فيلم «ناقة» والتعبير الفني عن أزمة المرأة

الخروج من الرتم. بعد فترة سيطرت فيها الرتابة والرتم البطيء على الفيلم السعودي، ها نحن أمام فيلم جديد يقدم محاولته الجريئة، التي ينفي بها عن نفسه - وبالتالي عن الفيلم السعودي عمومًا - هذه التهمة الوجيهة. الفيلم هو «ناقة» (2023)، التجربة الفيلمية الطويلة الأولى للمخرج السعودي الشاب مشعل الجاسر، وكذلك بسيناريو من كتابته أيضًا، وبمشاركة عدد من المبدعين أهمهم على مستوى البطولة الفنانة أضواء بدر والفنان يزيد المجيول، بإنتاج مشترك بين استوديوهات تلفاز 11 وموفيتاز واستوديوهات مناسب. والجدير بالذكر أن انطلاقة الفيلم كانت في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، ومن ثم في فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي بمدينة جدة، وأخيرًا عُرض في السابع من ديسمبر 2023 على منصة نتفليكس.

وفيما يخص كسر الجمود ونفي الرتابة، يمكن القول إن الفيلم حقق الهدف من هذه الناحية، من خلال عدة مكونات فنية ناضجة على مستوى الصورة والصوت وتتابع اللقطات الفيلمية، التي تميزت بالطابع الانفجاري (لقطة صغيرة على مستوى الحدث تتبعها لقطة أكبر، وهكذا دواليك وصولًا إلى تحقيق معادلة الإثارة والتشويق القصوى). وقد أحسن الجاسر في تقديم البيئة المكانية لمَشاهده، التي بدت منسجمة مع معطيات الحكاية الرئيسة، بداية من تقديم صورة المدينة (الرياض) ثم الخروج منها إلى البيئة الصحراوية القريبة (المخيمات البرية)، ولأن الهدف بالدرجة الأولى كان تقديم وجبة درامية تتميز بالإثارة والتشويق. برزت بعض الإشكالات على الصعيد التكويني، من بينها المشهد الذي قام فيه المجهولون في «الشاص» بالمماحكة في الربع الأول من الفيلم؛ إذ بدا ذلك الإدراج نافرًا وغريبًا عن النسيج العام، دون أن يضيف جوهرًا حقيقيًا إلى حكاية الفيلم، وهو على النقيض من معظم المشاهد الأخرى، التي جاءت مبرَّرة ومنسجمة مع سياق السرد.

التعبير الذكوري. من حيث التكوين المفاهيمي، تظل معضلة تداخل الموضوعي والفكري مع السينمائي البصري مشكلة من مشكلات الفيلم السعودي، وتتفاوت الأفلام السعودية في نسبة هذا التداخل، ففي اللحظة التي يميل فيها كثير من المنتجات الفيلمية ناحية الفكري، تتمسك أفلام أخرى بالمبدأ السينمائي البصري، وأزعم أن فيلم «ناقة» اقترب كثيرًا من تحقيق الرؤية السينمائية، دون التخلي عن الحكاية المركزية. بمعنى آخر، يمكننا أن نختصر رؤية الفيلم الفكرية بكونها تحكي قصة فتاة تحاول القفز والتمرد على الحدود الاجتماعية الخانقة في سبيل تحقيق الحرية الشخصية بشكل مجاني، وفي ذات الوقت لا يمكننا اختصار وجهة النظر السينمائية أو على الأقل التي شاهدناها في الفيلم بصريًا، وهذا تحديدًا الذي يميز فيلم «ناقة» عن بقية الأفلام التي ناقشت الثيمة نفسها (مشكلة المرأة في المجتمع التقليدي)، فالتعبير عن ذكورية المجتمع من خلال فكرة الفيلم لا تتطابق مع التعبير السينمائي لذات الفكرة،

هذا الملمح يحيلنا إلى مستوى وعي صانع العمل الفني بأدوات وممكنات الجنس الفني الذي يعمل من خلاله، فلا يصبح العمل من خلال هذا الوعي داخلًا في ثنائية الصواب والخطأ، بل في جدلية الشكل الفني الذي لا يُجهد نفسه في التعبير الفكري بقدر اجتهاده وجديته في التعامل مع مصير شخصيات العمل ومآلاتها، وهذا تحديدًا ما نقصده بوجهة النظر السينمائية، أي التعبير من خلال الكاميرا، وحركة الشخصيات داخل اللقطات، الأمر الذي يقبل -بخلاف الركون إلى التصور الفكري البحت- بالتفاوت التأويلي للعمل الفني.

ليس من البديهي أن يصل الفنان أو المبدع إلى درجة عالية من الوعي بإمكانات الجنس الفني دون تجريب أدواته وقدراته الفنية، وأعتقد أن هذا ما حصل مع المخرج الشاب مشعل الجاسر، الذي حقق من خلال فيلم «ناقة» قفزات كبيرة على مستوى الوعي المفاهيمي للسينما بوصفها فنًا، فبعد عدد من التجارب القصيرة ذات البُعد الفكري التوجيهي، التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي، نراه من خلال فيلمه الجديد يتنازل عن أزمته الفكرية ويتمسك أكثر بأدواته الفنية، وذلك من خلال بناء سردية صغرى ومفتتة لديها تصور حول ذكورية المجتمع السعودي، الذي يستفزه بطبيعة الحال هذا الموضوع. إلَّا أنَّه يكتفي هنا بالإشارة، ويدع الحكاية تأخذ دورها الفني والجمالي في التعبير، وهذا ما يبرر تعاطفنا مع البطلة «سارة» رغم مجانية مغامرتها، ومن ثم يدخلنا في أتون هلاوسها الذاتية، التي تظهر على نحو مبرر أحيانًا، وبصورة فانتازية في أحيان أخرى، ورغم ذلك لا يدفعنا هذا التناقض المفهومي من التعاطف معها بوصفها شخصية سينمائية. كل ذلك يعود -بلا شك- إلى تفوق المبدأ السينمائي على المبدأ الفكري للحكاية، والجاسر من خلال هذا النضج الفني يقدم عمله جماليًا، كصورة مجازية، أكثر من تقديمه له كرؤية فكرية، مع الأخذ في الاعتبار عدم خلو العمل من الإشارات الموضوعية، مثل اختياره لاسم العمل (ناقة) ومحاولة الربط بينه وبين الأسطورة المحلية المشهورة عن هذا الحيوان، بكونه كائنًا حقودًا، وبين توافر الحنق لدى الشخصية الأنثوية المقهورة، التي تستعير بشكل ما صفات هذا الحيوان، ويظهر هذا جليًا في المفاصل والمنعطفات الكبيرة داخل العمل، مثل بدايته ونهايته، التي تحمل في العادة مسؤولية تقديم بيان الفيلم.

هنا يمكننا القول إنَّ فكرة وبيان العمل الفني، بصفته تعبيرًا ذكوريًا صرفًا، لا يحيلان بالضرورة إلى وجهة نظر صانع العمل بقدر إحالته إلى الواقع، فمن الأدوار والوظائف المهمة للفن عمومًا وللسينما خصوصًا، طرح الأسئلة الساخنة، من دون محاولة تقديم الإجابات بشكل فوقي، والوعي بهذه الوظيفة الفنية هو الذي يُظهر صانع العمل الفني -دائمًا- على مقربة من الأسئلة دون الوقوع في فخ تقديم الإجابات، وبمقدار هذا الوعي وتفاوت الفنانين فيه يكون الانغماس في التكوين الفني والجمالي، لأن السلطة الجمالية الناعمة هي التي تمنح العمل السينمائي إمكانية التفاعل والتعاطف، ومن ثم قيمة التعدد التأويلي.

الهوس السينمائي. تُعد سلطة الإقناع من أصعب وأعقد الأمور في مجال الصناعة الفنية، وهي في السينما أكثر تعقيدًا، فالمبدع قد يدخل إلى عمله الفني بطموح وادعاء مسبق، وفي اللحظة نفسها لديه تلك العين النقدية التي تتكون وتتشكل من خلال رؤى نقدية من خارج مختبره الفني، ومن أجل الوصول إلى توليفةٍ مُرضيةٍ له -بوصفه فنانًا- ومقنعةٍ فنيًا للآخرين، قد ينسحب ناحية المشتتات، التي تقلل من أهمية ادعائه المسبق، وكل ذلك قد يضر بالعمل، ما لم يكن لدى الفنان هوسه الخاص بفنه. هذا الهوس هو أحد أهم المكونات المنقذة للفنان، ونحن -المتلقين- نتوصل إلى معرفتها من خلال أدوات وعدة الفنان، التي تصل في السينما إلى حد الهوس، هذا الهوس الذي يتحول مع الوقت والتراكم إلى الصوت الخاص، وهي في المجال السينمائي صوت بصري، أو نبرة الفنان الخاصة، وأعتقد جازمًا بأن مشعل الجاسر لديه هذا الهوس البصري، الذي يجعله يبدو منعزلًا تمامًا داخل مختبره الفني، وخارجًا من تأثير المشتتات، التي نراها تعصف في كثير من الأحيان بصناع السينما السعودية.

قد يتبادر إلى الذهن هنا سؤال منطقي، ما هي الصورة الفنية التي قدمها الجاسر في فيلمه، وجعلتنا نتحقق من توافر الهوس السينمائي لديه؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتّم علينا العودة إلى عمله، ومحاولة تفكيكه إلى مَشاهد منفصلة، بمعنى أن نسلط الضوء على تقنياته السينمائية التي استخدمها، من ارتباك متعمد بالزمن السردي، وتلاعب بالعين السينمائية وتسريع اللقطة ومن ثم إبطائها أو تثبيت الكادر. لاحظنا ذلك من خلال مَشاهد عديدة تخالف توقع المتلقي، وبالتالي تمارس معه نوعًا من المغامرة السينمائية التي تعتمد على مكان الكاميرا ولونية الصورة المعروضة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد الاهتمام بالمؤثر الصوتي، الذي جاء متناسبًا بشكل هائل مع طبيعة المشهد البصري، وكل ذلك لا يتنافى مع التكوين الحكائي لقصة الفيلم.

دعنا نأخذ على سبيل المثال أحد المَشاهد الرئيسة من وسط الفيلم تقريبًا، وهو مشهد مطاردة الناقة للبطلة سارة. يبدأ المشهد بسارة داخل صندوق الكابريس 84 وهناك الارتباك الزمني، الذي يومض من بداية الفيلم، ويبعث على التوتر، المرتبط بموضوع الحكاية، وضرورة عودة الفتاة المتمردة في وقت محدد، وجهل أهلها بمكانها المخيف الذي أوصلت نفسها إليه بشكل مجاني، وأصوات رنين هاتفها، والاعتماد على إضاءة السيارة والهاتف الجوال لرسم المشهد لونيًا، وفي اللحظة نفسها هناك ناقة حاقدة بسبب مصرع صغيرها وآلام مخاضها، ورفيق رحلة غائب، واشتباك ذهني هائل لدى البطلة، بين هلاوسها غير الطبيعية بسبب المواد المخدرة داخل الشاهي، الذي قدمه لها الرفيق الغادر في بداية الرحلة، وبين ذكائها وغريزتها الأنثوية التي تدفعها إلى النجاة الشخصية من خلال التحايل على الظروف وقسوة الطبيعة وحقد الناقة. ذلك المشهد الذي يحيل مجازًا إلى وقع المرأة الاجتماعي الخانق والممرض، لم يأتِ على شكل مبدأ فكري يعتمد على المنطق السردي، بل جاء على شكل استثمار القيمة البصرية للسينما.

وهذا الفعل الفني الواعي بماهية السينما بوصفها فنًا، لا يمكن أن يصدر أبدًا إلا من فنان وصل به الهوس بالسينما إلى مراحل بعيدة، لدرجة أنه يرى الواقعي من خلال الفانتازي، والموضوعي من خلال التركيبي، وهذا تحديدًا هو الصوت السينمائي الذي يوصلنا إلى المعنى بشكل فني مجازي لا بشكل إخباري تقليدي، وقيمة هذا التعاطي مع الفن ناشئة من كونه يعطينا الفرصة لتشكيل وجهة نظر موازية، لا فوقية فيها من قِبَل الفنان الذي قام بهذا العمل التركيبي على المتلقي، وبالتالي يحتم إمكانية تعدد الأبعاد التفاعلية، بين تلقٍّ بسيط يستمتع بالصورة على نحو مجرد، وتلقٍّ عميق يعتمد على مراجعتها وتحليلها وبالتالي مساءلتها، والمخرج من خلال هذا الوعي، الذي انعكس على الشاشة، لا يخسر أيًا من الأفقين من ناحية التلقي.

وبحسب هذا الفهم النقدي للعمل الفني الرائع، الذي قدمه لنا مشعل الجاسر، والموسوم بـ«ناقة»، نكون قد تحققنا من مستوى الهوس السينمائي المحمود، الذي نقَلَنا إلى أفق جديد من الاستمتاع بالسينما المجردة، المنفصلة عن التصنيف التاريخي أو الجغرافي أو القومي، فمادة الفيلم فنية بامتياز، يمكن أن يستمتع بها ويتفاعل معها أي شخص من أي جنسية أو مرجعية مختلفة، وهذا ينبهنا إلى أن المنقذ الحقيقي للحالة السينمائية المحلية، وجواز سفرها الحقيقي، هو الانغماس في الجانب الفني والجمالي، والتركيز عليه كمسطرة لقياس مستوى تفوقنا السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى