قلّما نجد أفلامًا ذات أثر عظيم في نمو السينما الأمريكية المستقلة في الرُبع الأخير من القرن العشرين، ومن أبرزها «إيريزرهيد» -(Eraserhead, 1977)، و«عودة الأفاعي السبع» - (Return of the Secaucus Seven, 1979)، ومن أضخمها لا بد أنه لديها - و«جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو» - (Sex, Lies and Videotape, 1989)؛ و«كلاب المستودع» -(Reservoir Dogs, 1992) الذي كان بمثابة الانطلاقة لاهتمام آخذٍ في الصعود تجاه هذا النمط من الأفلام، وفي نفس الوقت، يقول البعض إنه بداية النهاية. ضمن هذه الأعلام من الأفلام المستقلة، يظهر « أغرب من الجنة» (Stranger Than Paradise 1984) في مكانة عالية. لم يكن الفيلم الثاني لجيم جارموش بوصفه كاتبًا و مُخرجًا يظهره كموهوب فريد وحسب، بل إنه بداية لمسيرة فنيّة مميزة، ومؤثر كبير لما سيأتي لاحقًا.
صدر الفيلم في عام 1984، ما بدا رائعًا فيه كانت قدرته على استضافة الكثير من الأشياء الجديدة والغريبة مع حفاظه على المنطقيّة وسهولة الفهم.
في البداية، ثمة أسلوبه الشاذّ في الهيكل السردي: اللقطات السَّبع وَالسِّتُّونَ التي تتخللها خلفيات سوداء، وتقسيمه الثلاثيّ للفصول وعناوينها الساخرة. لكن هناك خصائص يجب ذكرها: تصوير توم ديتشيلو الأبيض والأسود، والذي عزز من شعور جارموش الحساس تجاه المناظر الطبيعية الأمريكية أيّما إفادة لدرجة أن المرء يتذكر إيطاليا أنطونيوني أو يونان أنجيلوبولوس؛ والتوظيف الرائع للموسيقى في كلمات «I put a Spell on You». إنّه فيلم رحلة، لكن ثمة فرق؛ خلاف الأمثلة يبقى جنسه الأشهر، « أغرب من الجنة» يبدو أمريكيًّا في مجمله وأوروبيًّا على نحوٍ غريب.
ليس فقط لأن الشخصيات كانت بمعنىً ما "غريبة في أرضٍ غريبة"، بل في تخيّلِ صانعها وهو يردد قول بطل فيلم «جوني غيتار »
(Johnny Guitar, 1954): «غريب أنا هاهنا»، وهو الفيلم الذي أخرجه رجل يعده جارموش أستاذًا له: نيكولاس راي. هذا المزيج الغريب من الارتباط والانفصال يمكن تجليه في موقف (ويلي) البارد الذي يُصور بحنان وسخرية، وفي التعاطي الفج مع بعض سخافات الثقافة الأمريكية، (وليس العشاء التلفزيوني الذي أشار إليه (هوبرمان) في مراجعته للفيلم سوى ملحظ لطيف على حدة ذكاء جارموش)، وكذلك في الطريقة التي يعكس فيها الفيلم نوعًا وقصة أمريكيين على غير النسق الهوليوودي تمامًا (ذلك إن جاز لنا تسمية السرد الشحيح والمكرس لـ"لحظات ميتة" قصةً).
إن المَشاهد وإيقاع الفيلم وأداءات الممثلين، والجو الكئيب الذي يطفو على الفيلم، لا يعيد إلى الأذهان «السائق البسيط» (Easy Rider, 1969 )- أو «خمس مقطوعات سهلة» - (Five Easy Pieces, 1970) فحسب، بل مبسطات وارهول الفنية، وأوزو، ودراير، وبريسون، وأنطونيوني، وفيندرز. فجيم جارموش مهووس بالسينما cinephile -لدرجة أن (إيدي) راهن على حصان يدعى Tokyo Story- وشاعر لا يهاب الاعتراف باهتمامه بالفن "الرفيع".
وهو في الوقت نفسه مُحب للثقافة الشعبية -لاحظوا كيف يشاهد ويلي وإيفا «الكوكب المحرم» (Forbidden Planet ) على التلفاز، أو كيف يذهب إيدي مع إيفا ومعجبها المحبط لمشاهدة قصة الفن القتالي الهونج-كونغي سحق العظام في مطحنة كليفلاند- ويقوم بتوظيف هذه الثقافة برفقة العناصر الأكثر "احترامًا" في أفلامه، ليخبرنا أن لا فرق بين الرفيع والرخيص. ولهذا السلوك النادر يتم تقدير جارموش تقديرًا خاصًا.
لقد أثّر جيم جارموش على العديد من المخرجين الأمريكيين المستقلين، وذلك بفُكاهته الجلفة، وافتتانه الدافئ المدهش بالكسالى بمختلف أنواعهم، واهتمامه ببنيّة السرد، ووَجْده الشديد بالقصص البسيطة، وحدة ذكائِه، وإشاراته التذكيرية إلى الثقافة الشعبية. كل هذه العوامل، كانت شديدة الندرة في السينما الأمريكية، وأصبحت بفضله أكثر انتشارًا. ولكن الشعر، والاهتمام غير الموارب بالسينما بصفتها فنًا يستطيع التعامل مع القضايا الجادة والجوهرية -وإن كانت هذه الجدية عند جارموش مُطعمة بلمسات من الخفة- قلما نجد لها مثيلًا.
من الاستحالة بمكان أن نجد مخرجًا أمريكيًا مستقلًا آخر يصنع فيلمًا كالفيلم الملحمي المابعد-غربي والغنائي الهذيانيّ «رجل ميت» -(Dead Man, 1995). أو فيلمه الشهير «الزهور المكسورة» -(Broken Flowers, 2005)، -المدجج بنجوم هوليوود، والذي يحوي مشاهد عظيمة لا يقدر على خلقها إلا جارموش- والذي يجعلنا نفكر فيه على وجه الخصوص بزيارة البطل لِقبر حبيبته، وهو ما يقدم تصويرًا لحزن مُرهف، حزنٌ يأخذك على حين غرة في فيلمٍ غنيٍ بالكوميديا.
وفي نهاية المطاف، مهما بدت أفلامه مرحة وخفيفة وزهيدة وهامشية، إلا أنها تتمحور دائمًا حول شيء ما. ولأن هوسه بالسينما غير مُستلهم من الأفلام فحسب -كغيره الكثير من المخرجين الأمريكيين- بل من الحياة والناس والمشاعر الحقيقية. وفيما يمكن اعتبار « أغرب من الجنة» كوميديا، وفيلمًا تجريبيًا على مستوى السرد السينمائي وحكايةً ساخرة في أعماقها، يمكن اعتباره كذلك فيلمًا عن أمريكا والناس الذين يعيشون فيها.
إنه فيلم عن علاقة المرء بالآخر، وعلاقتهم بالبيوت التي يسكنون فيها، وبالشوارع والطرق والمطاعم والضواحي. وهو فيلم صنعه امرؤٌ عرف أن في الشعر شيء من الحقيقة، ووجد إيقاعًا بصريًا بين الثلوج التي تغطي (بحيرة إيري) والرياح التي تهب على شواطئ فلوريدا، وأبدع شخصيات حقيقيةً أكثر من الحقيقة مثل الخالة لوتي Aunt Lotte التي تهذي لضيوفها بالهنغارية على الدوام، أكانوا ينصتون إليها أم لا.