فيلم أثينا .. الكاميرا بطلًا

October 13, 2022

سأتحدث تقنيًا عن الفيلم، إنما ليس بإيغالٍ في التفاصيل التقنية له؛ إذ إنني مجرد مُشاهد عادي، يعرف غيضًا من فيض التقنيات التصويرية في السينما. وفيلمُنا هذا سينمائي بدرجة عالية، رغم أنه شديد الواقعية، ويلامس العصب الأكثر حساسيةً في أيامنا هذه حول العالم: ضغط اليمين المتطرف على المهاجرين، وتحويلهم إلى قنابل موقوتة. الموضوع كبير ويبدو للوهلة الأولى أنه أبعد ما يمكن عن معالجة عالية السينمائية -في الأقل لدى غالبية الآراء-. إنما يبدو لي أن أمر السينما هو هو أمرُ كل فن آخر؛ بالإمكان شَعْرَنَتُه عاليًا إن وُضع في اليد الصحيحة.

كأنك وأنت تشاهد الفيلم تقرأ قصيدة لأمل دنقل؛ فالحساسية اللغوية ذاتها لدى الثاني، وما تثيره من أحاسيس القارئ بخزي الواقع وحماسة المقاومة، يجدها المشاهد في الفيلم من خلال حساسية بصرية. لا أعلم إن كانت المقارنة جائزة بين حالتين فنيتين لا يربطهما شيء؛ اللهم هجاء السياسة وما تفعله في الواقع، خصوصًا في هوامشه. لكن هذا ما استحضره ذهني أثناء مشاهدة الفيلم.

وإن عدنا إلى دنقل وقصائده؛ فسنجد أن الرجل كان من البارعين -وربما من الأوائل حتى- في استخدام تكنيك المونتاج الشعري تأثرًا بالسينما. وعلى الضد منه في هذا الفيلم، فالبراعة هنا لا تعتمد على المونتاج بقدر ما اعتمدت على اللقطة الطويلة. الشيطان -كما نعرف- يكمن في التفاصيل، والإبداع كذلك؛ وهنا، في فيلمنا، كثير من الشياطين الثائرة في لقطة واحدة طويلة تمتد لعشر دقائق (المشهد الافتتاحي) تجعل من براعة التصوير إبداعًا!

أظن أنه سيكون من الجميل لو عُمِل فيلم وثائقي حول كيفية صناعة هذا الفيلم. سيكون درسًا جيدًا لكثير من المهتمين. وإن كنت أستبعد حدوث هذا؛ لأنه وببساطة "فيلم مهرجانات". لعله من حسن حظه -أو حظنا بالأحرى- أنه من توزيع نتفلكس، الأمر الذي ساهم في انتشاره؛ في الأقل لدى الجمهور العربي. المهم أنه إنْ حدث بالفعل وأُنتج وثائقي حول كيفية صناعته؛ فعلى الأغلب سنكتشف أن هناك كثيرًا من المونتاجات التي تمت في داخل اللقطات الطويلة لكنها تمت بطريقة سلسة جدًا. سأركز على المشهد الافتتاحي بسبب أنه الأظهر للعيان -أو بسبب ولعي الخاص بالمفتتحات، دائمًا؛ سواء في الأفلام أو الكتب أو حتى الأغاني-.

إن ما جعلني أثمِّنُ اللقطة الطويلة هنا، ليس مجرد طولها والصعوبات التقنية في عمل ذلك؛ بل السلاسة البالغة في وسط أحداث شديدة التعقيد والعنف وعلى مسافة ليست بالقصيرة. نحن -كمشاهدين- نتعرف على عقدة القصة، والشخصيات، وفورة الحدث، واشتباك الشخصيات، والهياج المترتب على عقدة القصة. وننتقل خلال كل هذا بين مكانين هما نقيضان، وقد انفرط العقد الاجتماعي بينهما. رجال شرطة، ثوار، عبوات ناسفة، عنف، عيارات نارية، اقتحام، سرقة أسلحة من مركز الشرطة، ثم هروب الثوار بالغنيمة، ومطاردة حامية، وصولًا إلى "أثينا". كل هذا وما من بطل حقيقي سوى الكاميرا، تتنقل بكل سلاسة وسط هذا كله؛ وكأنها زبدة تسيح وسط كومة من الأشواك!

"أثينا" هنا، بالمناسبة هو اسم ضاحية فرنسية يقطنها المهاجرون المسلمون من الأصول الجزائرية. نعرف، طبعًا، التعقيدات التاريخية بين الفرنسيين والجزائريين. ويظهر ذلك في ثنايا الفيلم في أكثر من مكان، إن لم يكن فوْح تلك التعقيدات يغطي كامل الفيلم. لكنها تبرز أمامنا في لقطة خاطفة وبارعة: حيث في خضم من عيارات الرصاص مصوبة إلى الثوار، وطلقات الألعاب النارية -سلاح الجزائريين- على الشرطة (هل يدل هذا على أن مقاومة المستضعف هي فرحة في الأصل؟ أم أنني "أتحنّك" ؟) أيْ في خضم عُنف حديث، يبرز حصانٌ وعليه ثائر ملثم يحمل العلم الجزائري. في الجهة المقابلة نرى الجهاز العسكري وهو يحاول باستماتة السيطرة على الوضع ويفشل في خلق لغة تواصل بينه وبين الثوار. قد يصح، إذن، أن نسميه بـ "إسبارطة الخائرة".

نعود إلى تقنية الكاميرا وأعود إلى أمل دنقل. قلنا إن الكاميرا كانت البطل الحقيقي في كثير من الأحيان داخل الفيلم، لكنها بطل من نوعٍ آخرَ، ومهمٍّ أيضًا: لقد كانت بطلًا فاضحًا. هذا يجعلني أجسِّر العلاقة المفترضة بين الفيلم وقصائد دنقل. إذ في كثير من قصائد دنقل كان الراوي فيها -الفاضح للعطب السياسي-؛ إما راويةً عليمًا أو شخصيةً جانبيةً مستضعفةً. الكاميرا كانت رشيقةً وصامتةً، تعطي فرصة الكلام للمشهد ومن فيه (وهم قليلو الكلام؛ مما يرفع القيمة البصرية والتمثيلية في العمل) مقابل راوية يتكلم ويسهب أحيانًا عن واقع صامت من شدة السكوت عنه.

أعتقد أن هذه النقطة التي جعلت من تكنيك اللقطة الطويلة ذات قيمة أعلى وعمق أوغرَ، وليس الأمر مجرد استعراض عضلات تقنية. وهنا يصح كلام إدورد سعيد إلى محمود درويش في قصيدة الأخير (طباق) إذ قال: "ليس الجماليُّ إلا حضور/ الحقيقي في الشكل". وعلى سيرة الشكل؛ فإن شكل الحديقة دائمًا ما يكون بديعًا ومُريحًا للنفس، لكن خروج "سباستيان" منها أمر خطير!

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى