فيلم «هذه ليلتي»: الحبس في جهاز التسخين

حصد فيلم «هذه ليلتي» (2024) جائزة أحسن سيناريو في الدورة السادسة لمهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي. ويخوضُ الفيلم أولى عروضه في المهرجانات العربيَّة انطلاقًا من مهرجان الدار البيضاء، بقصَّة وإخراج وإنتاج وبطولة الفنَّانة السورية جفرا يونس، ويشاركها البطولة الفنان حسن الصالح، بينما شاركها كفاح زيني في كتابة السيناريو.

يحكي الفيلم ساعاتٍ رتيبةً تعيشها الفتاة ربى مع والدها، في سردٍ بصريٍّ أقرب إلى الديودراما المسرحيَّة، معتمدًا على تفاعلٍ بين بطلَين منسَجمين مع بعضهما البعض من خلال الحوار والمشاهد. تبدو ملامحُ التماهي العميق للبطلة مع دورها واضحة، وذلكَ من خلال تبنِّيها الكامل للفكرة ونضالها حتى وصولها إلى الشاشة الكبيرة. وقد حظيَ الفيلم بتلقٍّ إيجابيٍّ من الجمهور، الذي تفاعل مع أداء الثنائي وتجسيدهما لتحوُّلات الشخصيَّتين النفسيَّة، حيث تدور الأحداث في فضاءٍ مغلقٍ يعبِّرُ عن الوحدة التي يعيشها بطلا الفيلم، فعلى الرغم من ثنائيَّتهما التي يبصِرها المشاهد، إلا أنَّ العزلة تعلي جدارها بينهما!

هذه العزلة جعلت من هذه الليلة لحظةً تستحقُّ التقييد البصري، وذلك بعد كسرِ حاجز الصمت ومُباشرة الحوار بين الأب وابنته. تبدأ أحداث الفيلم من لحظة رؤية ربى لسلاحِ والدها وبجواره طلقتان، لتبدأ بعدها حلقةٌ من التدريب على استخدام السلاح، فتُطلق رصاصة أولى معنوية بقولها: «أنا اليوم بدي أنتحر!»، إيذانًا ببدءِ عجلة الحوار والتوتُّر الدرامي. 

الحرص على الموت

«احرص على الموت توهَب لك الحياة»؛ مقولةٌ لأبي بكر الصديق قالها لخالد بن الوليد رضي الله عنهما. وعلى الرغم من اختلاف السياق، فإنَّ سعي ربى نحو الموت بعد قتامة حياتها وردود فعل والدها غير المفهومة، يكشف عن معركة وجودية تخوضها. فهي عالقةٌ بين أبٍ بدأت للتو تكتشفه، وأمٍّ رحلت وتركتها تصارع حياةً لا طاقة لها بها. كل هذا جعلها تقرِّرُ ألَّا تكونَ الصغيرةَ في نظر والدها، وأن تصل إلى النهاية المحتومة مبكِّرًا بدل الانتظار في هذه البقعة السوداء.

عالج الفيلم موضوع العزلة منذ لحظاته الأولى، حيث افتُتحت اللقطة بجهاز التسخين، لينتقل الكادر مباشرة إلى وجه ربى أثناء تنظيفها له، في إيحاءٍ بصريٍّ مكثَّفٍ عن البرودة والفراغ. عزَّز ذلك استخدام ألوان باهتةٍ وجافَّةٍ في ديكور شقَّةٍ تبدو طبيعيَّةً، لكنَّها متقشِّفة الأثاث وتنضح بالخواء. وتعمَّق هذا الإحساس من خلال مشهد نشر الأب للخبز وتقطيعه إلى أرباع، حيث يتناقص عدد القطع تدريجيًّا، ويُبقي على القليل منها، في دلالةٍ رمزيَّةٍ على انحسار الزمن واقترابه من لحظة اتخاذ ربى قرار الانتحار، فالخبز هنا رمزٌ للحياة، والحياة كما يراها الفيلم يمكن أن تتجزَّأ، أن تجف، أن تتيبَّس، وربما... أن تتعفَّن.

هذا التداعي يقودنا لملاحقة "ربى" حتى اللحظة الأخيرة، فمنذ عتبة الفيلم الأولى المتمثلة في العنوان "هذه ليلتي" (المقتبس من عنوان أغنيةٍ للسيَّدة أم كلثوم، وقد جاء ذكر الأغنية في حوارٍ بين الأب وابنته مذكِّرًا بكاتبها الشاعر اللبناني جورج جرداق) نُقادُ إلى المصير المحتوم، حيث لهو الحياة وسخريتها يحيطان بهما.

احتلَّت الأغاني حيِّزًا دلاليًّا في الفيلم من خلال استذكار لحظات البهجة الماضية، يوم كان الأب يعودُ مترنِّمًا ثملًا، هاربًا من الحياة البائسة مع والدتها التي لا تعرف مدى حبِّه لها أو نفوره منها، لا سيَّما وأن وجه هذه البنت يذكِّره بها على الدوام. ولكن لا مناص من الاستسلام والبقاء معها، ولو ببناء عازلٍ من الصمت فيما بينهما. هذا ما يقودنا إلى حالة الاستسلام لقرارها بالانتحار دون اتخاذ أيِّ تدابير من قبله، فهل يعرف الوالد ما لا نعرفه؟ ربما.

«شي تاني مش رح قولو»

حضرت في الفيلم أغنيةٌ ذات طابعٍ عبثيٍّ لاستحضار لحظات السعادة في الأعياد، حين كان الأب يردِّدُ أغنيةً موجَّهة للكبار، تنطوي على إيحاءاتٍ قد يعرفها الجميع، ولكن من غير المُباح النطق بها. تحكي الأغنية عن علاقة بين ولدٍ وبنت يلعبان خفيةً عن أعين الناس، وتقول في أحدِ مقاطعها: «عم يلعبها في الماي وشي تاني مش رح قولو». وعند اقتراب الأغنية من اللحظة الحاسمة/الفاضحة، يتوقَّف الأب عن النطق، ويتكرَّرُ ذلك في كلِّ مشهدٍ من مشاهد الأغنية.

على هذا النحو كان الفيلم أيضًا، وذلك حين اقترب من لحظته الحاسمة بدخول ربى إلى الغرفة وسلاح والدها بيدها؛ فكما أشار الأب في الأغنية إلى أمرٍ لا يُقال، يجدُ المشاهد نفسه على مسافة الصفر من لحظة انتحار ربى. ومع ذلك يجلس الأب على أريكته، كما لو كان موقنًا بالنهاية وعودتها برصاصةٍ أخيرة. فهل هذه هي المحاولة الأولى لربى؟ وهل ستكون الأخيرة؟ أم أنَّ للرصاصة الأخيرة كلمةٌ أخرى؟ كلُّ هذه الأسئلة تضعنا في تداعٍ متَّصل مع الفيلم، الذي انتصر بالحوار، وجعل من التقدير لهذه الجدليَّات بين الموت والحياة مدخلًا للتفكير في ما يستحقُّ أن نعيش لأجله، أو أن نموتَ في سبيله. 

في المنتصف

لم تخلُ حياة الأب من متعة، وهو العسكريُّ الصارم الذي ربَّما نقل صرامته إلى بيته. كان بحاجةٍ إلى شيءٍ من التسلية لم يجدْه في المنزل، فلجأ إلى شرب الخمر هروبًا من همومه. وقد قال لابنته في الفيلم: «كان لازم الواحد يظل شربان حتى يستحمل». وهكذا انقادا بكأسين من الشراب، ولم تُكمل ربى أحدهما، إذ نفرت من الجلوس مع والدها، حتى على طاولة يُفترض أن تفتح بابًا لمزيد من الاحتمالات أو تُثنيها عن قرارها. لكنَّها لم تجد فيها وسيلةً للهروب، بل استسلمت لضعف أبيها الذي بدا خلف ملامحه الصارمة أضعفَ من أن يملك قراره، بخلاف والدتها التي كانت تقاسي في لحظاتها الأخيرة. ومن هنا نفهم ربى عبر علاقتها بأمها، وعلاقتها بمحيطها الذي كان يعجُّ بمن يسعى إلى إسعادِها من أجل كسب رضا أبيها، بينما الأب لم يُسعد والدتها... وربما لم يُسعد نفسه أيضًا. 

ما بعد النكسة

لم يترك الفيلم إشارة واضحة إلى نهايةٍ حاسمةٍ لعلاقةِ ربى بوالدها، مع الإبقاء على قرار الانتحار في يدها ما دامت الرصاصة في جيبها. غير أنَّ وجود الحوار يمنحُ بصيصًا من الأمل، وذلك بأن تقول ربى: «هذه ليلتي»، وأن تحمل الأيام في راحتيها، فقد كانت هذه الأغنية هي أول ما قدَّمته السيدة أم كلثوم بعد نكسة عام 1967، وهي كذلك أوَّل تعاونٍ يجمعها بجورج جرداق، إذ طلبت في لقاء عابرٍ أن تغنِّي من كلماته، فأجابها: «هذه ليلتي وحلم حياتي أن تغنِّي من كلماتي كوكب الشرق أم كلثوم»، فطلبت منه أن تكون هذه العبارة مطلعًا للأغنية.

هكذا كانت بداية أغنيةٍ خالدة، وربَّما بداية ليلةٍ سعيدةٍ لربى، وانطلاقةٍ للفنانة جفرا يونس بما طرحته من جرأة، وخروجها إلى الفضاء السينمائي الرحب بكلِّ ما يحمله من إمكانيَّاتٍ وأدواتٍ فنيَّة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى