذي يغني أغنية بوب مارلي (No Woman, No Cry)، على عكس باقي الرجال في الفيلم، الذين يظهرون خائفين وغاضبين عبر الهاتف، ولا تقترب منهم الكاميرا أبدًا. لنصلَ ــ على نحو صادمٍ ــ في منتصفِ الفيلم إلى معرفة لِمَ «يبكي أحمد». وفي تصاعدٍ شاعري،  تسقطُ دموعُ الرجل، فيتساقطُ المطر، ثم النجوم والنار والكتاب المقدس، ثم الرماد.

لحظاتٌ خُلقت لتولِّد معنىً شعريًا مقدسًا، فتحتشد الصور الشعريةُ المصقولة بالرؤية الفنية لمدير التصوير، لتجمع بين الواقعية والرمزية، من خلال هذا الاستخدام الكثيف للضوء الطبيعي، وتنوّع البيئات السعودية بمختلف تضاريسها، لخلق لغةٍ بصريةٍ تعكسُ الرحلةَ الداخلية للبطلة. مما يضيفُ زخمًا على القيمَة الفنية للفيلم؛ فهو لم يستغل المكان كمجرّد خلفية بصرية جميلة للأحداث، وإنما جعله عنصرًا سرديًا حيًا، قادرًا على منحِ الفيلم عمقَه العاطفي وإبراز تحولاته الدرامية.

وعلى نحو مُتقَنٍ جدًا يجعلني ــ كمخرج ــ أشعر بالغيرة من جودة الصورة وإطاراتها الصحيحة ذات المسافات المدروسة، والتوقيت الدقيق لاقتراب الكاميرا وابتعادها، دون أن يبدو ذلك أمرًا مفتعلًا أو مصطنعًا، على نحو تتزاوج فيه الصورةُ الواقعية مع الشعرية. خاصةً في تلك اللقطة المتصاعدة، المركزة على شخصية البطلة جنى، التي تجعلك تقع في حبها بمجرد أن ترفع إصبعها ببراءة، وتحدّق بعينيها المحمّلتين بعبء رحلة فتاة تجوب الصحراء. وكما تجوب الجمالُ الصحراءَ تجوب المرأةُ الطريقَ أيضًا، وهو ما أكّده الفيلم في عدة مشاهد، ليذكّرنا بالنكتة في بدايته: "المرأة والجمل حيوانان متشابهان". وهذه رحلتُهما على أملٍ معلّقٍ كما في أغنية أحمد وجنى «كل شي حيصِير تمام». تتغيّر بهم الطرق والأماكن فتتغيّر التضاريس، ومعها يتغيّر الطقسُ أيضًا، في رمزية بليغةٍ دالةٍ على تغيّر الشخصيات وحالتهم العاطفية.

تتوالى الصور واحدة تلو الأخرى لتصلَ إلى خاتمة شعرية بديعة، حيث يجتمع: الثلج، الموت، رحلة تطهير ستي، والجمل. ليعود بنا الفيلم من حيث بدأ، بلقطةٍ مقربةٍ تولّد معنىً، عبر صوتٍ نسائيٍّ يظهرُ بتلاشي الصورة في سوادِ تتر الفيلم. فهل انتقمَ الجمل فعلاً؟ أم أن هناك معنى آخر خفي؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى