مارغريت دوراس: كاتبة ومخرجة مذهلة، ستتعاطف معها كثيرًا في كيفيّة نشأتها وتعلّمها، فهي أديبّة ولديها بعض الروايات، تتحدّث في معظم رواياتها عن حياتها وعلاقة الحب المدمّرة التي عاشتها قبل أن تصبح مخرجة. وبقدر ما هي شاعرية كانت تقول: «إنّه من الممكن إثبات الصورة مرة واحدة وإلى الأبد»، وبالفعل طبقت هذا الأسلوب في أعمالها. متمهلة في حركتها، وبطيئة في سيرها في أرجاء المكان. مارغريت دوراس تحب إبطاء وبساطة حركة الكاميرا، ومن خلال هذه الحركة تنتقل من الأدب إلى السينما. أيضًا، تم عرض الحركة الأسلوبيّة في فيلمها «الموسيقى الهندية» (India Song 1975).
موجز عن حياتها:
توفي والدها مبكرًا وبقيت هي ووالدتها وأخوها وأختها. ولاحقًا ارتبطت بعلاقة مع شاب صيني أحبته بشدة ولم تكمل وقتها السابعة عشر من عمرها، تخلّلت علاقتها مع إخوتها مشاكل عديدة والمعاملة القاسية من عائلتها. تلك الضغوط دفعتها للسفر إلى باريس وهي في سن السابعة عشرة، حيث كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها، وهناك انضمت إلى المقاومة الفرنسية بقيادة فرانسوا ميتران، الرئيس الفرنسي ضد الاحتلال النازي الألماني، ثم انضمت إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، على الرغم من أنها لم تقرأ ولا حتى كتابًا واحدًا عن الشيوعية. إلا أن انضمامها للحزب نابع من تعاطفها الجارف مع الفقراء والمهمشين، وتعبيرًا عن المشاعر التي بداخلها والتي تجلّت في كتاباتها فيما بعد، وبسبب اختلاف أفكارها مع توجهات الحزب طُردت منه. وكانت بدايات كتاباتها رواية "السيد في مواجهة الباسيفيك" عام 1950. درست مارغريت دوراس الرياضيات في عمر صغير ثم تركت الرياضيات وبدأت تدرس العلوم السياسية والقانون. عُرفت على نطاق أوسع عبر سيناريو فيلم «هيروشيما حبيبتي» (Hiroshima Mon amour 1959) من إخراج آلان رينيه" وأيضًا «الموسيقى الهندية» 1975, من إخراجها" بعد ذلك حدث نجاح ساحق لرواية «العاشق» الصادرة عام 1984 ونالت جائزة غونكور الرفيعة ممّا جعلها واحدة من أكثر الروائيين الفرنسيين المقروئين.
فيلم الموسيقى الهندية 1975:
الرائعة "دلفين سيرينج" بدور آن ماري سترتر، هي زوجة دبلوماسي فرنسي تعيش في ثلاثينيات القرن الماضي. تضيع من الملل والرهبة الوجودية في سفارة متداعية. تصبح مع العديد من علاقات الحب غير المشروعة مع المسؤولين الحكوميين، والشبان الذين يجدونها موضع رغبة وسحر. تتطور هذه العلاقات أحيانًا إلى شخصيات غير مرئية وغير قابلة للتحديد "وأحيانًا لا أحد/أصوات خالدة". تشكل هذه الأصوات المختلفة شبكة شاعريّة من الكلمات والعبارات. إنديا سونغ هي ليست أغنية هندية، بل أغنية فرنسية لموسيقى الجاز الأمريكية البطيئة. يتم تشغيل الأغنية على نحو متكرر، مما يملأ السكون القمعي لشخصيات الفيلم، بينما يمنح حركاتهم البطيئة القليلة نفس الإيقاع الموسيقي المنهجي. وكما ذكرت دوراس، أنها اختارت قصر شاتو روتشيلد في بولوني، والذي رأته أثناء المشي وأثار إعجابها. كانت عائلة روتشيلد قد تخلت عن المبنى بعد الحرب العالمية الثانية وبدأت في الانهيار. تم تصوير مشاهد أخرى في جراند تريانون في فرساي، وفي شقتين في باريس كانتا على وشك الهدم.
تجوب الكاميرا أسفل السلالم والحدائق المورقة بينما تنجرف من مكان إلى آخر، وهنا يتجسّد الناس أخيرًا، ويتضخّمون في عباءات الثلاثينيّات والبدلات الرسميّة. تظهر آن ماري بفستان أحمر متلألئ، تتناوب مع مجموعة من العارضين في ساحة القصر/السفارة. قصر مارغريت دوراس: تغمره الحرارة والوباء، الأثاث قديم والزهور ذابلة، الجدران مطليّة باللون الأخضر، وآثار الدخان والبخور في كلّ غرفة، كما تشير دوراس وفي كلّ اتّجاه إلى الضيّقة وصعوبة التنفّس. عندما تنجرف الكاميرا أيضًا فوق ممتلكات آن ماري، ترى شعرًا مستعارًا لها، مجوهراتها، البيانو الكبير الخاص بها، ثريّات، ساعة إمبراطوريّة، وملعب التنس غير المستخدم في مكان الإقامة، ودرّاجة آن ماري الحمراء، ولكنها تشعر بأن كل شيء حولها فارغ. تضيء أضواء الثريّات لتدرك أنها تمشي لساعات طويلة داخل دائرة بلا جدران وتدرك أنها دائمًا في الغرفة نفسها مع الأشخاص أنفسهم الّذين يتحدّثون عن عواطف خفيّة وأوقات يصعب حلّها. تتناوب في الرقص مع رجال يائسين ومختلفين. خطواتها محسوبة ومحزنة، ثوبها يكشف عن صدرها، تتلاشى في أفكارها وهي جالسة على الأريكة المخمليّة. وتمتدّ اللحظات القصيرة والمعتادة إلى أطول صعوبة.
مارغريت دوراس و دلفين سيرينج
نحن أمام نصّ أدبيّ بامتياز، مارغريت دوراس تعتمد أساسًا على نصوصها. الفيلم ليس مجرّد عمل سينمائيّ فقط، هو أيضًا مرتبط بحياة المخرجة مارغريت دوراس. وسأوضّح لماذا هو ذو طابع مختلف. يكون الفيلم في معظم أوقاته مربكًا ومنوّمًا مغناطيسيًّا عن عمد وبطيئا جدًّا في إيقاعه. "لذلك يجب أن تحتسي القهوة أثناء مشاهدة هذا الفيلم (فيس يضحك)" لأنّ الفيلم غالبًا يحتفظ بلقطات فرديّة لفترة طويلة. في حين أنّ كل الأفلام على هذا الكوكب تضع إمّا تركيزًا متساويًا على الرؤية والصوت أو تدفع المرئيّات فقط. إنّما في هذا الفيلم حالة نادرة، حيث يكون الصوت هو العنصر الأساسيّ، وهذا لا يعني عدم وجود مشاهد، بل على العكس هناك قصّة صوتيّة ومرئيّة، والأساس هو أن تسمع أو تقرأ كما لو أنّك تقرأ رواية.
كما ذكرت، يبرز الفيلم الترتيب الصوتيّ والمرئيّ بشكل مثاليّ، الموسيقى أداءها مهيب. أمّا عن "النطق": عندما تكون هناك أصوات، فإنّها تأتي من خارج الشاشة؛ بمعنى، شفاه الممثّلين لا تتحرّك أبدًا، والأصوات تكاد ألا تفرّق بينها، إنّها استراتيجية تخلق صراعًا فطريًّا بين ما يظهر وما لا يظهر. في الفيلم طورت دوراس أسلوبها الخاص للتعبير عن قصة السيدة كما هي في ذاكرتها، سألها أحدهم لماذا كتم الصوت؟ قالت: «بدا لي أنها طريقة مناسبة لتفكيري، ووجدتها مرضية لي. كان عليّ أن أجعل الممثّلين يسجّلون الأصوات أوّلًا والسيّدة/دلفين سيرينج لم تحتاج أن تستخدم ذاكرتها لتمثل، كل ما تحتاج إليه هو أن تسمع، وبذلك أصبح لدينا نوع من التزامن بين حضور وغياب الممثل، تفقد الصورة سلطتها وتصبح الكلمات المقروءة أكثر أهمية، وبهذا لا يصبح الحوار من الآن فصاعدًا بين امرأة ورجل، ولكن بدلًا من ذلك بين جوهرهما». بمعنى حولت مارغريت دوراس فيلم إنديا سونغ إلى فيلم يهيمن عليه أسلوبها الخاص وحياتها بشكل عام. الفيلم أشبه بأشباح ذواتنا الماضية الّتي لا نريد أن ننظر إليها من الآن فصاعدًا لكنها ما زالت موجودة. بالنسبة للمرئيات: فيلم يسلط الضوء على الرتابة بشكل تام، تأتيك رغبة بتأمل تفاصيل شاعرية وكأنها فنون عميقة تنقل جميع حواسك إلى الانشراح على نحو ثابت. ضع العناصر المرئية في هذا الفيلم بجانب أفضل اللوحات الفنية في العالم وسيكون عليك من الصعب معرفة أي منها تم رسمها أو تصويرها.
وفي الختام، أنا أقدر الأفلام التي يستوحيها المخرج من ماضيه ومن المؤكد أن «إنديا سونغ» ليس فيلمًا سيقدره الجميع بسبب الحركة الأسلوبية ولكنه مفضّل لدي. "أحببت سينما ونهج مارغريت دوراس بكل ميزاتها المبتكرة".