هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين السينما وعلم النفس تجسَّد في العديد من الأعمال الفنيَّة، أحيانًا من خلال شخصيَّاتٍ تظهر في الأفلام بوصفها انعكاسًا حقيقيًّا لحالاتٍ مرضيَّةٍ في الواقع، وفي أحايين كثيرةٍ أخرى كأعمالٍ فنيَّةٍ تبالغُ في رسم الشخصيَّة المضطربة نفسيًّا، وتسقِطُ نظريات علم النفس بشكلٍ مجافٍ للواقع تُضَخَّم من خلاله الأعراض المرضيَّة التي لا تنطبق بالضرورة على حالاتٍ سريريَّةٍ مماثِلة.
ثمَّة إنتاجٌ ضخمٌ للأعمال التي تهتمُّ بالدراما النفسيَّة يجمعُ بين الغثِّ والسمين، ولأنَّ حياتَنا قصيرة ولا يسعنا متابعة كلِّ ما أُنتِجَ ويُنتَج؛ فسأحدِّثكم عن أحد الأعمال التي أبدعتها السينما وكسرت به النمطَ السائد الذي تُقدَّم به مشاكلُنا النفسيَّة.
قال أحد علماء النفس: «الحب هو إعطاء شيء لا تملكه لشخص لا يريده». يتردَّد صدى هذه العبارة في المواضيع المتعلِّقة بالحب، وبخيبة الأمل الناتجة عن تقديمِ شيءٍ لشخصٍ لا يُريده، كما في مسلسل الدراما النفسيَّة الفريد في تاريخ السينما «في المعالجة» (In Treatment - 2008-2010) الذي أنتجته شبكة HBO وأخرجه رودريغو غارسيا. تدور أحداث «في المعالجة»، والذي عُرِض على مدار ثلاثة مواسم، حول جلسات التحليل النفسي التي يجريها المعالج د. بول ويستون (غابرييل بيرن). تُركز كلُّ حلقةٍ على جلسةٍ معيَّنةٍ من جلسات بول مع مرضاه على مدار الأسبوع. كانت السلسلة تُعرَض في الأصل خمس ليالٍ في الأسبوع على HBO، من الاثنين إلى الجمعة، بمجموعِ ثلاثةٍ وأربعين حلقة في الموسم الأول. في البداية نُشاهد بول في جلساته مع مرضاه، ثم عادةً ما نراه، في حلقة يوم الجمعة، يمارسُ نوعًا من الإشراف أو ما يمكن وصفه بالتحليل الرقابي، إن صحَّ التعبير.
لن أتحدَّث عن كلِّ التحوُّلات والتطوُّرات التي تأخذُها حالات بول، ولكن يمكننا القول إنَّ جميع المواسم الثلاثة تستحقُّ المشاهدة، سواءً كان الشخص مبتدئًا في التحليل أو ممارسًا ذا خبرة، أو هاوٍ تشدُّه الدراما النفسيَّة. تدور أحداث الموسم الأول في مكتب بول ومنزله في بالتيمور - ماريلاند، ويأتي التركيز على مرضى بول الذين يؤدِّي أدوارهم ممثِّلون وممثِّلات مبدعون وحائزون على جوائز عديدة، مثل بلير أندروود (أليكس، طيَّارٌ بحريٌّ أمريكي) وميا واسيكوسكا (صوفي، لاعبة جمبازٍ مراهقة)، إلى جانب آخرين، ويضع كلٌّ منهم مطالبَه على عاتق بول، مطالبُ يتأرجحُ بين تلبيتها وإحباطها. يُشكِّل هذا التأرجح، وهؤلاء المرضى أنفسهم والتوتُّر الذي يسببونه في كلٍّ من مكتبه ومنزله، النقطةَ المحوريَّة الأبرز في الموسمِ الأول.
غالبًا ما يذهبُ المرضى لأطبائِهم النفسيِّين ويخفون جذرَ المشكلة التي يبحثون لها عن حل، يحومون حولها ولا يفصحون عنها بشكلٍ واضح، ثمَّ يطالبون المعالِج بحلولٍ جاهزة لمشاكلهم. يجسِّدُ كلٌّ من جايك (جوش تشارلز) وزوجته آيمي (إيمبث ديفيدتز) هذا النوع من العلاقات. هنا يتدخَّل بول ويقدِّمُ إيجازًا رائعًا عن دوره: «الطب النفس لا يقدِّمُ إجاباتٍ على أسئلتك، بل يوجِّهكَ لتفهمَ مشاعرك الحقيقيَّة، ثم تجيبُ عن أسئلتك بنفسك»، قد يبدو هذا التصريح مبتذلًا وواضحًا، إلا أنَّ معظم الناس لا يملكون تصوُّرًا صحيحًا عن العلاج وتغيب عن أذهانهم هذه المعرفة. أحيانًا تخرجُ من جلسة العلاج وأنت تشعرُ بأسوأ ممَّا كنتَ عليه عند دخولك، وهذا لا يعني أنَّ المعالج لم يقم بعمله، بل هو دليلٌ وانعكاسٌ لطبقاتٍ متراتبةٍ من المشاعر والتعقيدات التي تستدعي تفكيكها قبل إيجاد الأجوبة.
يُعتبر مسلسل «في المعالجة» واحدًا من أكثر المسلسلات واقعيَّةً عن التحليل النفسي التي يمكنُ أن تشاهدها، خصوصًا في مجال التحوُّل العاطفي أو "التحويل" كما يسميه العلاج النفسي. نرى هذا التحوُّل حين يزور بول مشرفته التحليليَّة السابقة، د. جينا تول (ديان ويست)، للحديث عن مشاكله وبعض مشاكل مرضاه بسبب عدم قدرته على إعطائهم ما لا يملكه. ويمكن القول إنَّ بول يعملُ من خلال عدسةِ تحليلٍ نفسيٍّ أكثر تفاعليَّة، حتى أنَّ جينا تشيرُ في وقت مبكِّرٍ إلى أصدقائه من نيويورك، بشكل خاص إلى الرائد في التحليل النفسي جاي غرينبرغ، بالإضافة إلى نهج بول الأكثر ذكاءً في علاج مرضاه.
الطلب الذي يُلحُّ عليه العديد من مرضى بول هو الحب، خصوصًا لورا (ميلسا جورج)، وهو طلبٌ يجدُ بول صعوبةً كبيرةً في رفضه. من هنا نفهم لماذا كتبت جينا في رسالة التوصية التي، رغم طابعها المديحي، عبَّرت فيها عن تحفُّظاتها بشأن استعداد بول، بل وحتى حماسه، للاستجابة لمطالب مرضاه العاطفية (إذ غادر بول المعهد بشكل مفاجئ بعد هذا الحادث، على الأرجح ليواصل حياته في مكان آخر ويبدأ ممارسته الخاصة).
يستمرُّ العرض وتظلُّ علاقة بول وجينا بلا ماهيَّة، وغير محدَّدةٍ بشكلٍ دقيق طوال الموسم. هل يبحثُ عن صديق؟ أم يذهب إلى شخصٍ يثق به؟ أم إلى مرشد؟ أم يستسلم لهذا الشعور بالحاجة الملحة إلى علاجٍ نفسي؟ منذ اللحظة التي يأتي فيها إليها طالبًا المعرفة التي يعتقد أنَّه لا يمتلكها، تلعب جينا دور محلِّلٍ نفسي لبول، وتعمل على إحباط مطالبه. هنا نجدُ أن الحالات التي يقدِّمُها بول لجينا تتعلَّقُ بالامتناع، وما يشعر به من أخطاءٍ خاصَّةٍ به في العلاج، يبدأ أحيانا في تحليل بعض منها، لكنه لا يرغب في تطبيق ما تعلَّمه خلال دراسته، مما يدلُّ على الرغبة القويَّة لديه في عدم المعرفة. الجدير بالذكر أنَّ منهج جينا النفسي يمثِّلُ قراءةً أكثر تقليديَّة لفرويد، في حين أنَّ بول أكثر تنوُّعًا، ويُفتَرض أنَّه أكثر حداثة؛ ومع ذلك يسعى إلى نصيحة جينا الأكثر تقليديَّةً وتقيُّدًا بمنهج فرويد لحلِّ مشاكله الخاصَّة ومشاكل حالات مرضاه. هنا يكمن أحد الأسئلة الكبيرة التي تواجه التحليل النفسي وعلاجات التحليل النفسي اليوم: هل يمكنك؟ هل يجبُ عليك تلبية طلبِ المريض للحب، للعلاقة وللمعنى؟ بالنسبة للمحللين النفسيين الذين يعارضون التحليل النفسي لفرويد، وكذلك القيود المهنيَّة الصارمة، فالجواب هو لا. أمَّا بالنسبة للعديد من المدارس الأخرى من الفكر الفرويدي، فإن السؤال يبقى مفتوحًا.
يقول أحد علماء النفس: «أن تحبَّ يعني، في جوهره، أن تتمنى أن تُحب». ومن خلال حديث بول مع جينا، يتمكن من إدراك أنَّه، في تلبيته لمطالب مرضاه وصعوبة عدم الاستجابة لهذا الطلب، تكمن نواة أعراضه التي لم تُحلل بعد، وأنَّ التصرف بناءً على هذا الطلب مع أيٍّ من مرضاه لن يكون متعلقًا بعلاجهم الخاص، بل سيكون متعلقًا برغباته وأوهامه الخاصَّة. لكننا نجده يختار الاستجابة لبعض المطالب ويحبط الأخرى، وهذا التناقض يثبت أنه مُكلِّف، لكلٍّ من بول ومرضاه.
من المفارقات الغريبة لبول أنَّه، وعلى الرغم من النكسات الشخصيَّة والسريريَّة، يستمر في الذهاب إلى جينا والحديث معها طوال الموسم الثاني، وذلك للتعامل مع الأحداث التي تستمرُّ في مطاردته. وكما قال فرويد يومًا عن التحليل النفسي «بأنَّه مهنةٌ مستحيلة»، سنُدرك أن هذا الاستنتاج يصحُّ بشكلٍ كبيرٍ ويتطابق مع هذه الاستحالة، خاصَّةً عند مشاهدة صراعات بول طوال الموسمين الأولين من «في المعالجة».
في الموسم الثالث يعود إلى علاجه الخاص بجديَّةٍ مع معالجةٍ أصغر سنًّا وهي أديل (أيمي رايان). يستمرُّ في العمل على أعراضه الخاصة، لكنَّ الأهم من ذلك هو أنَّه يبدأ في التشكيك في كلِّ ما يفعله، أو ما قام به كمعالج. ربَّما مردُّ هذا التشكيك إلى التأثير الحقيقي للتحليل النفسي، وبالأخص عندما يبدأ الطبيب في وضع نفسه موضع تساؤل، وربَّما، أخيرًا وبخجل، يستمع إلى رغبته كما يفعل بول.
يقدِّمُ «في المعالجة»، لكلٍّ من المحللين النفسيِّين والمشاهدين العاديين، سلسلةً من المشاهد السريريَّة المتميِّزة التي نختبر أحد أعراضها في أنفسنا، لتكون بذلك مكاشفةً نفسيَّةً تُعرِّي كلَّ ما نحاول إخفائه عن قصدٍ أو عن غير قصد. يقول أحد الفلاسفة: «إنَّ الشيء الوحيد الذي نقوم به في الخطاب التحليلي هو التحدث عن الحب» وهذا بالفعل ما نشاهده في المسلسل، بول ومرضاه وجينا، جميعهم معنيون تمامًا بفكرة الحب، وسوء الفهم الجميل الذي ينتج عن ذلك. نجدُ في المسلسل كلًا من السعادة والتعاسة، الضحك والحزن، بالإضافة إلى كلِّ ما يمكن أن يحدث في العلاج وخارجه. إنَّه تحفةٌ فنيَّةٌ نادرة، كتابةً وإخراجًا وتمثيلًا، ستظلُّ خالدة، حتى وإن لم تلق جمهورًا عريضًا وترويجًا إعلاميًّا يرفع منسوبَ المشاهدة. إنَّه مسلسل لكلِّ من يُفتِّش عن الدهشة في كلِّ جملةٍ حواريَّة، يذهب بك بعيدًا ويكشفُ لك عن أماكنَ مجهولةٍ في ذاتك قبل الآخرين.