غنائية كيشلوفسكي: السينما كنمط تفكير مغاير وما بعد حداثي

نورة الحربي
و
October 24, 2024

إن «ما بعد الحداثة» تشترط في مفهومها معنى «الما بعد»، ومعنى المُجاوزة، أحيانًا الهدم وإعادة البناء. ها هنا تقف السينما كعنصر ما بعد حداثي، كعنصر تَثوير؛ إنها ثورة الفكر من خلال الصورة والحركة، لتناقش ما هو مُعتاص ومُبهم في الوجود، وفي كل ما هو إنساني، وتناقش حُلكة العالم.

السينما بمختلف أشكالها مرتبطة بصورةٍ حركية - زمنية، وشُعورٍ بينهما لتكون الفكرة حاضرةً بأذهاننا. لذا؛ تتجاوز السينما مفهوم إعادة الواقع وتقديمه للمُشاهد بصورة جديدة، إلى كونها تجربة فلسفية تقفز بنا فوق الزمان والمكان. تُحدث تجربة السينما لدينا حساسية الفكر بصورته المُثلى حيث يُتاح لنا -بصفتنا مشاهدين- تحليل وجود الإنسان وتجربته في الحياة وتعقيداته النفسية والفكرية وكذلك الوجودية، عبر زمنٍ غير خطي، وهو ما أفضلّه شخصيًا بالأفلام.

كريستوف كيشلوفسكي مُثقلًا بالرؤى

تتجلى في أفلام كيشلوفسكي قوة «الإنسانية» باعتبارها ثيمةً مركزية تربط بين جميع أعماله، حيث تنبثق مشاعر الإنسان وتعقيداته في كل لقطة؛ لتصيرَ المِحور الذي يدور حوله الكون السينمائي الذي أنشأه. في كل فيلم، يتراءى لنا سعيه العميق لاستكشاف العناصر الدقيقة التي تُكوّن تجارب الإنسان الحقيقية، مازجًا بين الرمزية والشاعرية في آن واحد، لننتقل نحن بكل خِفة عبر نورٍ شفيف لحياةٍ أخرى أو ربما ذاتٍ تُشابهنا، كما كانت الحالة عند مشاهدة «الحياة المزدوجة لڤرونيك - The Double Life of Véronique».

"لطالما شعرت أنني أعيش في مكانين"

في سؤالِ الاحتمالات تَتعدَّدُ لدينا أشكال الحياة المُحتمَلة التي يُمكن أن نعيشها أو تلك التي تُحدد أغلب مسارات حياتنا. يرى كونديرا أن الأسئلة التي تبقى دون جواب تمثل الحاجز الأخير الموجود دائمًا بحياتنا، فتلك الأسئلة تحديدًا تختبر حدود إمكاناتنا الإنسانية وفُرصنا في الحياة. وهذا ما يجب علينا إدراكه! تعيش «ڤرونيكا» عبر الاندهاش بصفته أداةً للتواصلِ العميق مع العالم. تتجول في الحياة كمن يملك كل شيء، مُستمتعة بالتفاصِيل وغارقةً في مجدِ حُضورها الكامل والآني في اللحظة. لا تبحث «ڤرونيكا» عن أهداف أو وجهات معينة، والحياة بالنسبة إليها تجربةٌ غنية تُعاش بكل تفاصيلها؛ تمضي في الفوضى الحافلة بالجماليات، مُستغرقةً في اللحظة الراهنة التي تنفتح على كل الإمكانيات.

عندما قررت «ڤرونيكا» أن تكمل مسيرة الغناء التي جعلت منها شخصًا ملائكيًا يشعر وتتسامى روحه لمكانٍ آخر، تُخبر «ڤرونيكا» أباها -في حالتها الروحانية- أنها تشعر بأنها ليست وحيدة في هذا العالم، من خلال حدسٍ غير قابل للمعرفة والتفسير. كانت «ڤرونيكا» تعيش عبر التساؤلات في كثيرٍ من الأحيان، حيث تأتي أفضل الأفكار من مشاعرَ غير ملموسة أو استجابات عاطفية. عبر الموسيقى تتصل «ڤرونيكا» بروحٍ أخرى تُشابهها في مكان آخر. تموت وهي تؤدي عرضًا غنائيًا، لتخلق بعدها هالة واسعة تمضي بنا نحو مكانٍ آخر وحياةٍ أخرى نتعرّف فيها على «ڤرونيك» التي تشعر على نحو مفاجئ بالأسى على شخصٍ آخر لا تعرفه، فتَبكيه وتُقرر فجأة أن تترك الغناء، لتَمضي حياتها على نحو مغاير.

التناقضات بين «ڤيرونيكا» و«ڤيرونيك»، تتضّح من خلال المشهد الافتتاحي الذي يعكس رؤيتَهما للعالم. تُظهر والدة «ڤيرونيكا» أسلوبًا غير تقليدي في تربية ابنتها، حيث تمنحها منظورًا جديدًا يتجاوز التفاصيل الدقيقة، بينما والدة «ڤيرونيك» تركز على الجوانب الصغيرة، مما يعكس تربية تقليدية. هذا التباين يتضّح في سلوكِهما، حيث تُظهر «ڤيرونيكا» انخراطًا في اللحظة الحاضرة في مشهد الاحتجاج، بينما تلتقط «ڤيرونيك» اللحظة عبر الكاميرا، مما يخلق مسافة بين تجربتها وتجربة «ڤرونيك» والذي أفقدها جوهر اللحظة. هذا التأمل في التجربة الإنسانية يُظهر أن التواصل مع العالم من حولنا يتجاوز الصورة السطحية، ويعتمد على قدرة الفرد على الانغماس في اللحظة بكل حواسه، لذا ترى «ڤرونيكا» شبيهتها وتتعرف عليها بينما كانت الأخرى تلتقط الصور.

رمز الغياب صورة

تبدو الصورة عند «بارت» وكأنها دليل وجودنا في العالم، توثيق لهذا الوجود. في اللحظة التي ترى بها «ڤرونيك» الصورة التي التقطتها أثناء جولتها في بولندا لانعكاسِها الآخر وهي صورة «لڤرونيكا» البعيدة، التي صارت أبعد؛ تدرك أساس شعورها بالأسى من خلال الصورة، والتي تحمل في جوهرها فنًا رثائيًا يزيل الغبار عن مشاعرها التي كانت غافية.

تعترف «ڤرونيك» - ضمنيًا - أن هناك شيئًا ما كان له وجودٌ حقيقي؛ صورةً بمثابة شهادةٍ لحقيقة شعورها الدائم. حتى وإن كانت تلك الحقيقة عُرضةً للتفسير أو التغيير؛ بسبب تأويل الفرد للواقع بناءً على صور لا تتطابق مع واقعها بالضرورة، إذ لا يمكن عبور النهر ذاته مرتين. أو لعدم إدراكه للصدف العشوائية؛ حيث يُفضّل -بصفته كائنًا اخترع الأمل- إضفاء المعنى عليها، مُترجمًا إحساسه بجمال الأحداث العابرة والصدف إلى نمطٍ ثابت يُضيف بعدًا جماليًا لحياته. حتى في أوقات الاضطراب واليأس، يخلق ويشكّل تجربته الشخصية استنادًا إلى قوانين الجمال. وهنا يَحدث تحولٌ عميق في شخصية «ڤيرونيك»، حيث تكتشف أن روح شبيهتها المتوفاة تمر من خلالها، مما يعكس علاقة معقدة بين الحياة والموت، الهوية والذكريات. رغم أن هذا الشعور يسبب لها عدم ارتياحٍ في البداية، إلا أنه يفتح لها أبوابًا جديدة للاستكشاف. من خلال هذا الاتصال الروحي، تبدأ في ممارسة قدرتها على التساؤل بشكل متزايد، والذي يُعتبر استجابة للتجارب الغامضة التي تمر بها، حيث يدفعها للبحث عن معنى أعمق لحياتها.

الأخضر كوعي ذاتي

إن كان «أزرق» بيكاسو تعبيرًا عن الحزن، فـ«أخضرُ» كيشلوفسكي يأتي تعبيراً عن الوعي الذاتي الذي تمر به شخصياته. تَخترق السينما الفنونَ جميعها عبر اختيار اللون والضوء والذي يجعلها في تماسٍ وتداخل مع الفنون ومع العمل السينمائي ذاته، حيث لا يُمكن رؤية صورةٍ واحدةٍ معزولة عن بقية الصور أو المشاهد المُتعددة في الفيلم. يقول كيشلوفسكي عن أسلوب عمله «بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائمًا ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري». يعكس كيشلوفسكي عمقَ معرفتنا بذواتنا ويُوقظ اتصالنا مع جوهرنا عبر لون واحد طاغٍ، حيث يتسرب شعورنا تجاه الفيلم وارتباطُنا مع الشخصيات من خلاله. يُشبع كيشلوفسكي جانبنا الشعوري والنفسي من خلال التركيز على لونِ إضاءةٍ واحد. تسير «ڤرونيك» وتكون أسيرةً للحزن الذي تبوح به وتختبره وتعرف بالأخير مصدره، لتنتهي واقفة عند جذع شجرة.

الموسيقى كوجهة نظر سينمائية عند كيشلوفسكي

في ضوء الاحتمالات والحيوات التي لم نعشها بسبب اختياراتنا، تأتي الموسيقى لتجعلنا نُكمل الفرص المُهدرة بخياراتٍ تفوق الزمان والمكان. حيث لا تحجُب الموسيقى الواقع، إنما تُقرّبنا من نشوة «ديونيسيوس» والتي في هذه الحالة أرى أنها نشوة مقدسة، كما لا أتصور أن نخوض التجربة الإنسانية دون موسيقى، تقلب الموسيقى كل أفكارنا المُفزِعة إلى مواجهة ذاتية نستطيع معها تقبّل عبثية الوجود وأفكاره المقلقة. عبّرت الموسيقى في فيلمنا عن كل شيء، ألهمتنا الأسئلة وأعطَتنا الإجابات حول هشاشة الحياة. موسيقى تنساب لدواخلنا لنعيش في دوامة الشاعرية المفرطة ونشعر بملائكية الحب والموسيقى وتتسامى ذواتنا لأكثر من حياة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى