فيلم «باربي»: حسنًا، وماذا عن «فُلة»؟

October 6, 2023

السينما بقى لونها بمبي.. لكأنه ليس أكثر من رسالة أيديولوجية!

بالرغم من أن تعريفه الأول هو فيلم، برغم إيراداته العالية، والتي لا تهمني بذاتها بقدر ما يتعلق الأمر بإعادته لأجواء السينما الأصيلة -أعني من ذهاب الناس للصالات في مجموعات وارتداء أزياء محددة لهذه المناسبة.. إلخ- لقد أعاد «باربي»، كفيلم، إلى مشوار السينما احتفاليّته. أي نعم، و«أوبنهايمر» فعل ذلك أيضًا، وإن بدرجة أقل، وصحيح كذلك أن الأمر عائد بدرجة كبيرة إلى الحملة التسويقية الضخمة، إلا أنه، وفي النهاية، قد حقق ما يصبو إليه: أن يكون فيلم سينما بامتياز. لكن هذا في كفة، ويقع في الكفة الأخرى عمل «غريتا غيروِغ» السينمائي. أتحدّث هنا بالذات عن الثلث الأول من الفيلم، عن الجزء الخاص بعالم الباربيّات. ثمة كثيرٌ من الاختيارات الفنية التي تبدو شديدة السهولة، للوهلة الأولى، إلا أنها شديدة التعقيد من النواحي التقنية، وبالغة الذكاء من الجهة الجمالية والاتساق الفني لكامل العمل. 

يبدأ الفيلم باقتباس مباشر من فيلم «كيوبريك» الأشهر «2001 أوديسة فضائية»، في عملية تقابل ما بين البداية الكبرى للبشرية في تطورها الأول، وبداية عالم الدمى الكبرى من خلال «باربي». إن اقتباسًا كهذا في سياق فيلم مثل «باربي» -لا يُتوقّع منه لا العمق ولا الجدية في التعاطي- يكشف عن ذكاء فني عالٍ، خصوصًا أن مخرجة العمل ليست ذات باع طويل في الصناعة. وهو، في المستوى الرمزي، مقابلة ذكية من ناحية انتهاء حقبة طويلة من تاريخ الدمى البسيطة والتي لا تعطي أكثر من التسلية، وابتداء حقبة جديدة مع «باربي» التي تهب التسلية جنبًا إلى جنب مع المثال العالي والإلهام الأنثوي. ثم ندخل بعد هذا إلى عالم الباربيات المثالي، وأعني بعالم مثالي معنيين اثنين، فالمعنى الأول كما هو معروف، أي عالم خالٍ من كل الشوائب، عالم «باربي» حيث لا حزن ولا نكد ولا تجاعيد ولا مأكل ولا مشرب. هنا السعادة التامة والوئام ما بين معشر الباربيات وثُلّة الكينز*. أما المعنى الثاني فهو معنى تختص به الفلسفة حيث ابتدعه «أفلاطون»: عالم المثل الأعلى، والذي يمثله في فيلم «باربي» عالمها المثالي، عالم -في الفلسفة- اشتغل على تهديمه فلاسفة كُثُر منذ «أرسطو» -التلميذ النجيب لـ«أفلاطون»- إلى عديد من فلاسفة الحداثة وما بعدها، إلا أنه عالم تقوم «غيروِغ» بإثباته فنيًّا هنا وتؤرّخ بشكل ما إلى أنه قد وُجِد بالفعل، إنما ليس على أيدي الفلاسفة، بل الرأسماليين!

