منذ ولوجه إلى عالم الفنِّ في أواخر الثمانينيَّات، كان اسم فتحي الهداوي ركيزةً أساسيَّةً وثابتةً في المشهد الدراميِّ التونسي والعربي، وقامةً تمثيليَّةً متينةً تنوَّعت أدواره بين العاشق والمثقَّف، وبين الطاغية والمجاهد، متألِّقًا في كلِّ شخصيَّةٍ كما لو أنَّها كُتِبَت على مقاس صوته الرخيم، ووجهه الحامل لتجاعيد الحكايات القديمة.
في التلفزيون التونسي، نقشَ الهداوي اسمه بخطوطٍ واثقة. كان ظهوره المبكر في مسلسل «ليام كيف الريح» (1992) ثم «العاصفة» (1993) و «غادة» (1994) مجرد تمهيدٍ لعقودٍ من التوهج. مسلسلات كـ «قمرة سيدي المحروس» (2002)، و «صيد الريم» (2008)، و «ناعورة الهواء» (2014-2015)، وصولًا إلى «أولاد الغول» (2021) و «الجبل الأحمر» (2023)، جعلت منه أيقونةً دراميَّةً تحظى باحترام الجمهور والنقاد. أمَّا السينما، فقد احتضنته في أعمالٍ عابرةٍ للحدود مثل «صفايح ذهب» (1988) و «عصفور السطح» (1990) و «فرططو الذهب» (2021)، ليبرهن دائمًا على أنَّ صالات العرض لا تقلُّ عن المسارح دفئًا ولا عن الكاميرات بوحًا.
لم يكن فتحي الهداوي ممثِّلًا تقليديًا. كان كاراكتيرًا متكاملًا، يحمل على وجهه شيئًا من التراجيديا، وفي صوته ما يشبه الجبل حين ينكسر بصمت. تشعر في طلَّته بظلٍّ من مارلون براندو: ذاك الغموض الساحر، الهيبة الكامنة، والقدرة على التجلِّي الصامت؛ إلَّا أنَّ ما ميَّز الهداوي حقًا هو أنَّه حمل تلك الملامح الهوليووديَّة، وألبسها عباءةً عربيَّة/تونسيَّة فيها من الحنين ما يكفي، ومن الغضب ما يُشعل المعنى.
لقد امتلك فتحي جسدًا حاضرًا في كلِّ لقطة، وعيونًا تتكلَّم قبل أن ينطق النص، فكان كلَّ وقوفٍ له أمام الكاميرا بيانًا مسرحيًّا بذاته. وبين ملامح الرجولة الصلبة والحساسيَّة المرهفة، انشقَّت شخصيَّته التمثيليَّة كواحةٍ في صحراء الأداء السطحي، فكان مختلفًا، خالدًا.
لم يكن فتحي الهداوي ممثلًا محلِّيًا فحسب، بل كان سفيرًا للتمثيل التونسي في أرجاء الوطن العربي، لا سيَّما في الأعمال التاريخيَّة التي تتطلَّب طاقةً تمثيليَّةً عالية. لقد شارك في مسلسلات «هولاكو» (2002)، «الحجاج» (2003)، «أبو زيد الهلالي» (2005)، «المرابطون والأندلس» (2005) وغيرها من الملحمات التي وثَّقت التاريخَ العربيَّ بعيونٍ دراميَّة.
دائمًا ما كان أداؤه موزونًا ويخلو من المبالغة، لكنَّه مفعمٌ بالحياة. ومع ذلك فإنَّ الإنصاف لم يكن من صفاته المرافِقة، ففي معظم تلك الأعمال، وُضِع في مواضع ثانوية، أو جُعل في هوامش البطولة، رغم أنَّه كان يملك من الكاريزما والموهبة ما يفتح له أبواب المشهد الأوَّل، وكأنَّما ظلَّ حاضرًا في النصوص الكبرى كأثر، لا كصوتٍ يقود السرد.
إذا كان هناك عملٌ واحدٌ اختصر ما يمكن أن يكون عليه فتحي الهداوي في أوج مجده العربي، فهو مسلسل «عمر» (2012) الذي أخرجه الراحل حاتم علي، وفيه جسَّد الهداوي شخصيَّة "أبو سفيان بن حرب"، الزعيم القرشي المتقلِّب، القوي والداهية. لم يكن أداؤه في هذا المسلسل تمثيلًا بقدر ما كان تقمُّصًا، أُسقط فيه كل ما اختزنه من سنوات النضج الفني، وكلِّ ما عرفه من تقلُّبات النفس البشريَّة.
لقد وقفَ إلى جانب ممثِّلين كبار من العالم العربي، لكنَّه كان بينهم كجبلٍ في سهل، لا ينازع أحد هيبته. ومع ذلك لم يُحتفَ به كما ينبغي، ولم تُكتَب حول أدائه المقالات الكافية التي تُنصف ما قدَّمه من عمقٍ وانفعالٍ وحضور نادر.
سؤالٌ مؤلمٌ لكنَّه مشروع: لماذا لم يُعطَ فتحي الهداوي ما يستحقه من التقدير في حياته؟ لماذا لم تُفتَح له أبواب البطولات المطلقة على مصراعيها؟ أهو ظلمُ الجغرافيا؟ أم قِصر نظر صنَّاع القرار؟ أم هو التواطؤ الصامت للمؤسَّسات الثقافيَّة؟ لسنواتٍ ظلَّ الهداوي مرآةً تعكس قوَّة الممثِّل العربي في صورته النقيَّة، دون بهرجةٍ ولا ابتذال. ولكن في المقابل، ظلَّ الإعلام العربي يتعامل معه كما لو كان نجمًا محليًّا بحضورٍ طارئ، لا نجمًا عربيًا متجذِّرًا في ذاكرة الشاشة.
لم يحصل على الجوائز التي تليق بمسيرته، وليس من المستبعد أنَّه لم يُدعَ إلى مهرجانات العالم العربي كضيف شرفٍ دائم. لم يكن اسمه من الأسماء التي تُعرَض في الصف الأول، رغم أنَّه في المضمون كان يتصدَّر كلَّ مشهد.
في الرابع عشر من مايو 2024، ترجَّل الفارس. مات فتحي الهداوي كما عاش: بصمت الكبار الذين لا يحتاجون إلى صخبٍ كي يُسمَع صوتهم. غادرنا تاركًا خلفه تراثًا يستحقُّ أن يُدرَّس، وسيرةً فنيَّةً لا يجوز أن تُهمَل، وذكرياتٍ على الشاشة ما تزال نابضةً بالحياة.
لم يكن نعيه مجرَّد خبرٍ عابر. لقد كان إعلانًا حزينًا عن خسارة مدرسةٍ تمثيليَّةٍ قائمة بذاتها. والآن، وبعد أن أُسدل الستار على رحلته، علينا نحنُ أن نفتح كتابه ونقرأه جيدًا.
لا يحتاجُ فتحي الهداوي إلى رثاء، بل إلى الإنصاف. لا نريد أن يُذكر عند وفاته فحسب، بل أن يُستعاد اسمه كلَّما تحدَّثنا عن التمثيل الصادق، والتقمُّص البديع والشخصيَّة الدراميَّة التي لا تنسى.