يتناول المخرج البرازيلي جواو باولو ميراندا ماريا موضوع العنصرية، ورفض الآخر المختلف، في أول فيلم روائي له بعنوان «منزل الذاكرة Memory House»، الذي صدر في 19 نوفمبر 2020، وعُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثانية والأربعين، ونال مخرجه جائزة مسابقة المخرجين الجدد من مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، وجائزة أفضل تصوير سينمائي من مهرجان ستوكهولم السينمائي. لدى جواو أربعة أفلام قصيرة سابقة، وفي هذا الفيلم الذي يتناول موضوع العنصرية تلغي الحواجز بين الإنسان والحيوان بأسلوب فني رفيع ولغة بصرية ورمزية مدهشة.
وجهان للضحية
يُعرّف التماهي أو التقمُّص بأنه "عملية سيكولوجية يُحاكي من خلالها الفرد، جانبًا أو خاصية أو سمة لدى الآخر، ويتحول بشكل كلي أو جزئي من خلال النموذج الذي يقدمه ذلك الآخر". وهنا يتماهى كريستوفام "أنطونيو بيتانجا" مع البقر في مشهدين: الأول عند قتل بقرة عجوز، لم تعد تدر الحليب، والثاني عند ارتدائه قناع الثور. في مشهد قتل البقرة، تظهر صورتها وهي تسقط أرضًا منعكسة على الزجاج الواقي الذي يرتديه عمال مصنع الحليب على رؤوسهم. هذه المطابقة بين صورة البقرة على وجه كريستوفام وبين كريستوفام نفسه -مع الأثر المؤلم الذي يخلفه قتل البقرة فيه، والذي نراه منعكسًا على انفعالات وجهه- توحي إليه في الحقيقة بمصيره القادم. وكان مدير المصنع قد استدعاه، في أول مشهد، ليُبلغه بالمستجدات التي اضطرته إلى اتخاذ تدابير تقشفية ومنها تخفيض الرواتب وتسريح العمال، وعلى كريستوفام أن يقبل صاغرًا؛ فما من مصنع آخر يقبل أن يوظف عجوزًا أسود البشرة، بتعبير مدير أو مالك المصنع.
طبقات العنصرية
يخبرنا المشهد الأول بموضوع الفيلم: عن النبذ الذي يتعرض له ذوو البشرة السوداء، ممثلين بكريستوفام، وهو مواطن من المناطق النائية البرازيلية، ويعمل في مصنع ألبان في مستعمرة نمساوية سابقة في البرازيل. يشعر كريستوفام بأنه وحيد ومنبوذ بسبب الاختلافات الثقافية والعرقية، وخلال أحداث الفيلم نراه وهو يعاني بصمت من آثار هذه المعاملة. وفي أحد الأيام يكتشف منزلًا مهجورًا مليئًا بأشياء تذكره بأصوله، كما يشير العنوان "منزل الذاكرة" إلى صور النبذ وآثار العنصرية. لا تعطينا قصة الفيلم معلومات مباشرة عن هذا المنزل ولا عن سكانه السابقين، لكن دلالة العنوان واللغة الفنية تُلمحان وتتركان لنا مجالًا لأنْ نفهم بأن هذا المنزل كان يسكنه أناسٌ من ذوي البشرة السمراء، وأن النبذ الممارس ضدهم دفعهم للخيار السهل وهو الرحيل، وهذا ما لم يفعله كريستوفام، فظل صامدًا إزاء ما يلاقيه من كراهية. وأحد المشاهد الدالة على هذا حين يعود كريستوفام للمنزل فيجد عبارة عنصرية مكتوبة على الحائط تقول: "عد إلى ديارك"، فيقوم كريستوفام بمحوها بإزالة طبقة الأسمنت ليكتشف رسمة لراعي بقر يحمل بندقية، في إشارة إلى أن الأطفال البيض الذين كتبوا العبارة على الحائط هم الجيل التالي للذين رسموا اللوحة من قبل.
وجهان للعنف
يستقر كريستوفام تدريجيًا في المنزل، ومع مضي الوقت تبدأ الأشياء في الظهور دون تفسير، وكأن المكان مسكون بالأرواح. يرى كريستوفام نمرًا مفترسًا يهاجمه ليلًا فيطعنه بالحربة، وحين يستيقظ صباحًا يكتشف عند مدخل الباب جثة طفل يرتدي قناعًا على وجهه. هذا التماهي بين النمر في ذهن كريستوفام وجثة الطفل الهدف منه المطابقة بين وحشية البشر والحيوانات المفترسة، والدلالة على أن البشر في تعاملهم مع كريستوفام لا يقلون وحشية عن أي مفترس. وفي مشهد لاحق يفتح كريستوفام خزانة لنرى فيها مجموعة من الأقنعة، بينها قناع الطفل الذي قتله ليلًا دون قصد، ووارى جثته في الحقل، كما وارى من قبل جثة كلبه المفضل بعد أن قتله مجموعة من الأطفال البيض.
ستدرك أن هذه الأقنعة هي لمجموعة من البشر أو الوحوش الذي هاجموه ليلًا وربما كان مصيرهم مشابهًا لمصير الطفل، في إشارة إلى أن العنف المادي الذي أفضى إلى كل هذا هو محصلة للعنف النفسي الذي يمارسه البيض ضد كريستوفام. العنف الذي رأينا منه نموذجًا خفيًا، في الليل، سيظهر ليلعن عن نفسه في وضح النهار من خلال ارتداء كريستوفام لقناع ثور بقرنين، والتجول في الشوارع وعلى المسرح الذي أعلن فيه قادة الجنوب رغبتهم في الاستقلال عن الشمال "الفاسد"، ثم أخيرًا في الحانة حيث يسلب كريستوفام زجاجة جعة من يد رجل شرطة، ومصاصة من رجل آخر، ويحاول احتساءها وقناع الثور مازال على وجهه، لكن الشرطي يبعدها عنه فما يكون من كريستوفام إلا أن يطعنه بالحربة في رقبته ويفر إلى الخارج لنرى الحشود بعد ذلك وهي تجره على الأرض وتبرحه ضربًا وينتهي المشهد بمطالبة الرجال من طفل أن يقتله.
النشاز والتجانس
في الحانة نفسها كان كريستوفام قد شارك في التحضيرات للمظاهرة المطالبِة بالاستقلال وذلك بإحضاره بوقًا، يشبه قرن ثور، مصنوعًا من العاج. وسط أصوات آلات العزف ينفخ كريستوفام في بوقه مُصدرًا صوتًا نشازًا ليُعبر بهذا النشاز عن تناقضه مع حالة التجانس التي تمثله أصوات البيض. وردًا على هذا النشاز تَصدر همهمات تنم على الاستهجان وتعلن رفضها للاختلاف. البوق نفسه الذي أصدر به كريستوفام صوتًا ناشزًا استعمله وهو في المرعى لتقليد صوت بقرة، لكنه أحسن هذه المرة تقليد الصوت ما دفع الأبقار إلى التوقف عن أكل الحشائش ورفع رؤوسها باتجاهه، في إشارة إلى حالة التجانس بينها وبين كريستوفام وإلى وحدة الهم والمصير بين الحيوان والإنسان المستضعف. هنا يتماهى كريستوفام مع الأبقار أيضًا، ويعبر انسجامه مع الأبقار المسالمة عن وحدة مصير وعن ظروف حياة مشتركة، كما يشير إلى أن النشاز الصادر من البوق نفسه، وهو في الحانة، لم يكن سوى صدى أو رد فعل لما يلاقيه هناك من سوء معاملة.
نرى في البقرة العجوز التي قُتلت؛ لأنها لم تعد تدر الحليب، صورة للاستغلال، سنجد لها مثالا في كريستوفام الذي طُرد من عمله بعد حدوث خلل في الآلة التي يشرف عليها في المصنع. الاستغلال نفسه سيلاقيه من امرأة عجوز أعدت له طعامًا ثم طلبت منه في المقابل أن يداعبها جنسيًا، وحين يتوقف تأمره بالاستمرار، بما يشير إلى أن المتعة، والاستعمال، من طرف واحد هي المرأة.
الطريقة التي كان يتعامل بها كريستوفام مع كلبه تعكس جوهره الإنساني المحب للخير، وبها نعرف أن سلوكه تجاه البيض هو رد فعل ناتج عن قهر ونبذ طويلين تعرض لهما، واختيار الأطفال ليكونوا مصدرا للنبذ الاجتماعي تجاه كريستوفام يشير إلى حالة العنصرية المتوارثة عبر الأجيال، وإلى أنها حالة متفاقمة، إذا لم يكف الآباء عن توريثها لأطفالهم. وفي المقابل يشير العنف المضاد من قبل الضحية إلى ضرورة البحث عن حل للخروج من تيه هذه النهاية المفتوحة ودائرة العنصرية والنبذ المغلقة.