في هذا ذكاء فني -لا نستطيع جحد هذا- وفيه ما فيه من تسليع ورسملة. فلنكن واقعيين قليلًا: ماذا سننتظر من فيلم هوليوودي؟ بالنسبة لي، هذا لا ينفي ذاك، بل إنه لَمثارُ سخرية، بصراحة. ولنعد إلى الصنعة والاختيار الإخراجي في الفيلم. لقد قامت المخرجة ببعض الاختيارات المُلفتة للنظر، مثل اختيارها أن تمتثل لكافة قوانين الفيزياء الباربية -إن صح القول، مع غمزة لـ«أوبنهايمر»- في حركات الشخصيات الجسدية، وفي الإيحاء بالأفعال؛ فباربي حين تستحم تدخل تحت الدوش وتستحم بلا ماء، وتجلس على طاولة الإفطار تتناول طعامها بلا طعام أو شراب، بل وتهبط من طابق منزلها الأعلى إلى الشارع بما يشبه الطيران لا عبر السلالم. كل هذه التفاصيل الصغيرة والبسيطة تبدو سهلة، لكنها في داخل الصنعة أكثر صعوبة، ونستطيع اعتبارها طريقًا أطول فنيًّا كان بالإمكان اختصارها باختيارات أسهل على المخرجة كما صار يستسهل غالبية المخرجين مؤخرًا. الفاتن في هذا الاختيار أنه ثمة ما لا يظهر ويظهر، في آن معًا، أنه ثمة يد خفيّة لطفلة، أو عدة أطفال، يحرّكون كامل المشاهد ويلعبون.

كلما تقدمنا أكثر مع الفيلم صار مؤمركًا أكثرَ فأكثر فنيًّا، من ناحية الحبكة وترابط الشخصيات والكليشيهات الهولوودية، وهلم جرا، ومن ناحية الأيديولوجيا التي تعيد صيغةً نسويةً1 تختلف حولها الآراء من النظر إليها بوصفها تطرفًا على عالم الواقع الذكوري (حقًّا؟!) إلى النظر إليها كنوع من الجُبن والمُسالمة مع هذا الواقع (تبًّا!). والحق أن هذه جهة لا تهمني كثيرًا، أو في الأقل لا أهتم بإبداء رأيي فيها لأن كثيرًا من الآراء أُبديت حولها عبر مقالات ومراجعات وغيره. ما أهتم له حقًّا هو النظر إلى العمل بوصفه عملًا فنيًّا بالدرجة الأساس ثم بعد ذلك فلتأت الأيديولوجيا، لا بأس. إن فيلم «باربي»، حتى في تهلهله الفني مع تقدمه، يقدّم تجربةً سينمائية ثرية، إلى حدًّ في أسوء الحالات، والتناول الأيديولوجي له كمقام وحيد لا يقدّم ويؤخر من التذوق السينمائي.   

الغريب أن القوم -حينما يتعلق الأمر بالمضامين والمعاني الداخلية للعمل الفني، بعيدًا عن الشكل وجمالياته- يتقبلون، بل ويدافعون، بشراسة أحيانًا، عن المخرج في اختياره الفني بالتعاطف واستمالة عواطف المُشاهد لمصلحة شخصية تاريخية يُنظر إليها -في أحسن الظنون- بوصفها تمثّل الغباء السياسي في التعاطي مع العِلم، أو بوصفها -إن أسأنا الظن- كمجرم حرب، بالرغم من أن الأمر يتعلق في هذه الحالة بكارثة بشرية ومجزرة تاريخية، بدم وميتات وأمراض وراثية ما زالت مستمرة حتى اليوم، بمقابل حالة تتعلّق بأفكار وأيديولوجيات، بمجال من الأخذ والرد، أي مجال من الأوهام التي مهما أثرت على الواقع فإنها تثير من الضحك واستمرار المهزلة البشرية أكثر مما تثير من الأسى حالة الكارثة التاريخية، غير أن ما يبدو من طريقتَيْ التعاطي أن الأمر يتعلّق بمُخرج ومُخرجة فعلًا، وإن صح هذا، ففيلم «باربي» مُصيبٌ، إذن!

في النهاية، أحبّذ أن أشير إلى أنني لست أنا من وضع المقارنة منذ البداية، بل الرأسمالية -والتي هي اللب والمَطعن الأرأس في فيلم «باربي» لو أردنا القدح- ثم اتبعتموها. وأنا، في الحقيقة، شخص بسيط أومن بالموت مع الجماعة، وإن أردتموها أيديولوجيا! فحسنًا، ماذا عن فُلة؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى