"إن ماليك اكتشف، أو اكتشف كيف يعرف، الحقيقة الأساسية للقاعدة الفوتوغرافية للسينما: وهي أن الأشياء تشارك في الحضور الفوتوغرافي لذاتها، إنها تشارك في إعادة خلق نفسها على الفيلم، إنها أساسية في صنع مظهرها".
ستانلي كافيل
العودة إلى الأصلي
إن علاقة السينما بالفلسفة ليست بالعلاقة الجديدة، فمع ظهور الشكل الأول للسينما، بدأت هذه الأخيرة بطرح أسئلة فلسفية وإشكالات لا يمكن الإجابة عنها خارج إطار التفلسف. وقد حظيت جميع المدارس الفلسفية بنصيبها في هذا الإرث السينمائي، فيمكننا أن نجد مئات الكتب والدراسات الأكاديمية في الفلسفة حول السينما، إلا أن الفينومينولوجيا أو الفلسفة الظاهراتية لم تكن شائعةً لدى دارسي السينما، ليس لأنها بالفلسفة الجديدة، ولكن لأن تيارات فلسفية أخرى كانت أقوى وأكثر تأثيرًا في الدراسات النقدية للسينما. منذ سبعينيات القرن الماضي، وبالتصادف مع ظهور أول فيلمين للمخرج الأمريكي ذي الأصول اللبنانية تيرانس ماليك، نشر أستاذ السينما والأدب المقارن بجامعة ييل الأمريكية دادلي أندرو بحثًا بعنوان: "التقاليد المهمة للفلسفة الظاهراتية في نظرية السينما". يقوم أندرو هنا بانتقاد ما كان شائعًا في الأوساط الأكاديمية السينمائية من تجاهل «الطريقة الخاصة التي تتم بها معايشة المعنى في السينما، والسمة المتفردة لمعايشة العديد من الأفلام[1]».
إن أندرو هنا يتتبع تاريخًا جديدًا في الفلسفة يَعتبِر الفينومينولوجيا «فلسفة أولى» تنادي بضرورة التوجه إلى التجربة الفعلية والممكنة، وفي السينما هذا هو ما يشكل أساس معنى الفيلم؛ بمعنى آخر، إن إدراك الفيلم أهم من فكرته، وبالتالي فإن دور الذات هنا مهم جدًا، وهو الدور الذي ركز عليه المؤسس الفعلي للفينومينولوجيا إدموند هوسرل، الذي ألح على الدور الذي تلعبه الذات في بناء موضوعات العالم الخارجي، والبناء هنا يتم عن طريق انطباعات أصلية معطاة لنا من قَبل في المكان والزمان والذاكرة والإدراك والخيال. إن الفينومينولوجيا بالنسبة إلى هوسرل هي دعوة إلى العودة إلى الأصلي ودعوة إلى الهبة الأصلية وعودة إلى الأشياء وإلى البداهة الأولى. وإن السينما التي تريد الاحتفاظ بقدرتها على شد انتباه الناس مُطالبة بأن تسعى إلى الاهتمام بالتجربة «الظاهرة» التي توجد أمامنا، ومعرفة ما الذي تعنيه هذه التجربة، وكيف يمكن تقديم هذه التجربة إلى المُشاهد.
ماليك.. فينومينولوجيًا وسينمائيًا
يرتبط تيرانس ماليك في أذهانِ كثيرين بكونه شاعرًا للسينما، وذلك ربما يعود بشكل كبير إلى كثرة مشاهد الطبيعة في أفلامه، ولكن ماليك كان مهمومًا بالفلسفة والفينومينولوجيا قبل أن يتجه إلى السينما. تُظهر لنا حياة ماليك الأكاديمية شغفًا كبيرًا بالفلسفة، ففي بداياته، سعى إلى دراسة مفهوم العالم عند كيركيغارد وهايدغر وفيتغنشتاين، ثم بعد ذلك قام بتدريس الفينومينولوجيا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ولم يكتف بذلك، بل نجده أيضًا يقوم بترجمة كتاب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر "جوهر العقل" في عام 1969، هايدغر الذي صاحبت فلسفتُه ماليك طيلة مسيرته السينمائية، وقد تأثر كثيرًا بأستاذه ستانلي كافيل – صاحب الاقتباس أعلاه – الذي درّسه هايدغر في الجامعة.
هذا الثراء الفكري في حياة ماليك لم يتركه جانبًا عندما توجه إلى السينما وقام بإخراج أول أفلامه الطويلة "الأراضي البور" عام 1973. ورغم الانقطاعات الطويلة بين أفلامه – فهناك حوالي عشرين سنة بين فيلمه الثاني (1978) وفيلمه الثالث (1998) – فإن طريقته الفريدة في كتابة وإخراج أفلامه لفتت إليه أنظار كثير من النقاد والجمهور، وإن لم يتفقوا على رأي موحد حول تلك الطريقة.
إن فيلمي ماليك الأولين – "الأراضي البور" (1973) و"أيام الجنة" (1978) – ظهرا مع شيوع ما يسمى بالموجة الأمريكية الجديدة في هوليوود ولم يثيرا كثيرًا من الجدل في ذلك الوقت، وتبعهما اختفاء عن الساحة لمدة عشرين سنة. ذلك الاختفاء وعدم الكلام مع الصحافة يعدان حيلتَي ماليك المفضلتين في التفاهم مع العالم. ولكن مع عودته من جديد إلى الساحة السينمائية، بدأ الجدل حول أفلامه ورؤيته السينمائية في الازدياد. لقد حملت أفلام ماليك داخلها رؤىً وتأويلاتٍ مختلفة لا يمكن تحديدها في اتجاه واحد أو مذهب معين. وما يزيد من حدة الاختلافات في تأويل أفلامه هو وجود صوت المعلقين داخل الفيلم، مما يزيد من الضبابية والغموض وصعوبة التوصل إلى تفسير شامل لكل تلك الأفكار داخل الفيلم. وإن كانت أصوات الرواة داخل الفيلم يراها بعض الناس مزعجةً وغير ضرورية، فإنها بالنسبة إلى آخرين تُعطي زخمًا فلسفيًا لأفلامه، حيث إن هذا الأمر يُمكّن الرواة من أن يُعبّروا بشكل أكثر حرية عن رؤيتهم الفلسفية للوجود، وحتى في طرح أسئلتهم الوجودية الخاصة، وإن لم يكن الإجابة عليها من أهداف الفيلم.
إن هذه الرؤية المختلفة لماليك في أفلامه جعلت كثيرين يواجهون صعوبة في مشاهدة أفلامه وفهمها والتفاعل معها، إلا أنها أيضًا كانت طريقة عبقرية في وضع بصمة خاصة للمخرج في جميع أفلامه، بحيث إنك إذا شاهدت له عملاً واحدًا بشكل متعمق، فإنك لن تجد صعوبة في التعرف على ذلك الأسلوب في أي عمل آخر له. وبحسب المخرج كريستوفر نولان، فإن أسلوب ماليك يربط أفلامه بشكل متلاحم، مما يجعل التعرف عليها عملية فورية ويُضفي عليها طابعًا واضحًا لا يخفى، ولكن بحسب نولان فإنه لا يمكنك وضع الإصبع على سبب ذلك بالضبط، فالتقنية ليست واضحة على الفور. وبالرغم من ذلك، فإن هذه التقنية جعلت من ماليك أحد أكثر المخرجين الذين يلجأ إليهم نولان ويتأثر بهم [2].
أفلام على حدود التجربة الإنسانية
إن أفلام ماليك تحاول التعامل مع كثيرٍ من الموضوعات في وقت واحد: موضوعات تتعلق بالحياة والمعنى والحب والوجود والحرب والموت، وغيرها من الموضوعات الشائكة. إن شخصيات ماليك هي شخصيات هايدغرية مهمومة بالقلق الروحي الذي يُرجعه الفيلسوف الألماني إلى الشكل الأصلي للوجود. وهي كذلك شخصيات قُذِف بها إلى هذا الوجود وما زالت تحاول معرفة دورها في هذا العالم.
ومن الحقائق الثابتة حول أفلام ماليك هي مدى قدرتها على إذهال المُشاهد بصريًا، وهذه أيضًا ثيمة خاصة بالمخرج يمكنك من خلالها التعرف على أي عمل له. إن ماليك من بين مخرجين قلة ممن يملكون القدرة على دمج التصوير الفوتوغرافي للمناظر الطبيعية مع اللقطات الأكثر حميمية من دون أن تفقد عمقها السينمائي. في "شجرة الحياة" (2011) مثلاً، نجد سردًا غير خطي وغير منتظم لحياة جاك؛ إن الأمر هنا لا يتعلق بوجود قصة تقليدية أو حبكة معتادة عن حياة شخص ما، بل هي مونتاج ما بين الحياة الشخصية والعائلية وذكريات جاك مع إقحامات متكررة لمقاطع عن أصل الحياة والكون. على الرغم من أن المخرج في هذا الفيلم أراد لنا مراقبة الصراعات بين الشخصيات في الفيلم وفي نفس الوقت خلْق خيال من خلال مشاهد الطبيعة والكون، فإن الانفصال بين هذين الاثنين لم يجعل المَشاهد أقل حميمية أو أقل إثارة للذكريات بالنسبة إلى أبطال الفيلم. وبالنسبة إلى كريستوفر نولان، فإننا عندما نشاهد أفلام العظماء مثل ستانلي كوبريك أو تيرانس ماليك أو هيتشكوك، لن نجد فصلاً طبيعيًا بين الأسلوب البصري والعناصر السردية. إن ما نراه هو علاقة حيوية لا تنفصم بين الصور الطبيعية التي نشاهدها والقصة التي نستمع إليها؛ إنها تجربة مختلفة في أفلام ماليك أو بحسب دافيد فنشر، فإن كل شيء في أفلام ماليك هو جزء من لغز أكبر[3].
إن التجربة الإنسانية في أفلام تيرانس ماليك لا ترتبط بعلاقة الإنسان بغيره فحسب، بل – كما قلنا من قبل – فإنها تتجاوزه إلى علاقته بالطبيعة، بل وأحيانا إلى علاقة الطبيعة بالطبيعة نفسها، ثم هناك أيضًا سؤال الإله والدين، والذي نجده في كل فيلم من أفلامه. إنه سؤال ضروري لكل من يريد أن يُعالج إشكالات أخلاقية في أفلامه، وليس من الضروري أن يمنحنا أبطال ماليك أجوِبَةً على كل الأسئلة التي يطرحونها في أفلامه. إن ماليك هنا يوافق كارل ياسبرز عندما قال إن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة، ولكن دور الأسئلة في أفلام ماليك هو محاولة فهم هذا الصراع الأزلي في الوجود بين الإنسان والإنسان والطبيعة والطبيعة، ثم الإنسان والإله. إن كل فيلم من أفلام ماليك يكاد يبدأ بمجموعة من الأسئلة تتمحور حول ذلك الثلاثي. إن فيلم "الخط الأحمر الرفيع"، رغم أنه كان يتمحور حول الحرب بين البشر، فإنه بدأ مباشرة ومن أول دقيقة بأسئلة حول الطبيعة: «ما هذه الحرب التي تجري في قلب الطبيعة؟ ولماذا تتحدى الطبيعة نفسها؟ هل من الممكن أن تكون هناك قوى ثأر في الطبيعة؟»
سنحاول الغوص فلسفيًا أكثر في أفلام تيرانس ماليك في المقالات القادمة، ولكن يجب الاعتراف بالقصور من الآن. وسنقول مع ميرلوبونتي إن الدرس الأكبر للاختزال الفينومينولوجي هو استحالة الاختزال الكامل، وفي النهاية لن يبقى إلا ما هو معطى فقط للذات.