«فتاة».. دمعةٌ لم تجد طريقها للسقوط

في أولى تجاربها الإخراجية، تقدّم الممثلة التايوانية شو تشي (Shu Qi) فيلم «فتاة» (2025 - Girl)، عمل يقترب من تراجيديا الطفولة بعين هادئة وواقعية، من دون أي تزويق بصري أو خطاب مباشر. منذ اللحظة الأولى يضعنا الفيلم أمام طفولة هشّة تتشكّل داخل بيئة اجتماعية مضطربة في أواخر الثمانينات في تايوان؛ زمن يتشابك فيه الفقر والاضطرابات العائلية مع أحلام جيل يحاول أن يجد لنفسه مساحة ضوء صغيرة في عالم يبتلعه سريعًا. وفي هذه البيئة الملبّدة، تبرز الطفلة شياو لي مرآةً لجيل لا يُسمع صوته، جيل يعيش على الهامش لكنه يحمل في داخله رغبة عميقة في النجاة.

تتابع شو تشي شخصية شياو لي التي تعيش داخل بيت خانق يطغى عليه العنف والعوز. لا يقدّم الفيلم الطفولة بوصفها مساحة للبراءة، بل كحقل تُزرع فيه مخاوف المستقبل منذ اللحظة الأولى. العنف هنا ليس حادثًا عابرًا، بل بنية يومية تحاصر الطفلة وتعيد تشكيل وعيها المُبّكر بطريقة يصعب مداواتها. هذا العنف سواء أكان لفظيًا أو جسديًا أو نفسيًا  يتحوّل إلى عنصر مركزي في بناء الشخصية؛ ليس مجرد خلفية درامية، بل محرّك أساسي لكل انعطافات حياة شياو لي.

ومع ذلك، يدخل الضوء إلى حياة الطفلة حينما تتعرّف على زميلتها الجديدة لي لي، الفتاة المتمرّدة التي تشبه صورة الحلم، تتمتع بحرية وجرأة وقدرة على تخيّل مستقبل مختلف. تصبح لي لي نافذة تطلّ منها شياو لي على عالم آخر، وتتحول صداقتهما إلى مساحة صغيرة للتنفس وسط عزلة خانقة. لهذا تظهر لي لي ليس فقط كشخصية مساندة، بل كرمز لما يمكن أن تكون عليه الطفولة لو لم تُكسر أجنحتها مبكرًا. إنها ليست مجرد صديقة، بل الاحتمال الذي لم يكن ممكنًا.

ومن خلال العلاقة بين الطفلتين، يفتح الفيلم أبواب أسئلة أكبر: كيف يتكوّن الأمل داخل طفل يعيش في بيئة معادية؟ وكيف يمكن لعلاقة بسيطة، قائمة على اللعب والرفقة، أن تعيد تشكيل جزء من وعيه؟ تمثل لي لي الإمكانية، أما شياو لي فتمثل الواقعية الثقيلة التي يحكمها القيد الاجتماعي والسلطة الأسرية والعنف المتجذّر.

يعتمد الفيلم على سرد هادئ ومتماسك، يتجنب المبالغة ويتكئ على تفاصيل صغيرة من نظرة، وصمت، وارتباك طفلة تحاول فهم عالم أكبر منها. ورغم أن الإيقاع يميل أحيانًا إلى البطء، إلا أن هذا البطء في ذاته جزء من الأسلوب؛ وكأنه يسمح للمشاهد بأن يعيش اختناق الطفلة ومعاناتها اليومية التي لا تتغيّر. الزمن يتمدّد لأن الألم يتمدّد، ولأن الطفولة حين تُجرح تصبح محصورة في لحظات تبدو بلا نهاية.

اختيارات شو تشي البصرية لافتة: ضوء طبيعي، ألوان مطفأة، وحركة كاميرا تلتزم القرب من وجه الطفلة، كأنها تمنحها مساحة لم تبح بها الكلمات. الكاميرا تراقب ولا تتدخل؛ تتأمل ولا تُدين. هذه المسافة الهادئة بين المخرجة وشخصيتها الأساسية تمنح الفيلم صدقه، إذ يبتعد عن الاستدرار العاطفي ويقترب من تسجيل واقعي لمعنى النمو في مكان لا يسمح بذلك. هذا الحس البصري كان أحد أسباب حضور الفيلم في مهرجان البندقية 2025، حيث نال إشادات واسعة بفضل واقعيته المؤثرة، رغم أن بعض النقاد أخذوا عليه محدودية بناء الشخصيات الثانوية التي لم تُمنح مساحة كافية للتطور.

العنف المبالغ فيه الذي يعيق عملية النمو الطبيعية للطفل يظهر في الفيلم بلا مواربة أو إسفاف. لا يحاول العمل تخفيف حدّته، بل يقدّمه جزءًا من الحقيقة التي ستظل تطارد شياو لي في مستقبلها. لقد وُضع العنف في الواجهة، لتُضاء أسئلته: كيف تترجم طفلة مثل شياو لي كل ما تتلقاه من ضرب وإهانات وإهمال؟ وكيف تتحول هذه التجارب إلى ندوب نفسية تغيّر نظرتها للحياة؟ فالطفل في سنوات ما قبل البلوغ يأكل ويلعب ويدرس ويمارس حياته من دون امتلاك الأدوات النفسية للتعامل مع ضغط هائل لا يستطيع تفسيره أو مواجهته. هنا تكمن مأساة الفيلم: في أنّ الوعي يبدأ بالتشكّل قبل أن ينضج.

وحين تظهر لي لي في حياة شياو لي، يتحول الفيلم فجأة إلى زهرة تتفتح. أشعلت لي لي في داخلها شعورًا جديدًا: أن الحياة يمكن أن تُعاش بطريقة مختلفة، مهما كانت قاسية. دخلت مثل شرارة، لكن الشرارة لم تستطع إطفاء الجروح العميقة. وعلى الرغم من الحلم الذي حاولت شياو لي الإمساك به، إلا أنها تختار في النهاية مسارًا يعيدها إلى الألم نفسه، ولكن بوعي جديد. هذه العودة ليست استسلامًا، بل اعترافًا أن الواقع أقوى من الأحلام الصغيرة، وأن بعض الأطفال يُجبرون على أن يكبروا قبل أوانهم.

في المشاهد الأخيرة، تبدو شياو لي كأنها تحمل وجهين: وجه طفلة تبحث عمّن ينقذها، ووجه شابة تتعلم ببطء كيف تدافع عن نفسها. هذا التناقض هو جوهر الفيلم: طفولة تُسرق، ونفس تُعاد صياغتها بالقسوة، وحلم صغير يظل يقاوم ولو من بعيد.

«الفتاة» ليس فيلم أحلام، بل فيلم عن الحلم حين يصبح ترفًا. محاولة لفهم كيف يتكوّن اليأس داخل طفل، وكيف يمكن لصديق واحد أن يمنح معنى لحياة محاصرة. فيلم عن القسوة التي تُورَّث، وعن الأمل الذي يرفض أن يختفي ولو كان هشًا ومتردّدًا وبلا ضمانات.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى