فيلم «نسخة موثقة» لكيارستمي: أن يكون المرء بسيطًا ليس أمرًا بسيطًا!

أ. رياض حمادي
و
August 8, 2024

لنفترض أن فنانًا شهيرًا عاصر دافنشي ورسم نسخة طبق الأصل من الموناليزا. هل كانت لتساوي اليوم قيمة موناليزا دافنشي؟ وماذا لو أن دافنشي نفسه رسم لوحتين للموناليزا، واكتشفنا اليوم النسخة الثانية، هل ستساوي قيمة الأولى؟! هذان سؤالان مضمران ضمن أسئلة ودلالات عديدة يثيرها فيلم عباس كيارستمي «نسخة موثقة» أو «نسخة طبق الأصل» (2010) Certified Copy. الفيلم من بطولة الفرنسية جولييت بينوشيه (إيلي) والبريطاني ليام شيمل (جيمس). ويحمل الفيلم أسلوب كيارستمي الذي يجمع بين البساطة والعمق الفلسفي وتناغم الصورة الرمزية مع الحوار، وجدل الثنائيات والنهايات المفتوحة.

ما وراء القصة

يقول المخرج الألماني فيم فيندرز: «أنا لا أفكر، أنا أرى». ويقول تاركوفسكي: «ينبغي أن نضيف التفكير لكي نرى بشكل أوضح». وما قاله تاركوفسكي ينطبق على أفلام كيارستمي، وبخاصة فيلميه: «طعم الكرز» (1997) و«نسخة موثقة».

كخبير آثار ينقَّب كيارستمي في تاريخ الأعمال الفنية ويأخذنا في رحلة حضارية تُشكك في معايير الأصالة وقيمة الإبداع البشري مقابل إبداع الطبيعة: هل يمكن للنسخة أن تساوي الأصل؟ أين تكمن قيمة العمل؟ ولماذا تتسم الأعمال القديمة بقيمة أعلى؟ وينقّب في المعدن الإنساني: هل أنت روح أم جسد؟! نسخة أصلية أم مقلدة؟! ويدير حوارًا أزليًا بين الرجل والمرأة، والصورة والكلمات، وجدالًا بين ثلاث لغات هي: الإيطالية والإنجليزية والفرنسية. ولكل ما سبق دلالات سأحاول الكشف عنها في هذه القراءة.

المشهد النواة

النهاية المفتوحة تترك الإجابات للمتفرج، لكن كيارستمي يُقدّم لنا مفاتيح إجابات محتملة: الأشياء في جواهرها ليست أصلًا ولا تقليدًا، نظرتنا لها هي التي تحدد ما إذا كانت أصلية أو نُسخ عنها، أو كما قال جيمس: «المهم ليس العمل، بل كيفية النظر إليه هي المهمة».

يتناول الفيلم فكرة الأصالة والتقليد، البساطة والتعقيد. ولتحقيق هذه الفكرة يستعمل كيارستمي أدواته السردية (سيناريو وحوار وكاميرا وأداء) كخيوط النسيج، أو كالطوب في البناء. يبدو هذا في ترابط الحوارات وتناغمها مع لغة الصورة ولغة الجسد، والمشاهد التي تحيل بعضها إلى بعض، ويقوم المشهد الأول فيها بدور حجر الأساس.

تنطوي الأفلام الفلسفية على مشهد يلخص مضمون الفيلم. في «طعم الكرز» يكمن هذا المشهد في الدقيقة 58 ويستمر ربع ساعة، في الدرس الذي يلقيه باقري على بديع. أما في هذا الفيلم، فيكمن في مشهد البداية، ومدته تسع دقائق تقريبًا. محاضرة يلقيها جيمس ميلر، بصفته مؤلف كتاب يحمل عنوان الفيلم. يُصور كيارستمي المشهد بلغتين: بصرية، عبر الصورة، وسمعية، عبر المحاضرة. وتأتي بقية مشاهد الفيلم لتتجادل مع هذا المشهد الأساسي عبر أمثلة عديدة.

لأهمية المحاضرة أقتطف منها التالي. يقول جيمس:

«هدفي هو أن أُبين القيمة الحقيقية للنسخة المقلدة، لأنها ترشدنا للنسخة الأصلية، وبهذه الطريقة يمكننا تحديد القيمة. أعتقد أن هذا لا يسري فقط على الفن.. مفهوم الأصالة نوقش عبر التاريخ، حتى في وقت كان فيه الرومان يبيعون نسخًا مقلدة من الفنون المصرية. لقد احتل مفهوم الأصالة، والأصلي والتقليد، عقول أسلافنا كما يفعل بنا اليوم.. كلمة أصيل تحمل دلالات إيجابية للغاية: حقيقي، جدير بالثقة، خالد، لديه قيمة كامنة فيه.. وأصل كلمة "أصلي" يعود في اللاتينية إلى كلمة "ولادة".. أريد أن أستخدم هذه الفكرة لأرسم خطًا موازيًا بين الاستنساخ الفني والاستنساخ البشري، ففي النهاية نحن نسخة طبق الأصل عن أسلافنا. والبحث في الأعمال الأصلية هو عملية مُساءلة لاكتشاف جذور حضارتنا، فقد بحث الفلاسفة الإنسانيون، في عصر النهضة، في جذور الثقافة الغربية. والبحث في جذور الثقافة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعريف الأساسي للأصالة.. وفي مسألة الأصالة نحن بحاجة إلى الموثوقية والحاجة إلى الإثبات الحضاري.. ولضمان أصالة الأعمال يمكن توثيقها وفقًا لأربعة معايير: أولًا، يجب التأكد من شكل وهيئة المُجسَّم، ثم المواد التي صُنع منها..."

عند هذه النقطة يرن هاتف جيمس، وبِرَدِّه تُقطع المحاضرة وينتهي المشهد، ولانتهائه قبل إكمال معايير الأصالة دلالة سنكتشفها في مشهد لاحق عندما يسرد جيمس -لإيلي- المعايير من وجهة نظره الشخصية. وبمقارنة المعايير الرسمية مع معايير جيمس تبرز علامة استفهام أُولى حول أي المعايير هي الأصل: الرسمية، تلك التي تُقدّمها لنا المؤسسة أو الإجماع، أم المعايير الشخصية؟

رنين الهاتف لم يكن وحده الذي شوّش مسار المحاضرة؛ سبقه دخول إيلي ثم دخول طفلها جوليان، أثناء المحاضرة، ثم تبادلهما الحديث عبر الإشارات، ثم انصرافهما قبل انتهاء المحاضرة. ينظر جوليان إلى أمه، ويمسك ببطنه مشيرًا إلى جوعه، تبدر منها إشارة تذمر تحثه على الصبر حتى نهاية المحاضرة، يوزع جوليان نظراته اللائمة على أمه، والغاضبة على جيمس. سلوك جوليان، ودخوله وهو منشغل بجهاز ألعابه، يشيران إلى أولوية المعدة والمتعة على الفكر والثقافة. التشويش الذي تخلل المحاضرة يشير إلى ثانويتها أو هامشية القول والسماع مقارنة بالفعل والصورة، ليس لإيلي وطفلها فقط، بل أيضًا للمتفرج الذي ينتظره ما هو أهم من المحاضرة.

اللقطة الأولى من المشهد الأول مرتبة وفقًا لثلاث طبقات حضارية: واجهة حجرية عليها نقوش بالإيطالية، ثم النسخة الإيطالية للكتاب على طاولة خشبية، وأخيرًا الكاميرا التي تصور ما سبق. هذه الطبقات تختزل تاريخ الإنسان الحضاري في لغتين: مكتوبة ومرئية. ولهذا الترتيب علاقة بموضوع الفيلم الجدلي عن «الأصل والنسخة» من خلال مقابلة جدلية بين الصورة والكلام. تركيز الكاميرا على ما تفعله إيلي وطفلها -بلغة الإشارة- يجعله حدثًا رئيسًا وما يقوله جيمس خلفية له، وهذا يعطي أولوية للصورة أو أسبقية للغة الإشارة على لغة الكلمة، وأهمية للفعل مقابل القول. من جهة أخرى، يشكك في قيمة ما يقوله جيمس. ويكشف ردُّه على هاتفه -وقد نبَّه إلى ضرورة إغلاق الهواتف- عن شخصية نظرية ومتناقضة بين القول والعمل.

تُقدِّم اللقطة الأولى الثابتة للكتاب مثالًا عن الأصالة والتقليد والبساطة والتعقيد. يظهر الكتاب في نسخته الإيطالية بينما نسخته الإنجليزية الأصل غائبة، كما يظهر الكتاب مرادفًا للحياة باعتباره نسخة موثقة لجزء منها. لكن العنوان الفرعي للكتاب: «النسخة أجمل من الأصل»، وكذلك إشادة جيمس بالنسخة (الترجمة الإيطالية) واعتبارها أفضل من الأصل الإنجليزي، يقلب معيار الأصالة؛ فتحل النسخة محل الأصل. وبدخول جوليان القاعة، وهو منشغل بجهاز ألعابه غير عابئ بالمحاضرة، تحل التقنية مقابِلًا ومنافسًا للكتاب. وستكشف المَشاهد التالية عن مقابَلات أخرى: الكبار (الآباء) مقابل الصغار (الأبناء)، النظرية مقابل التطبيق، القول مقابل العمل، الرجل أو الزوج أو الذكر مقابل المرأة أو الزوجة أو الأنثى.

جدل الثنائيات

مواصفات الأصالة، وفقًا لجيمس: الإبداع والابتكار، الجمال، العمر، الفعالية. وستظهر من خلال أمثلة عديدة. يستشهد جيمس بأشجار السرو كمثال على «الإبداع»؛ فهي: جميلة، فريدة، عتيقة، وبسيطة على الرغم من تعقيدها. يلفت المثال نظرنا إلى أصالة متحف الطبيعة وبساطته مقابل أعمال الإنسان الأثرية وتعقيدها. الأطفال مثال على البساطة مقابل الكبار، فهُم، كما قال جيمس: «يعيشون كي يستمتعوا باللحظة». جوليان نموذج للجيل الجديد: لديه حس فضول ويحب الاكتشاف والمعرفة، سريع البديهة، قوي الملاحظة، يفعل أشياء عديدة في وقت واحد: يلعب على الجهاز ويتحدث مع أمه ويستمع إلى المحاضرة. وفي سبيل قضاء وقت ممتع لا يبالي بالتوجيهات والعواقب ولا يهتم بقيمة الزمن.

الاستمتاع بالحياة هو الأصل، وهو الهدف الوحيد من وجود الإنسان، لكن التفكير في العواقب يلهي الكبار ويعقد الحياة. وما يفعله الكبار مثالٌ على تعقيد البسيط، وعلى صعوبة العودة لبساطة الطفولة أو إلى الحياة الطبيعية كما تعيشها ماري وزوجها اللذان يتمنى جيمس أن يكون مثلهما. يقول جيمس:

«الجنس البشري هو الوحيد الذي نسي الهدف الكلي للحياة. المعنى الكلي للوجود هو أن نحظى بالمتعة والبهجة. فإن وَجَد أناسٌ طريقَهم إليها فليس علينا أن نحاكمهم. إذا كانوا سعداء ويستمتعون بالحياة فعلينا أن نبارك لهم لا أن ننتقدهم».

وتتجلى «الفعالية» والشخصية العملية في ماري، أخت إيلي، فهي بسيطة ولا تحاول أن تقنع أحدًا، تعيش في العالم العادي حيث يتشابه الأصلي والتقليد أو المزيف، تؤمن أن الحمقى هم من يبذلون جهدًا في الحياة، تفضّل موقد الغاز لسهولة استعماله، تحب المجوهرات المقلدة، وتزوجت رجلًا بسيطًا ترى في تلعثمه -حين ينطق اسمها- أغنية حب. ظهرت الشخصية العملية والبسيطة أيضًا في النكتة التي حكاها جيمس، عن رجل عالق في جزيرة صحراوية، يعثر على مصباح يخرج منه عفريتًا ويمنحه ثلاث أمنياتٍ. ولأن الرجل عطشان فقد استهلك أمنياته في طلب ثلاث زجاجات كوكاكولا كبيرة وباردة. هذا الرجل كما وصفه جيمس: «حياته بسيطة لدرجة أن زجاجة الكوكاكولا كانت كافيةً لتحقيق سعادته». ومع معيار «الجمال» يختفي الفارق بين الأصل والنسخة، ويظهر المثال في لوحة بوليمنيا، التي يُطلق عليها الإيطاليون: «جيوكاندا توسكانا» أو «النسخة الأصلية».

لسنوات، كما ورد في الفيلم على لسان المرشد السياحي: «كان يُعتقد أن هذه اللوحة فنًا رومانيًا؛ فهي لم تكن موجودة حتى القرن العشرين، بل قبل حوالي 50 عامًا، ثم اُكتشف أنها مزورة من قِبَل مزوّر من نابولي. قرر المتحف الاحتفاظ بها كلوحة أصلية لأنها جميلة كاللوحة الأصلية. تم رسمها في القرن الثامن عشر واعتُبرت أصلية لمدة مائتي عام ثم اكتُشف أنها مزورة واسم مزورها بعد الحرب العالمية الثانية». ومثال آخر هو ما قاله جيمس عن نفسه في نهاية الفيلم: «لقد أصبحتُ أجمل»، بهدف إضفاء الأصالة على نفسه تأكيدًا لوصف إيلي له: «أنت لم تتغير.. أنت كما كنت: لطيف، جذاب، وبارد».

الصورة والظل: وجهان لحياة واحدة

لا تظهر ماري وزوجها إلا من خلال ما تحكيه إيلي لجيمس. تُعرف هذه التقنية بالحجب. وهما على هذه الحالة يُعتبران مقابلَين لإيلي وجيمس. وحجبُهما لا يعني أنهما نسخةٌ وإيلي وجيمس الأصل. قد يكون العكس هو الصحيح!

تظهر إيلي في مقابلة ضدية مع جيمس، ولأنها الأقرب من شخصية ماري، فهي التجسيد المرئي لها ولما يتمناه جيمس. ظاهريًا، وكما سيتضح لاحقًا عند الحديث عن الصفات المشتركة بينهما: هي الصورة وأختها الظل. وجوهريًا، العكس هو الصحيح. أما زوج ماري فـ«جيمس» يدَّعي أنه نسخته، لكي تنظر إليه إيلي كما تنظر ماري إلى زوجها. وهذا ما سيتحقق في نهاية الفيلم.

يهتم جيمس في كتابه بالتأثير النفسي والفلسفي للفنون على الجمهور، لكنه لم يستشهد فيه بلوحة بوليمنيا، ولا بشجر السرو. وإذا أضفنا إلى ما سبق المصدر الذي أوحى له بفكرة الكتاب ستتضح طبيعة شخصيته النظرية. كانت إيلي قد قالت له إن اللوحة أصلية، لترى إن كان يميز بين الأصل والنسخة. لكنه فشل، للمرة الثانية، ربما لأنه -كما قال في محاضرته- يريد أن يثبت «القيمة الحقيقية للنسخة المقلدة، فهي ترشدنا للنسخة الأصلية»، أو لأن الحديقة بلا أوراق تظل جميلة، أو لأن اللوحة «جميلة كاللوحة الأصلية» كما قال المرشد السياحي، والجمال معيار للأصالة يساوي بين الأصل والنسخة، كما عبّر جيمس، أو لأنه -كما اعترف في بداية المحاضرة- ليس خبيرًا ولا متخصصًا في الفنون.

في سبيل دفاعه عن نفسه، يعيد جيمس الأمور إلى أصولها، فالصورة الأصلية «ليست سوى نسخة من جمال الفتاة الحقيقية. ومن الممكن القول إن لوحة الموناليزا ليست سوى استنساخ للجيوكندا»، وفي النهاية، «نحن نسخة طبق الأصل عن أسلافنا». تسأله إيلي: «هل تقصد أنه لا يوجد نسخة أصلية مطلقًا؟». يرد جيمس: «ليس تمامًا. هناك عديد من النسخ الأصلية».

المرة الأولى التي لم يميز فيها بين الأصلي والتقليد كانت عندما زارها في محل الأنتيكات الذي تديره. تخبره أن بعض التحف في المحل مقلدة وبعضها أصلية، في إشارة إلى عدم قدرة العين غير الخبيرة على التفريق بين ما هو أصيل وما هو دخيل.

يظهر جيمس متحدثًا باسم الأصالة ومُفككًا ما هو متعارف عليه من خلال نظرياته وكتابه وثَنائه على الترجمة الإيطالية. وتكشف نكتة الرجل وعفريت المصباح عن اختلاف جوهري بين جيمس وإيلي. تهتم إيلي بظاهر النكتة فتضحك، على الرغم من أنها قد سمعتها من قبل وتعتبرها سخيفة. هي -وفقًا لنظريات جيمس عن الأصالة والهدف من الحياة- تهتم بالجانب الوظيفي من النكتة: «المتعة لا العبرة»، ويهتم جيمس بالعبرة مناقضًا بذلك أقواله. ويتضح اختلافهما وتناقضهما عند مقارنة ما سبق بموقفهما من النبيذ، وهما في المطعم، والتمثال في الساحة. في موقفها من التمثال لم تتوقف عنده بوصفه قطعة فنية وحسب، كما فعل جيمس، لكنها غاصت إلى عمقه باحثة في فلسفة الفن عن معنى وراء مظهره الخارجي.

وفيما يتعلق بالنبيذ، يرى جيمس أن مذاقه فاسد، وهو بهذا لا ينظر إلى النبيذ كما نظر إلى النكتة والعمل الفني. وفقًا لنظرياته: إن كان النبيذ فاسدًا فالمهم «ليس العمل بل كيف ننظر إليه»، أو كيف نتذوقه، و«الحديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول إنها ليست جميلة!». في المقابل لم ترَ إيلي النبيذ بذلك السوء الذي يصوره جيمس، فما يُهمها هو وظيفة النبيذ: الوقت السعيد الذي تقضيه برفقة جيمس. حين يفتعل جيمس مشكلة، تقول له: «ألا يمكنك الاستمتاع بما تملك بدلًا من أن تتذمر طوال الوقت؟ ألا يمكنك التغير قليلًا هنا؟». وهكذا تتخذ إيلي من النكتة والنبيذ مناسبة للدعابة والتسلية. تعطي جيمس درسًا، وتضع نظريته عن الأصل والنسخة محل اختبار.

تظهر الهوة بين الجيلين، الصغار والكبار، من خلال سير إيلي وجوليان، هي في المقدمة وخلفها ابنها. ويظهر التناقض في حديثها عنه وتعاملها معه. في حديثها عنه تعترض على كثير من تصرفاته، لكن حوارهما يظهرهما كصديقين. وتظهر هذه الصفة المشتركة بينها وجيمس في موقفهما من الزواج. تقول، في مشهد تبرّمها من سعادة عروسين أمام الكاميرا: «لو يعلمان كيف ستصبح حياتهما عندما يُرزقان أطفالًا لما ارتسمت على وجهيهما هذه الابتسامة الغبية في يوم زفافهما». يوافقها جيمس قائلا: «لا شك في ذلك»، وهذا يدل على تجربة مشتركة. ستغير إيلي رأيها في النهاية عندما تُذكّره بالزوجين المسنين. تظهر تجربة إيلي وجيمس في الماضي من خلال العروسين الشابين، أما مستقبلهما فيظهر من خلال الزوجين المسنين.

في نهاية الفيلم تكشفه إيلي قائلة: «أترى؟ لم يتغير شيء. أنت لم تتغير. أنت كما كنت: لطيف، جذاب، بارد». يدَّعي جيمس الإنكار فتسأله: «هل تغيرتَ؟». يجيب: «لقد أصبحتُ أجمل». ولعله يعني التغيُّر الشكلي. فتضيف إيلي: «وأكثر غباءً»، لتحدد أن جوهره لم يتغير. ومع ذلك تتقرب منه، وهذا شاهد آخر على علاقة سابقة جمعتهما.

الحوار التالي شاهد آخر على تناقض جيمس وعدم معرفته بنفسه، فضلًا عن عدم معرفته بالآخرين. تصف إيلي أختها ماري، فيقول جيمس: «إنها تشبهني». تستنكر إيلي ذلك فيقول: «أتمنى أن أكون مثلها. لقد ألّفتُ الكتاب لأحاول إقناع نفسي بفكرتي، لكنها مقتنعة بذلك بشكل طبيعي، لذا أنا أحسدها».

  • إيلي: «لماذا لا يمكنك أن تكون مثلها؟»
  • جيمس: «أن يكون المرء بسيطًا ليس أمرًا بسيطًا».
  • إيلي: «نحن لسنا ديدان. لا يُفترض أن نكون بسطاء، نحن كائنات معقدة. ما هو الفاصل بين الشخص البسيط والعقل البسيط؟». يحتار جيمس في الجواب فيقول ساخرًا: «ذلك يحتاج إلى إجابة بسيطة».

تسأله لاحقًا: «أين النسخة الأصلية منك؟». يجيبها: «في منزل أختك». تستغرب إيلي فتسأله: «حقًا؟ أين؟». يرد: «في زوجها». وبوضعه نفسه مكان زوج أختها يريد جيمس أن يضع إيلي مكان أختها ماري. ولأنه لا يستطيع أن يتغير لكي تطابق أقواله أفعاله يريدها هي أن تتغير قائلًا: «إن لم تحاولي رؤية الأشياء من منظوري فما الفائدة!». وهذا ما تفعله إيلي في نهاية الفيلم وهي تتلعثم في نطق اسمه -"جـ.. جـ.. جـ.. ـيمس"- مثلما يفعل زوج أختها وهو ينطق اسم زوجته ماري.

إيلي، في نظرتها للحياة، هي النقيض من جيمس: شخصية عاطفية، عملية، ومتّسقة مع ذاتها. يبدو ذلك من تصرفاتها ومظهرها الخارجي: ملابسها بسيطة ولا تستعمل مساحيق التجميل ولا ترتدي الحُليّ والمجوهرات. ولكي تختبر قدرة جيمس على الملاحظة تذهب إلى حمام المطعم لتتزين.

بزاوية أمامية تستعمل إيلي الكاميرا كمرآة، تضع أحمر الشفاه وقرطين كبيرين، وتعود إلى الطاولة. وحين لا يلاحظ التغيير، تنظر إليه بالزاوية نفسها، التي تجعلها تنظر إلى المشاهد، وتقول: «انظر إلى زوجتك التي جَملّت نفسها من أجلك اليوم. انظر، افتح عينيك». هذه الإشارة تثير سؤالًا: هل هما زوجان! أم أنهما منفصلان؟! أم أنهما يمثلان دور الزوجين؟! حتى هذه اللحظة لا نعرف إلا تلميحًا، وسيظل هذا هو الحال حتى آخر الفيلم لتكون العلاقة بينهما لغزًا وعلى المُشاهد حله.

تحدث بينهما مشادّة كلامية تتشابك فيها لغتها الفرنسية بلغته الإنجليزية. وهما أمام الفندق تقول له: «أنت لم تلاحظ أني مسحتُ أحمر الشفاه، ولم تلاحظ القرطين. المشكلة أنك لا تراني. بينما أنا لاحظت أنك غيرت عطرك». يرد: «بلى، لاحظت». لكنه لم يعبر بما يفيد أنه لاحظ فعلًا. والحوار هنا يكشف عن شخصية الرجل وشخصية المرأة بملاحظاتها الشكلية الدقيقة.

جيمس لا يُفرّق بين الأصل والتقليد، أو أنه لا يهتم، وينظر إلى الأشياء من وجهة نظر شخصية. وهذا ما رفضه حين نظرت إيلي إلى موضوع التمثال أو فلسفته. لكن هناك جانب يلتقيان فيه، فهو يعطي للنسخة قيمة مساوية للأصل، وهي أعجبها العنوان الفرعي للكتاب: «انسَ الأصل واحصل على نسخة جيدة». وفي وضعها لأحمر الشفاه والقرطين دلالةٌ على قدرتها على أن تتغير وتكون نسخة أخرى من نفسها.

الكاميرا والمرآة

استخدام وضع الكاميرا في موضع الرؤية الذاتية أو حديث الممثل إلى الكاميرا مباشرةً يحطّم الجدار بين الشخصية والمتفرج. وهدف المخرج هو أن يأخذ موقفًا من الحدث، «ليوجه عواطفنا نحو شخصية بعينها دون الشخصيات الأخرى.. من أجل تحقيق توحد المتفرج مع الشخصية، ومن أجل أن نشعر بالمشاعر الداخلية للشخصية، وهو الأمر الحيوي لخلق علاقة بين المتفرج والقصة... قد تكون حركة الكاميرا الذاتية هي أقوى أدوات المخرج لكي يربط بين شخصيات الفيلم والجمهور... والإيحاء بكون الشخصيات الرئيسية ضحية».

الأمثلة على استعمال زاوية التصوير هذه كثيرة: مثل المشهد الأول من فيلم «انفصال» (2011) A Separation، لأصغر فرهادي. وفي «برتقالة آلية» (1971) A Clockwork Orange، ينظر مالكولم ماكدويل مباشرةً إلى الكاميرا. لكن اللقطة الأمامية القريبة الأولى في تاريخ السينما كانت في فيلم «سرقة القطار الكبرى» (1903) The Great Train Robbery، حين يوجه جورج بارنيز مسدسه تجاه الكاميرا ويطلق النار.

بلقطة قريبة أمامية تُستعمل الكاميرا كمرآة. نفّذ تاركوفسكي هذه اللقطة في فيلم «المرآة» (1975) Zerkalo لامرأة تضع قرطين وهي تنظر إلى الكاميرا مباشرة. وعندما تذكّر تاركوفسكي أن بيرغمان استعمل هذه اللقطة في أحد أفلامه فكّر في تغييرها. (قال ذلك في محاضرة ألقاها في إيطاليا بعنوان «السينما والزمن، ماهية السينما ومشكلاتها»، الدقيقة الخامسة. وأشار إلى أن بيرغمان استعمل هذه الزاوية في أحد أفلامه، ولما أدرك تاركوفسكي ذلك كان على وشك أن يعيد تصوير اللقطة بزاوية مختلفة، حتى لا يقلد بيرغمان، ولكنه تركها كما هي، لتكون «تحية إجلال لهذا الصديق العظيم» كما قال).

توجيه الكاميرا تجاه المتفرج غير ممكن إلا بوسيلة غير مباشرة هي نظر الممثل إلى الكاميرا. وهذه تقنية سردية يماثلها في السرد الروائي توجيه السارد الحديث إلى القارئ، وفي السينما إلى المتفرج. «وودي ألن» هو أشهر من طبّق هذه التقنية خصوصًا في فيلمه «آني هال» (1977) Annie Hall. وفي فيلم كيارستمي هذا، تضع إيلي القرطين وترسم أحمر الشفاه، وهي تنظر إلى المرآة (الكاميرا). تُستعمل الكاميرا كمرآة، وتلوح للكاميرا في لقطة لاحقة. وبهذه الزاوية تنظر إيلي إلى المتفرج مباشرةً فتقحمه حكمًا بينها وبين جيمس، ولسان حالها يخاطب المتفرج: كيف تراني؟! أصل أم صورة؟

الحديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول إنها ليست جميلة

الظل والضوء

العلاقة بين الأصل والصورة تظهر أيضًا في مشهد الساحة، بظهور جزء من التمثال، في إطار الشاشة، بينما يظهر كاملًا وهو منعكس في المرآة، ثم يظهر في لقطة بعيدة وإيلي وجيمس يبتعدان عن الساحة. عدم ظهور التمثال في لقطة قريبة، له صلة بتقنية الحجب: حَجْبُ ماري وزوجها عن الظهور، حجب ما قالته النادلة لإيلي، حجب العلاقة بين إيلي وجيمس، وحجب المعلومات التي لمَّحا إليها... وظهور صورة التمثال منعكسة في المرآة له علاقة بموضوع الفيلم عن الأصل والنسخة، الصورة وظلها، وسيتكرر هذا في مشهد ظل النافذة وظل زوج الحَمَام على جدار في غرفة الفندق.

يصور التمثال عائلة متماسكة مكونة من رجل وامرأة وطفل. المرأة تحتضن الرجل من الخلف وتريح رأسها على كتفه، بينما الطفل على كتفه الآخر. ترى إيلي في التمثال امرأة وجدت الأمان في كنف رجل قوي، وتفسيرها يُعبِّر عما تود أن تكون عليه حياتها، لكن جيمس يتهرب من هذا التفسير قائلًا: «هذا الرجل لا يفعل شيئًا سوى حماية هذه السيدة»، فترد: «لهذا السبب هو مُخلَّد». في موقفها من التمثال لم تتوقف عنده بوصفه قطعة فنية وحسب، كما فعل جيمس، لكنها غاصت إلى عمقه باحثة في فلسفة الفن عن معنى وراء مظهره الخارجي.. معنى يمنحه الخلود جاعلًا التمثال أصلًا وجيمس نسخة.

يكشف موضوع التمثال تراجع جيمس عن نظريته حول التأثير النفسي والفلسفي للفن على الجمهور، كما يكشف الاختلاف بين شخصيته (النظرية) وشخصية إيلي (العملية). التمثال واللوحة والتحف في محل الأنتيكات والنبيذ.. هي دروس عملية تكشف تناقض القول مع العمل، النظرية والتطبيق، وتقلب وضع التلميذ والأستاذ، الكاتب والقارئ، فتصبح إيلي المعلمة وجيمس التلميذ.

يفهم السائح الفرنسي مغزى تفسيرها فيأخذ جيمس جانبًا مقدمًا له نصيحة أبوية: «كل ما تريده منك هو أن تسير إلى جانبها وتضع يدك على كتفها. ذلك كل ما تتوق إليه. هذا مهم بالنسبة إليها. كل مشكلاتكما يمكن حلها بإيماءة بسيطة، افعلها وحرر نفسك». استجابة جيمس للنصيحة لاحقًا -بوضعه يده على كتفها وهما يسيران إلى الفندق- يعبر عن تحولٍ في شخصيته من القول إلى الفعل، وهي خطوة أولى ستتلوها أخرى. اللافت أن السائح والنادلة ينظران إلى جيمس وإيلي النظرة نفسها: زوجان يعانيان من مشكلة ويحتاجان إلى خبرتهما ونصائحهما. اقتراب عازف الأوكورديون يدل على أنه اعتبرهما حبيبين أو زوجين. فما طبيعة العلاقة بينهما؟!

الرجل والمرأة

العلاقة بين جيمس وإيلي يحكمها الغموض وتبقى مسألة حسمها مفتوحة لسؤال المتفرج: زوجان سابقان أم حبيبان انفصلا بعد إنجابها وتَهَرُّب جيمس من المسؤولية؟! هل جيمس نسخة من زوجها؟! أم أنها معجبة به حقًا كقارئة وتريد التقرب منه؟!

أول تلميح للعلاقة الغامضة بين إيلي وجيمس يلاحظها ابنها في حوار مرح يبدوان فيه كصديقين. يقول لها: «تريدين رؤيته مجددًا. تريدين رؤية ذلك الرجل مجددًا.. أعرف أن جيمس يعجبك وتريدين الوقوع في حبه وأعطيتِ رقم هاتفك لصديقه كي يتصل بك». ترد ضاحكة: «لا، على الإطلاق. أعطيته رقم هاتفي لأني أريد أن أعرف المزيد عن كتابه، فلم أتمكن من سماعه بسببك..». ضحكتها وملامح وجهها يبيّنان أنها تخفي شيئًا. شراؤها ست نسخ من كتاب جيمس ونظراتها إليه يكشفان إعجابها، وتواجدهم -جيمس، وإيلي وجوليان- في مكان واحد في فلورنسا قبل سنوات يُستبعد أن يكون صدفة. بكاء إيلي، حين أخبرها جيمس بقصة الأم وطفلها، يلمح إلى علاقة سابقة ربما أخفقت بسبب عدم تواُفق شخصيتيهما. وهناك شواهد أهم تكشف طبيعة العلاقة.

حبكة مخاتلة

لماذا أخفى كيارستمي طبيعة العلاقة بين إيلي وجيمس؟ الجواب باختصار: لتكون علاقتهما تصويرًا عمليًا لمضمون المحاضرة (الفيلم)، واختبارًا للمتفرج في موضوع الفيلم المختزل في العبارة: «أعتقد أن المهم ليس العمل بل كيف ننظر إليه». تقنية الفيلم المؤسَّسة على خداع المتفرج وخداع الشخصيات تدعم هذه الرؤية. في البداية تبدو العلاقة بينهما علاقة قارئة بكاتب، لكن التلميحات تتسرب تدريجيًا لتشي بوجود معرفة سابقة بينهما. هذه خدعة أولى تليها خدعة أخرى في ساحة المدينة بلقطة خلفية لسائح فرنسي يبدو للمتفرج أنه يكلم امرأة أمامه (زوجته)، لكن اللقطة الجانبية، وهما يسيران، تُظهره وهو يتكلم مع ابنته عبر الموبايل.

الشخصيات تخدع بعضها: جيمس ينخدع بمظهر التحف في محل الأنتيكات معتقدًا أنها أصلية، وتخدعه إيلي بقولها إن لوحة بوليمنيا أصلية، وتخبر العروسين، قبل التقاط صورة معهما، أنها وجيمس سعيدان واليوم يصادف عيد زواجهما الخامس عشر، وحين تقول لها النادلة الإيطالية: «إنه زوج طيب»، لا تصحح لها بل تسألها: «كيف عرفتِ؟!»، فترد النادلة: «من نظراته!». إيلي لم توهمها بقدر ما توهم المتفرج، مثلما أن قولها لجيمس: «افتح عينيك» ونظرُها موجهٌ إلى الكاميرا هو خطاب وتنبيه للمتفرج كي يمعن أكثر فيما يشاهده. وثمة خدعة أخيرة عندما تدخل الكنيسة فيظن جيمس أنها أصبحت متدينة، لكنها تخبره بأنها دخلتها لتغير حمالتها، ولحاجتها للبقاء بمفردها.

اللافت في حوارهما قول جيمس: «لم أكن أعلم أنك تذهبين إلى الكنيسة»، وهي عبارة أخرى تثبت ليس فقط معرفة سابقة بينهما ولكن معرفة وثيقة. وهذه كلها أمثلة تؤيد موضوع الفيلم عن الأصلي والمزيف، الظاهر والباطن، المظهر والجوهر، وكيف أن المظهر قد يكون خادعًا، مما يجعل المتفرج يعيد النظر في طبيعة العلاقة بينهما مستعينًا بكل ما سبق وما سيأتي من تلميحات.

تناقش قصة الفيلم في ظاهرها مسألة الأصالة والتقليد، لكن جوهرها يبحث أيضًا في علاقة المرأة والرجل، الذكر والأنثى، الزوج والزوجة. حوار النادلة الإيطالية مع إيلي، وحوار السائح الفرنسي مع جيمس، يكشف عن تدخل خبرتهما في هذا المسار من أجل استمرار حياتهما (الزوجية). في نهاية الحوار تعطي إيلي ظهرها للكاميرا وتهمس للنادلة بشيء.. تبتعد قليلًا وتقول لها: «يجب أن يبقى هذا بيننا. يجب ألا يعرفوا هذا». من هم الذين لا يجب أن يعرفوا بهذا: الرجال (الأزواج) أم المتفرجين؟!

عندما يقول جيمس للنادلة: «تعيش عائلتي حياتها وأنا أعيش حياتي، هم يتحدثون بلغتهم وأنا أتحدث بلغتي»، تغضب إيلي وتغادر المقهى. وهي تحدث ابنها على الهاتف، تقول لجيمس متهكمة: «أهنئك على هذه الحكمة العظيمة! ما نوع الفلسفة هذه؟! هراء! كن حقيقيًا واستمع إلى ما يفعله بي! تحدَّث معه ربما يمكنك التصرف أفضل مني!». لو أن جيمس لا يَمُتُّ لها ولجوليان بصلة، فلماذا غضبت وطلبت منه أن يتحدث مع جوليان!

الحوارات التالية تكشف المزيد عن طبيعة العلاقة المحتملة:

  • إيلي: (تتحدث عن ابنها) «إنه صورة مطابقة لوالده، لا يفعل شيئًا وهو عنيد جدًا. أنت تعيش حياتك وهو يعيش حياته وكلاكما تدمران حياتي».
  • جيمس: «من المؤكد أن وجودنا يمنح مَن حولنا السعادة والراحة».
  • إيلي: «انظروا مَن يتحدث عن التواجد! متى تناولنا نحن الثلاثة وجبة الإفطار معًا؟ متى؟ هل تتذكر؟»
  • جيمس: (ملقيًا اللوم عليها) «لا أتذكر آخر مرة تناولنا فيها الإفطار وكنتِ بمزاج رائق».

وعندما تشتكي من تصرفات ابنها يقول جيمس: «هناك طريقة للتعامل مع الأطفال».

  • إيلي: «لا يمكنني إيجادها وأنت غير موجود أبدًا. يجب على أحدنا أن يكون قاسيًا والآخر لطيفًا، لكن عندما يقوم شخص واحد بالدورين فهذا لا يُحتمل».
  • جيمس: «يجب أن ألعب دور الشرطي السيئ، أليس كذلك؟»
  • إيلي: «حتى الزوج السيئ يصلح أن يكون زوجًا، كما قالت النادلة».
  • جيمس: «من الظلم أن تعطيني دور الوالد الغائب. في بعض الأحيان يُضطر أحد الوالدين إلى التغيُّب لسبب معين وأنت تلومينني على ذلك».
  • إيلي: «بالطبع لا، لكنك تقول: "في بعض الأحيان" وفي حالتك هو أمر دائم. متى كنت بجانبنا؟ متى يا عزيزي؟»

وحين يصف جيمس سعادة العروسين بأنها «وهْم»، ترد إيلي: «إنه وهم جميل». يرد جيمس: «ربما يكون جميلًا، لكنه لن يدوم طويلًا. سيكون لطيفًا في البداية، لكن الواقع سيكون أكثر مرارة فيما بعد. لقد جربنا ذلك». ترد إيلي: «إنه لشيء محزن»، فيؤكد: «لا، إنها الحقيقة». قوله: «لقد جربنا ذلك» يلمح إلى تجربة سابقة مشتركة. وبعد تفسير إيلي لمضمون تمثال الرجل والمرأة يصف جيمس تفسيرها بأنه تفسير غبي.

يرى جيمس أن وعود الزواج، في طقوس الزواج المسيحي، تذهب أدراج الرياح، فيفشل الزواج. والحب لا يضمن استمرار الزواج، فالحب -وفقًا لجيمس- لا يبقى، ولذلك: «لن يستمر زواجهما إلا بوجود الاهتمام، الاهتمام والوعي. الوعي بأن كل شيء يتغير ولن توقف الوعود ذلك التغيير.. لن تبقى تلك الشجرة محافظة على زهورها بعد فصل الربيع لأن الزهور تتحول إلى فاكهة، ومن ثم تخسر الشجرة ثمارها. وبعدها تصبح حديقة بلا أوراق. لكن الحديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول إنها ليست جميلة!».

  • إيلي: «كتابك غبي أيضًا، أعتقد أن ما يهم ليس العمل.. اعتقدتُ أن طريقتك لفهم الموضوع ذاتية، شخصية، مبدعة، مختلفة، لكن الآن ما يهم هو المهارة التقنية وسمعة الفنان! لم تعد النظرة التي ننظر بها للعمل مهمة! أجب!».
  • جيمس: «ما تقولينه يجعلني أكره كل شيء.. الفن، النسخ الأصلية والمقلدة، أكره هذا التمثال وأكرهك، أكره كل شيء».
  • إيلي: «أعلم أنك تكرهني، لا يمكنني فعل شيء حيال ذلك. على الأقل أنا أحاول أن أكون متماسكة قليلًا».

تساقُط أفكار جيمس أمام نقد إيلي جعله يغير مجرى الحوار، لكن كان له دور إيجابي في تطور شخصيته. الحوار من جهة أخرى يكشف تناقض الكُتّاب بين القول والعمل، أو الفارق بين حياة الواقع وحياة الكتب، وهو فارق عبّرت عنه إيلي بقولها: «هذا كلام جيد من أجل الكتب. إنه كلام لطيف وذكي، لكن لا يمكن تطبيقه في الواقع، عندما تتعامل معه بمفردك يكون صعبًا».

قد تكون الحوارات بين إيلي وجيمس من قبيل تمثيل أدوار؛ يقوم جيمس بدور الزوج الغائب وتقوم هي بدور الزوجة. يدعم هذا التوجه عبارات تشير إلى عدم معرفة مسبقة بينهما، مثل سؤال جيمس: «وأنتِ هل تزوجت هنا؟». وأثناء حديثهما في المطعم يسألها: «أنت غير مقتنعة؟»، ويقصد غير مقتنعة بدوره كزوج. تهز رأسها بما يعني «نعم»، فيقول: «إن لم تحاولي رؤية الأشياء من منظوري فما الفائدة!». لكن بناء على تقنية الفيلم المخاتلة، يمكن اعتبار هذه العبارات إيهامًا لإضفاء مزيد من الغموض حول علاقتهما.

الراجح أن الحوارات تلمح إلى ماضٍ مشترك. ثمة شواهد تؤكد معرفتهما المسبقة، فبعد المشادة الكلامية بينهما في المطعم يقول لها: «أعتذر لما حدث منذ خمسة أعوام سابقة، أعتذر عما حدث في هذا المطعم، عن النادل والنبيذ، أعتذر عن السنوات الخمس عشرة السابقة، أعتذر عن وجودي»! فلماذا يعتذر جيمس؟! الأهم ذكره لتواريخ لها معنى في حياتها، ولا يوجد في الحوار الظاهر ما يدل على أنها قد أخبرته بها.

الشاهد الأهم على طبيعة العلاقة بينهما يتضح عند ربط حوار النادلة وإيلي مع حوار إيلي وجيمس. تقول إيلي للنادلة، وجيمس خارج المقهى: «زوجي يحلق لحيته مرة كل يومين. حتى يوم زفافنا لم يحلق ذقنه». وتقول لجيمس، وهما جالسان على درج الفندق: «كان بإمكانك أن تحلق لحيتك اليوم من أجلي، من أجل ذكرى زواجنا». يرد: «إنها عادة. أنا أحلق لحيتي مرة كل يومين»، فتؤكد كلامه قائلة: «أعلم ذلك». فلو أن الأمر تمثيل أدوار فكيف عَلِم جيمس أن زوج إيلي يحلق لحيته بين يوم وآخر؟!

تسأله: «هل تتذكر الفندق الذي قضينا فيه ليلة زواجنا؟». يُخمن جيمس لكنه يعجز عن التذكر. تصعد إيلي الدرج، تدخل الفندق وتطلب من الموظف مفتاح الغرفة رقم تسعة لتستعيد ذكرى الزواج. تذَكُّرها للفندق ورقم الغرفة يبين فرقًا آخر بين الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، فيما يتعلق بالعلاقة الرومانسية. يبدو جيمس فاقدًا للذاكرة، لكن إيلي تتذكر أدق التفاصيل. شاهد آخر على الفارق بين شخصية الرجل والمرأة.

مراحل الزواج

يظهر الزواج عبر ثلاث مراحل عمرية: الشباب (العرس)، الحياة الزوجية في منتصف العمر، والشيخوخة. جيمس وإيلي يمثلان مرحلة الوسط، والعروسان الشابان مرحلة البداية، والنادلة والسائح الفرنسي وزوجته والزوجين المسنين، أمام الكنيسة، يمثلون مرحلة الشيخوخة. يظهر العُرْس في هيأتين: عروس سعيدة وأخرى تعيسة، على وجهها آثار بكاء في إشارة إلى بداية متعثرة. التقاط إيلي وجيمس صورة مع العريسين السعيدين له دلالة مرتبطة بنهاية قصتهما -إيلي وجيمس- كما سيأتي لاحقًا.

ما قالته النادلة الإيطالية (نظريًا): «ستفهمين ذلك عندما تصبحين في عمري»، تتحقق منه إيلي (عمليًا) في مشهد زوجين مسنين يخرجان من الكنيسة في اللحظة التي تدخلها. المضمر في كلمات النادلة تنقله صورة صامتة للزوجين المسنين وهما يخرجان من الكنيسة ويسيران ببطء وخلفهما جيمس وإيلي. يصل الزوجان المسنان إلى بيتهما جوار الفندق وتجلس إيلي وجيمس على الدرج. المشهد، بتقديمه لغة الصورة على لغة الكلمات، يعبر عن مستقبلهما في صورة الزوجين المسنين. وهذا ما تشير إليه إيلي في حديثها مع جيمس وهما في غرفة الفندق:

«إن كنا متسامحين بشكل أكبر عن أخطاء بعضنا سنكون أقل وحدة. أعرف أن بإمكان الشخص أن يعيش وحيدًا، لكن.. أرأيت الزوجين في البيت المجاور؟ إني أحسدهما.. ابقَ معي. ابقَ، هذا أفضل لكلينا، لأجلنا نحن الاثنين. امنحنا تلك الفرصة». يرد جيمس، بصوت واهن يشي بتردده: «لقد أخبرتك. يجب أن أكون في المحطة الساعة التاسعة». ترد إيلي: «نعم. أعلم ذلك»، ثم تنطق اسمه، بالطريقة المحببة المتلعثمة التي ينطق بها زوج أختها اسم زوجته ماري.

تقمُّص إيلي لشخصية زوج أختها يفيد أن نسخة الزواج الناجحة بين ماري وزوجها يمكن لإيلي وجيمس تطبيقها. سيصبحان نسخة عن ماري وزوجها، لكن نجاح العلاقة سيمحو الحدود بين الأصل والصورة، فكلهم نُسَخ طبق أصل في الأخير. اللقطة التالية لظل النافذة وظل زوج حمَام تدعم هذه الرؤية كما سيأتي. ماري تحب طريقة تلعثم زوجها حين ينطق اسمها وتعتبر ذلك أغنية حب، ونطق إيلي اسم جيمس بتلك الطريقة هي محاولة أخيرة لتجعله يبقى. يذكرنا هذا بما قاله جيمس لإيلي وهما يتجادلان أو يتراهنان في طريقهما للمتحف:

  • جيمس: «نأخذ شيئًا عاديًا ونضعه في متحف ونغير نظرة الناس إليه. لا يهم ماهية الشيء بل النظرة إليه هي ما يهم».
  • إيلي: «إن كان اسمك جاسبر جونز يمكنك فعل ذلك».
  • جيمس: «وإن كان اسمك ماري يمكنك فعل ذلك. أعني أن الطريقة التي تنظر بها لزوجها هي التي غيرت من قيمته».

الإشارة إلى الفنان جاسبر تعني أن للاسم دور في تحقق ما قاله جيمس، فالقيمة ليست في العمل دائمًا، بل في اسم وشهرة صاحبه. وبنطقها اسم جميس على هذا النحو المتلعثم تقدم إيلي تنازلًا في سبيل إنجاح العلاقة، لكنها كانت قد قالت الكلمة الأخيرة في جدال الأصالة والتقليد.

إغلاق الدائرة

تسير قصة الفيلم في مسارين: نظري، ويمثله جيمس، وعملي، وتمثله إيلي. تنجح إيلي في إخراج جيمس من حياة الكتب إلى الواقع، فتصحبه في مشوار من محطات عدة: محل التحف الذي تعمل فيه، المقهى، المتحف، ساحة المدينة، المطعم، الكنيسة، وأخيرًا الفندق الذي شهد بدايتهما. والمسار على هذا النحو أشبه بفلاش باك أو عودة إلى الوراء من أجل بدء صفحة جديدة لا تتسم بالمثالية، لكنهما معًا سيكونان «أقل وحدة»، كما عبّرت إيلي.

التحوّل الأهم في شخصية جيمس يبدأ باعتذاره لإيلي وهما أمام الفندق. في الغرفة تتحدث إيلي وهو منصت معظم الوقت، وصمته دليل على تفكيره في علاقتهما أو على اقتناعه بما تقول. بعد أن تنطق إيلي اسمه بتلك الطريقة تَصدُر عنه ابتسامة رضا خفيفة. وفي اللقطة التي ينهض من على السرير يظهر على الجدار ظل نافذة وظل لزوج حَمَام يطير أحدهما وراء الآخر. يدخل جيمس الحمَّام، وجهه للكاميرا بلقطة أمامية قريبة وثابتة وخلفه نافذة تظهر عبرها كنيسة تصدر عن أجراسها ثمان دقات. تذكرنا هذه الزاوية بنظرة إيلي إلى الكاميرا، في مشهد سابق، ما يعني مشاركة المتلقي لما يدور في ذهن جيمس. ينتهي جيمس من التبوُّل ويظل واقفًا وهو يفكر بينما أصوات الأجراس المتداخلة تُعبِّر عن الضوضاء في رأسه وكأنها تحثه على اتخاذ قرار والاستجابة لطلب إيلي.

وهو يهم بالخروج يمرر يده اليمنى في شعر رأسه بما يوحي باتخاذه قرارًا، وهذا ما يلوح في نظرته الأخيرة، لولا أن حركة يده هذه كررها مرات عدة فيما سبق تعبيرًا عن حيرته. ينتهي الفيلم باللقطة الثابتة نفسها للكنيسة وصوت الأجراس تخفت تدريجيًا بينما يمر زوج الحَمَام وهما يطيران معًا. هذه اللقطة للطائرين (أصل) مرتبطة بظلهما في المشهد السابق (صورة) ولها علاقة بموضوع الفيلم عن الأصل والنسخة، الصورة والظل، ويمكن أن نرى في تحليق الطائرين معًا نهاية سعيدة تُحيل إلى إيلي وجيمس.

تعيدنا لقطة الكنيسة في المشهد الأخير إلى مشهد خروج الزوجين المسنين منها ورجوعهما إلى البيت، وبهذا الربط ستصبح مسيرة جيمس وإيلي صورة طبق الأصل عن مسيرة الزوجين العجوزين، مثلما أن لقطة الكتاب في المشهد الأول وآخر لقطة للكنيسة في المشهد الأخير تجمعهما عناصر مشتركة: ميكرفونان مقابل جرسان، الكتاب مقابل الكنيسة، وفتحة الإطار في الجدار (أشبه بنافذة مغلقة) في المشهد الأول، مقابل النافذة المفتوحة، في المشهد الأخير. واللقطتان بضمهما معًا في صورة واحدة تلخصان مسيرة الحضارة الإنسانية وتلقيان بسؤال أخير: أيهما الأصل والآخر نسخة، الكتاب أم الكنيسة، الحياة أم الدين؟!

ثمة إجابة محتملة في النهاية التي يخلص إليها الفيلم حول نسبية الأصالة، وإجابة أخرى محتملة في ترتيب المشهد: صوت أجراس الكنيسة وظهورها في خلفية المشهد وجيمس معطيًا لها ظهره، فيما هو منشغل بشيئين: التبول والتفكير، يشيران إلى أولوية التفكير والحياة وثانوية الدين (رأينا في مشهد سابق كيف أن الكنيسة مكان لتغيير حمالة الصدر، وللانفراد بالذات لا للصلاة).

يَخْلُص الفيلم إلى أن معايير الأصالة نسبية وقد يكون لها بُعدٌ شخصي، فالمعايير المتعارف عليها تعجز عن تحديدها تمامًا، أو كما قال جيمس في المحاضرة: «لا يوجد نقطة ولا حقائق ثابتة للرجوع إليها». المثال على ذلك يستخلصه جيمس من ابتسامة الموناليزا حين يقول لإيلي: «وتلك الابتسامة، أتعتقدين أنها أصلية أم أن ليوناردو ابتكرها؟». سكوت إيلي يترك الباب مفتوحًا لتتساوى النسخة والأصل.

من لغة الصورة والحوار إلى لغة الجسد

للغات الحوار المستخدمة في فيلم «نسخة موثقة» Certified Copy لعباس كيارستمي، استعمالات تعبيرية تخدم موضوع الفيلم، أو فكرة المخرج، وهي بحسب ترتيب ظهورها: الإيطالية، الإنجليزية، والفرنسية. ولهذا الترتيب دلالة تاريخية تشير إلى أقدمية اللغة الإيطالية، وأخرى جمالية، حين وصف جيمس الترجمة الإيطالية لكتابه بأنها أجمل من الأصل الإنجليزي، وبهذا، تحوز الإيطالية على معيارين من معايير الأصالة -العمر والجمال- الواردة في حوار جيمس مع إيلي.

ترتيب اللغات حسب الأكثر استخدامًا في حوارات الفيلم -الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية- له دلالة ثقافية تشير إلى مكانة هذه اللغات واستعمالها في الواقع المعاصر. اختيار إيطاليا مكانًا للأحداث له علاقة بالعودة إلى جذور الثقافة لاختبار ما قاله جيمس في المحاضرة، وتتمثل العودة هنا بمواطنَين أوروبيَين: فرنسية (إيلي) وإنجليزي (جيمس)، ولعل لهذا الاختيار علاقة بالمناوشات التاريخية الثقافية والسياسية بين البلدين، كما أن تفوُّق إيلي بإجادتها للّغات الثلاث كان له دور في رجحان كَفّتها في الجدل المثار في الفيلم بينها وجيمس. إن استعمال إيلي وجيمس للُغة الحديث له علاقة بحبكة الفيلم المخاتلة. يستعمل جيمس في المشهد الأول الإنجليزية وقليلًا من الإيطالية يشدد على مفرداتها دليلًا على عدم إجادته لها، فهو لم يفهم المرشد السياحي وهو يتحدث عن اللوحة. حديث إيلي معه بالإنجليزية حتى منتصف الفيلم تقريبًا يوهم المتفرج أن جيمس لا يجيد الفرنسية، وهذا ما تقوله إيلي للنادلة، لكننا نكتشف لاحقًا أن فرنسيته أفضل من إيطاليته. يستعمل الفرنسية أول مرة قرب النافورة. يجلس إلى جوار إيلي ويحدثها بلغتها. وحديثه معها بلغتها الأم له دلالة تشير إلى تقربه منها بطريقتين تعبيريتين: بصرية، بالجلوس إلى جوارها، ولغوية، بالحديث معها بلغتها الأم.

تمترُس جيمس، في البداية، خلف لغته الإنجليزية، يشير إلى عدم رغبته في تقديم التنازلات، وكنوع من أنواع الحماية لنفسه، كما صارحته إيلي في الفندق، أما حديثه معها بالفرنسية، فيشير إلى الرغبة في التقارب، والأمر نفسه مع إيلي، فحديثها بالإنجليزية يشير إلى محاولات تقربها منه، وإلى قدرتها على إقناعه بلغته الأم، والعكس حين تتخلى عن الإنجليزية وتستعمل الفرنسية، وحين تتداخل اللغتان في حديثها فهذا تعبير عن حالة الشد والجذب التي يمران بها لحظتها. حديثها معه بالفرنسية وردُّه بالإنجليزية (في المطعم) يشير إلى سوء تفاهم أو عدم إصغاء. يقول لها جيمس، بعد مشادة كلامية، كلٌ بلغته: «لنعد من حيث بدأنا، أنتِ لا تستمعين إلى ما أقول». دلالة تقربها منه هو حديثها بالإنجليزية ودلالة تقربه منها هو حديثه بالفرنسية. ويحدث الشد والجذب، التقارب والاختلاف، في الساحة والمطعم (إنجليزية وفرنسية)، ثم تسود الفرنسية في المشهدين الأخيرين، أمام الفندق وغرفة الفندق، وفي ذلك دلالة على تقارب اتخذ مظهرًا لغويًا. تضع إيلي رأسها على كتف جيمس لترتاح، في إشارة إلى تمثال الساحة الذي يصور عائلة متماسكة مكونة من رجل وامرأة وطفل، المرأة تحتضن الرجل من الخلف وتريح رأسها على كتفه، والطفل على كتفه الآخر.

اللافت أن جيمس، في معظم الوقت، يضم كلتا يديه أو يضعهما في جيبَي البنطلون أو الجاكيت. لغة الجسد هذه تُعبِّر عن رغبة في حماية نفسه وعن تحفظه أو عدم رغبته في التواصل مع إيلي. التحفظ في لغة الجسد يصاحبه تحفظ في لغة الحديث، والتقارب الجسدي في ختام الفيلم يصاحبه أيضًا تقارب لغوي، كما رأينا. علامة انفتاح جيمس نحو إيلي تبدأ بإخراج يده اليمنى من جيبه ثم تمريرها على شعره، تكررت هذه الحركة نحو ست مرات آخرها في اللقطة الأخيرة. في المقابل، نجد إيلي تُقبِل بجسدها نحوه وتلوح بذراعيها، وهذا ينسجم مع استعمالها للإنجليزية. المرة الوحيدة التي ضمَّت فيها ذراعيها، وهي جالسة عند النافورة، تُعبر عن تحفظ جسدي، صاحَبه تَحفُّظ لغوي باستعمالها للفرنسية، كما تعبر عن احتضان لنفسها يوازي احتضان زوجين أو حبيبين يجلسان إلى يمينها، واحتضان المرأة للرجل في التمثال. مشاركة إيلي الخبز مع جيمس تحمل دلالتين: مصالحته بعد المشادة الكلامية بينهما في المطعم، وارتباط الفعل بطبيعة شخصيتها وبمعنى المشاركة التي تجلّت في مشهد لاحق في الساحة، حين اختلف معها جيمس حول فهمها لموضوع التمثال قائلًا: «لا أشعر أن بإمكاني مشاركتك رأيي في هذا الموضوع»، فردّت عليه: «مشاركتي! أتعلم ما تعنيه هذه الكلمة؟ ماذا تعلم عن المشاركة؟!»

ثمة دلالة أخرى في لغة الجسد تبدو في مشي إيلي وجيمس. إيلي تتقدمه بخطوة أو خطوتين (الاستثناء حين خرج جيمس قبلها من محل الأنتيكات). الشيء نفسه يحدث حين تسير إيلي في المقدمة ويتبعها ابنها جوليان، فهو «صورة طبق الأصل عن أبيه»، كما قالت إيلي. وكذلك يفعل المسنّان حيث تتقدمه زوجته بخطوة. قارن هذا بسير السائح الفرنسي جنبًا إلى جنب مع زوجته. لهذه الخطوة دلالة تشير إلى قوة شخصية إيلي مقابل تردد وحيرة جيمس ومخاوفه من الارتباط والاستقرار. الفيلم من جهة يُدير صراعًا خفيًا بين الرجل والمرأة، أيهما الأصل والآخر نسخة؟ تقوم إيلي، على نحو عملي وساخر، بتعرية نظريات جيمس التي يدافع فيها عن قيمة النسخة نظريًا، لكنه لا يسعى لتحقيقها عمليًا. يحاول جيمس إقناع إيلي بالكتاب الذي ألّفه والنظريات التي يرددها، مع أنه ألَّف الكتاب، كما أخبرها، ليقنع نفسه قبل أن يقنع القراء. هذه نقطة ضَعْف ستصب في صالح إيلي التي لا تسعى لإقناعه بقدر ما تلفت نظره إلى الحياة والواقع، لتبين له صدق نظرياته، لا من خلال القول، ولكن من خلال الفعل. وبهذا، تمثل إيلي وجه الحياة في صورتها الفاعلة وجيمس وجهها الآخر في صورتها النظرية، قولًا وكتابة.

مسار التطور الدرامي للشخصيات، يُظهر المرأة في صورتها القوية والقيادية والواثقة، وذلك من خلال ثبات شخصية إيلي طوال القصة: سيرها في المقدمة، ولغة جسدها، وابتسامتها، وتحدثها بأكثر من لغة. ويظهر جيمس متماسكًا في البداية، إلا أن خوفه وعدم ثقته وتناقضه يجعلونه يتراجع تدريجيًا إلى أن يفقد كل أسلحته في النهاية. لم يقدم كيارستمي العلاقات الزوجية ومشكلاتها بشكل مألوف، بل من خلال مدخل فلسفي، جاعلًا الفكرة تقود الحكاية وليس العكس، كما هو سائد في السرد المبني على قصة تقليدية، والنتيجةُ اتساق عناصر الفيلم وتكاملها: أداء الممثلين وحركة الكاميرا، مع فكرة المخرج عن الأصالة والتقليد والبساطة والتعقيد. عنصر المفاجأة هو أحد العناصر التي تشكل فكرة المخرج وتبرهن على عبقريته، إضافة إلى البساطة وتعدد الدلالات، فكلما أوحى الفيلم بأفكار مختلفة كان ذلك برهانًا على عمق الفكرة، فالقصة الجيدة تُنتج تفسيرات متعددة، واختلاف التفسيرات وتعددها هو الذي يميز بين مخرج حرفي: يحكي قصة واضحة، لها بُعد واحد وتفسير مباشر، وبين مخرج جيد: يعطي مستويات متعددة وضمنية للقصة، ومخرج عظيم، مثل كيارستمي، يتسم بالجرأة والتجريب ويعالج المألوف بطريقة جديدة وبسيطة.

انتهاء الفيلم وهما -جيمس وإيلي- في الغرفة التي قضيا فيها ليلة الزواج قبل خمسة عشر عامًا يشير إلى بداية جديدة يمكن فيها لشخصين مختلفين فكريًا ولغويًا أن تجمعهما حياة مشتركة، فالفكر أداة للاختلاف لا للخلاف، واللغات أداة للتواصل لا للتخاصم أو للتمايز، والأصل في الزواج ليس الحب، ولكنه الاهتمام والوعي.. الوعي بأن كل شيء يتغير، فـ«الحديقة بلا أوراق، مَن يتجرأ على القول إنها ليست جميلة!»

الهوامش:

1. كين دانسايجر: فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجًا عظيمًا؟، ترجمة: أحمد يوسف المركز القومي للترجمة، العدد: 1307، الطبعة الأولى 2009، ص 129، 134، 135.
 2. حول فكرة المخرج وأنواع المخرجين يُنظر كتاب «فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجًا عظيمًا؟»، كين دانسايجر، ترجمة: أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى