فيلم «وداعًا جوليا»: السياسي في ثوب الاجتماعي

November 14, 2023

موضوع فيلم «وداعًا جوليا» (2023)، كتابة وإخراج محمد كردفاني، هو العلاقة بين شمال السودان وجنوبه، والنظرة الدونية التي ساهمت في الفصل الاجتماعي وأحدثت شرخًا بين الشمال والجنوب وكانت أحد أسباب التصويت لصالح الانفصال السياسي. الجميل أن هذا المضمون السياسي يتوارى خلف قصة اجتماعية مؤثرة بين أسرتين: شمالية وجنوبية، وتحديدًا بين: منى (إيمان يوسف) التي تمثل الوجه الطيب والجميل لشمال السودان (الثري) وجوليا (سيران رياك) التي تمثل الوجه المتسامح الأجمل للجنوب (الفقير).

تفاصيل صغيرة تصنع الحدث الكبير. يمهد الفيلم للمضمون السياسي بمُظاهرة للجنوبيين، على إثر اغتيال زعيمهم جون جرنج. نشاهدهم في مشهد الافتتاحية وهم يحرقون ويحطمون ممتلكات الشماليين: يحاولون اقتحام منزل أكرم (نزار غوما) ويقذفون المنزل بحجارة تحطم النافذة ويحرقون سيارة جاره. وبسبب هذه المظاهرة يقرر الحي نهج طريق العقاب الجماعي وذلك بطرد الجنوبيين ومنهم أسرة سانتينو المكونة منه وزوجته جوليا وطفلهما دانيال، رغم أن سانتينو لم يشارك في المظاهرة، ما يعني أنه مواطن سوداني غير ناشط سياسيًا ولا تعنيه مسألة الانفصال، فهو مشغول بتأمين لقمة العيش لأسرته الصغيرة. جوليا مثله، إنسانة مسالمة ومتسامحة وتطمح للتعايش بسلام رغم ما لحق أسرتها من مشكلات بسبب الوضع السياسي والتمييز الاجتماعي الذي انعكس على الحياة الاجتماعية بين الشماليين والجنوبيين.

بعد طردهم من الحي تجد الأسرة الصغيرة نفسها في خيمة في الشارع، ثم تُحرِق السلطات هذه الخيمة بعد بلاغ من أحد مُلّاك المنازل المجاورة بذريعة صناعة العَرَق. قبلها كانت منى قد صدمت بسيارتها الطفل دانيال، ودفعها الخوف والتوتر إلى الفرار، ما جعل سانتينو يلاحقها بدراجته حتى باب منزلها. هناك كان أكرم، زوج منى، ينتظر حاملًا بندقية. 

في مثال على استهانة السلطات بدم الجنوبيين، تُسجِّل سبب الوفاة بأنه «تدافع في المظاهرات»، وحين تبحث عنه جوليا لا تجد جوابًا لدى السلطات التي تنظر إلى الجنوبي بوصفه رقمًا لا إنسانًا أو مواطنًا له حقوق. وإمعانًا في هذه الاستهانة يتعامل أكرم مع الجريمة على أنها دفاع عن النفس. تجادله منى بأنه كان بالإمكان تفادي القتل بإطلاق الرصاص في الهواء أو على الساق، لكن أكرم يتصرف بلا مبالاة ويقول بأنه مستعد لتكرار الفعل إن لزم الأمر. 

إضافة إلى القيود الزوجية التي تعاني منها منى في البيت، هناك عامل آخر ساهم في توترها وتسبب في حادثة الاصطدام وهو إلغاء الحفلة الموسيقية التي كانت عضوة فيها. الحفلة نفسها أُلغيت بسبب الظروف السياسية، وهناك مصادفة أخرى لعبت دورًا في وقوع الحادث. كانت منى تقود سيارتها في الطريق الرئيس وبسبب إغلاقه من قِبَل المتظاهرين سلكت طريقًا خلفيًا حيث اصطدمت بدانيال أمام الخيمة التي يقطنها مع أمه وأبيه. هذه المصادفات العرضية قادت إلى حادثة السيارة وهذه الحادثة البسيطة تسببت في مقتل سانتينو. الأمر نفسه يبدو أنه ينطبق على مشكلات الشأن العام التي تغذيها هذه الظروف والتفاصيل الصغيرة التي كان يمكن معالجتها داخل الوطن الكبير.

تحرير الروح المختطفة. منى هي المحركة لأحداث الفيلم؛ الأثر النفسي السيئ الذي خلفته الجريمة يؤرقها ويدفعها لمحاولة تعويض أسرة سانتينو. تذهب إلى الشرطة وتتمكن -بالرشوة- من الوصول إلى عنوان المكان الذي تقيم فيه جوليا وطفلها وتعرض عليها العمل خادمةً والإقامة في قسم ملحق بالمنزل، ثم تُلحق دانيال في مدرسة خاصة قريبة من البيت.

هناك محرك آخر للأحداث في شخصية منى، هو حبها للغناء. كانت مطربة سابقة وتوقفت عن الغناء مرغمة بطلب من زوجها، لكن ظل شغفها بالغناء يؤرقها، إضافة إلى شكوك زوجها فيها وغيرته عليها، ما يدفعها للكذب وهو ما لا تود أن تستمر فيه إلى الأبد. تعيش منى مسلوبة الإرادة بسبب تحكم زوجها إلى درجة لا تعرف كيفية التصرف أمام حادث بسيط كان يمكن أن يمر بسلام. هناك مشهد دال على السجن الذي يمثله المنزل: عندما يهديها زوجها عصفورين في قفص، تظهر منى في الكادر وهي خلف قضبان الشرفة. نرى هنا تداخل القفصين، لتشير هذه اللقطة إلى أن حال منى لا يختلف عن حال العصفورين إلا في الإرادة، وهذا ما تفعله منى فيما بعد عندما تفتح باب القفص للعصفورين، في إشارة إلى بدء تحررها من قبضة زوجها الذي سيخبرها بأن العصفورين سيموتان إذا لم يعودا إلى القفص. ولأن منى لا تشبه العصفورين فقد اختارت الخروج من قفص زوجها وتحقيق ذاتها في الغناء.

تمر السنوات، لكن ضمير منى ما زال يؤنبها، لأنها أخفت الحقيقة عن جوليا وطفلها. يتعرف دانيال على دراجة أبيه أمام منزل جار أكرم الذي كان قد سلبها بعد مقتل سانتينو تعويضًا عن سيارته التي أحرقها الجنوبيون. نقف هنا على شاهد آخر على غياب دولة القانون، ما يدفع الناس للتصرف وكأنهم في غابة. هذا ما يفعله أيضًا سانتينو عندما يلاحق جوليا بدلًا من تسجيل رقم السيارة وتبليغ السلطات. 

يدفع الشك دانيال للاستعانة بصديق والدته ماجير الذي ينتمي إلى حركة تدعو لانفصال الجنوب. يستعين ماجير بعلاقاته في الحكومة ويخبر جوليا أنها تعيش في منزل الرجل الذي قتل زوجها. تتعامل جوليا مع هذا الخبر بهدوء، وسنعرف السبب لاحقًا. يستمد ماجير قوّته من الواقع الجديد الذي انتصر لصالح الانفصال. يستعمل هذه القوة في اقتحام منزل أكرم ويجبره على الاعتذار عن إهانته له، ولا يكتفي بذلك، بل يصفعه على وجهه تعبيرًا عن حالة الإذلال المضاد. ماجير هو الوجه النقيض لجوليا؛ يعمل على استعادة الحقوق بالسياسة والقوة، وهذا ينعكس في خطابه وحمله للسلاح.

بعد طرد أكرم لجوليا وطفلها تحدُث مواجهة أخيرة بين منى وزوجها تنتهي بأنها تقرر العودة إلى الغناء وتنفصل عن زوجها. يتوازى خلاص منى مع الخلاص العام، متمثلًا في انفصال أو استقلال الجنوب، وذلك بإعلان نتائج التصويت بنسبة 98%. 

تقول جوليا لمنى إنها كانت على عِلم بالسر الذي ظل يؤرق منى لسنوات. تشير هذه المعرفة إلى أن جوليا ليست غافلة ولا هي غبية، لكنها فضلت الصمت والتعايش، وحتى لو كان لديها رغبة في تحقيق العدالة، لم تكن لتجدها لدى السلطات المتحيزة. ما قاسته جوليا كفيل بتحويل أي إنسان إلى مجرم يأخذ حقه بيده، وهذا ما كان متاحًا لجوليا فعله -بتسميم أكرم وزوجته مثلًا- لكنها ليست كالآخرين. 

جوليا هنا نموذج للصبر والتسامح والتعايش، ولذلك ارتبط الوداع في العنوان باسمها دون غيرها من الشخصيات. فضلت أن تعيش في السودان الكبير، فإن كان ولا بد من الرحيل فسيكون إلى مصر، ليرى طفلها عالمًا آخر دون حروب. صحيح أن العنوان يخص جوليا تحديدًا، لكن يمكن أن نقول أيضًا: وداعًا دانيال، أو وداعًا لأي شيء أو شخص جميل يعز فراقه. يحمل هذا المعنى في العنوان والمضمون رثاء مضمرًا لشيء أو شخص أو مضمون جميل لن يعود، لكن من جهة أخرى هناك أمل محمول في عودة منى إلى الغناء. لعل صوتها يصل إلى دانيال ويقنعه بالعودة إلى المدرسة والكاميرا وورشة النجارة. 

يدور بين جوليا ومنى حوار صريح حول ما حدث. يكشف الحوار عن خلاف لا يفسد للود قضية. بهذه الوسيلة يمكن معالجة المشكلات الصغيرة وتجنب المشكلات الأكبر بما فيها المشكلات الاجتماعية والسياسية. تتهمها منى بالاستغلال فترد عليها جوليا بأنها هي التي استغلت حاجتها في محاولة للهروب من تأنيب الضمير، ثم تستلقي منى في حضن جوليا لنرى في هذه اللقطة وفي هاتين المرأتين صورة السودان الكبير الذي كان يمكنه التعايش لو توفرت مثل هذه الروح التي تتسم بها منى وجوليا.

رثاء للماضي أم وصفة للحاضر والمستقبل؟ ستقول وأنت تشاهد الفيلم: لو أن الأمر اقتصر على هاتين السيدتين لما انفصل السودان ولما تفاقمت المشاكل. لكن للوجه الطيب هذا وجه آخر عنصري ورجعي ولا يعترف بخطئه يتمثل في شخصية أكرم. يكشف الحوار بين الزوجين أن منى كانت لا تختلف عن زوجها فيما يتعلق بالنظرة الدونية للجنوبيين، لكن الجريمة التي يرتكبها زوجها، وتكون هي سببًا فيها، تدفعها إلى إعادة النظر في طريقة تعاملها مع الآخرين. حتى بعد جريمة القتل تظل رواسب العنصرية عالقة. ينبهها زوجها إلى أنها ميَّزت أطباق الطعام الخاصة بجوليا وطفلها بعلامة حتى لا تختلط ببقية الأطباق، فتمحو تلك العلامة في دلالة على اعترافها بالخطأ والمبادرة إلى تصحيحه، خلافًا لشخصية زوجها الرافضة للتغيير.

تمثل منى روح الفن والموسيقى، تلك الروح التي اختطفها زوجها الذي يمثل شمال السودان المحافظ والمتدين والسلطوي. وعندما تعود إليها روحها تنال خلاصها واستقلالها، إذا نظرنا إلى منى بوصفها حالة خاصة لا تمثل سوى ذاتها، أما إذا نظرنا إليها بوصفها رمزًا لروح الفن والتعايش في الشمال فيأتي هذا الخلاص والاستقلال من أجل فتح صفحة جديدة وتجنب ما هو أسوأ. 

العنصرية في الفيلم جارحة لهدف مقصود، هو تقبيحها في عين المُشاهد. ليس الهدف أن تنفي وجود العنصرية أو تثبته، بل أن تستقبحها. هنا يمكنك استبدال السودان بأي بلد آخر يمارس القبح نفسه. ولقد وجدت اليَمَن حاضرة؛ نحن أيضًا لدينا شمال وجنوب، وشمال الشمال وجنوب الجنوب، ولدينا عنصرية مستمدة من السماء هي التي تحكم صنعاء اليوم وتحكم مناطق أخرى في اليمن.

ينتهي الفيلم بمشهدين، أحدهما إيجابي ومنى تغني للسلام وقد خلعت النقاب الأسود وتحلت بالألوان، والمشهد الآخر لدانيال وهو يحمل رشاشًا آليًا وعلى وجهه نظرة غضب ورغبة في الانتقام. دانيال هو المستقبل، ويكشف الفيلم كيف يُصنع هذا المستقبل المظلم في الوقت الذي يشير إلى الحل الإيجابي البديل. كان دانيال قد تعلم النجارة في ورشة أكرم كما حصل على كاميرا هدية منه. ونرى في التعاون بين أكرم ودانيال في الورشة بذرة للتعايش كان يمكن أن تزدهر لولا نظرة أكرم الدونية لكل ما هو جنوبي.

البناء الدرامي المتقن وتسلسُل الأحداث السلس وأداء الممثلين العفوي والكادرات البصرية المدهشة.. كلها عناصر ناجحة أهلت الفيلم ليكون مرشح السودان في الأوسكار. وبهذا الترشيح، الذي لا يفرق بين شمال وجنوب، وبإقبال الجمهور السوداني الكبير على مشاهدة الفيلم، يتوحد السودان بشماله وجنوبه. 

فيلم «وداعًا جوليا» لا يبكي على اللبن المسكوب، بل يدعو، بلغة فنية رفيعة، إلى المحافظة على ما تبقى منه. كشفت الحرب الأخيرة في شمال السودان عن استمرار تقسيم المنقسم. مضمون الفيلم على هذا النحو يضع بين أيدينا وصفة للسلام والتعايش يمكن بها حماية المستقبل الذي يمثله دانيال. كردفاني في هذه الرؤية السينمائية للماضي لا يفتح الجرح إلا ليضمده، لا ينبش الماضي إلا بهدف التأسيس لمستقبل أجمل، وذلك من خلال فهم ما حدث لبدء صفحة جديدة، فإن كانت الظروف قد حالت دون التعايش ضمن الوطن الواحد فإن التعايش بين وطنين جارين ممكن.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى